يعود ملف ترسيم الحدود السورية – اللبنانية إلى الواجهة مجددًا، بعد تسلُّم لبنان نسخة من وثائق وخرائط أرشيف فرنسا، للاستفادة منها في ترسيم الحدود البرية مع جارته سوريا، بهدف فرض السيادة المشتركة، وتعزيز أمن واستقرار طرفي الحدود، التي لا تزال تعيق مسار بناء العلاقات الاستراتيجية بعد خروجهما من فوهة الحرب.
وسلَّم سفير فرنسا لدى لبنان، هيرفيه ماغرو، لوزير الخارجية اللبناني، يوسف رجي، في 8 مايو/أيار الجاري، نسخة من وثائق وخرائط الأرشيف الفرنسي الخاص بالحدود، حسب ما أكد بيان وزارة الخارجية اللبنانية.
واعتبرت وزارة الخارجية أن تقديم فرنسا وثائق وخرائط من أرشيفها جاء بناءً على طلب لبنان، وعلى الوعد الذي قطعه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للرئيس اللبناني، جوزيف عون، خلال زيارته الأخيرة إلى باريس، مشيرةً إلى أن هذه الوثائق والخرائط ستساعد لبنان في عملية ترسيم الحدود البرية مع سوريا.
ويأتي تسليم الخرائط الفرنسية إلى الجانب اللبناني بعد ساعات من زيارة الرئيس السوري، أحمد الشرع، في 7 أيار/مايو الجاري، إلى العاصمة الفرنسية باريس، في زيارة هي الأولى من نوعها، حيث ناقش خلالها مع نظيره الفرنسي عدة ملفات، من بينها أمن الحدود والعلاقات السورية – اللبنانية.
عودة فتح ملف ترسيم الحدود جاء بعد اشتباكات مسلحة بين مجموعات عشائرية تنتمي لميليشيا حزب الله اللبناني من جهة، والجيش السوري الجديد من جهة أخرى، على خلفية اختطاف الأولى، ثلاثة عناصر من قوات الجيش السوري قرب سد قرية زيتا بريف حمص الغربي المحاذي للحدود اللبنانية، ونقلهم إلى قرية القصر اللبنانية وتصفيتهم ميدانيًا.
وسبق ذلك، في شباط/فبراير الماضي، وقوع اشتباكات في قرية حاويك السورية بين قوات تابعة للجيش السوري ومجموعات مسلحة من العشائر، أسفرت عن سقوط قتلى وأسرى من الجانبين، ليتم لاحقًا تنفيذ عملية تبادل بعد تدخل الجيش اللبناني. وجاءت هذه الاشتباكات في أعقاب إعلان وزارة الداخلية السورية عن ملاحقة فلول نظام الأسد البائد، ومكافحة تهريب مخدر الكبتاغون.
وعقب ذلك تدخلت قوات الجيش اللبناني وسلمت جثامين العناصر للجانب السوري، قبل أن يتوصل وزيري الدفاع السوري واللبناني إلى اتفاق وقف إطلاق النار، في حين، وقع الجانبان اتفاقًا أمنيًا، في مدينة جدة في المملكة العربية السعودية، حيث ضم كل من وزير الدفاع السعودي، خالد بن سلمان بن عبد العزيز، ووزير الدفاع السوري، مرهف أبو قصرة، ووزير الدفاع اللبناني، ميشال منسى.
وأكد الطرفان السوري واللبناني، على أهمية ترسيم الحدود بين الدولتين، وتشكيل لجان قانونية متخصصة للتعاون والتنسيق بين الجانبين بهدف التعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية، لا سيما تلك المتعلقة بالحدود البرية المشتركة.
خلاف تاريخي
يبلغ طول الحدود البرية بين سوريا ولبنان نحو 375 كيلومترًا، وتمتد من هضبة الجولان السوري المحتل، وصولًا إلى محافظة طرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وتتميز بتضاريس صعبة معقدة، فضلًا عن تداخل ديموغرافي نتيجة انقسام العائلات العشائرية التي تسكن المنطقة بين حدود البلدين.
ويعود ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان إلى فترة الانتداب الفرنسي، حيث رسمت فرنسا حدود دولة لبنان الكبير لأول مرة عام 1921، ما أدى إلى تداخل في المناطق الحدودية. ورغم استقلال لبنان عام 1943 وسوريا عام 1946، بقيت الحدود محل خلاف بين البلدين، لا سيما في منطقة مزارع شبعا التي تبلغ مساحتها نحو 25 كيلومترًا مربعًا، وتقع بين هضبة الجولان المحتلة ولبنان، وتتميز بموقع جغرافي استراتيجي.
وتؤكد خرائط فرنسية من مارس/أذار 1932 أن منطقة مزارع شبعا جزء من لبنان، بينما تظهر خارطة فرنسية عام 1946 أنها جزءًا من سوريا، وخضعت المنطقة فعليًا لإدارة سورية منذ الاستقلال حتى احتلالها من قبل إسرائيل مع هضبة الجولان السورية عام 1967.
وطالبت السلطات اللبنانية بفرض سيادتها على مزارع شبعا، إلا أن الأمم المتحدة لم تُلزم إسرائيل بالانسحاب منها، باعتبارها جزءًا من الأراضي السورية المحتلة وفق اتفاقية فك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل عام 1974.
وعندما رُسمت الحدود اللبنانية الجنوبية عام 2000، بعد سلسلة اجتياحات إسرائيلية للجنوب اللبناني، لم تشمل الأمم المتحدة منطقة مزارع شبعا ضمن تلك الحدود، واعتبرت أن مصيرها يرتبط بحل النزاع بين إسرائيل وسوريا.
بينما أصر حزب الله اللبناني آنذاك، ومن خلفه الحكومة اللبنانية على أن مزارع شبعا أرضًا لبنانية محتلة، وتحظى بدعم من نظام الأسد، في المقابل، تتهرب إسرائيل من المطالبات اللبنانية بأنها أرض سوريا، لتبقى مزارع شبعا ذريعة حزب الله اللبناني بهدف استمرار وجود المقاومة ضد إسرائيل.
حدود متداخلة
ورغم أن ملف ترسيم الحدود البرية بين سوريا ولبنان فُتح بعد سقوط نظام الأسد البائد، إلا أنه ليس جديدًا، إذ طُرح سابقًا على طاولة المفاوضات السورية – اللبنانية منذ سنوات. وكان الجانب اللبناني قد طالب النظام السوري بفتح هذا الملف، لكن الأخير تلكأ وامتنع عن الترسيم لسببين رئيسيين.
وكانت أول محاولة لترسيم الحدود من قبل رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في 2010، بعد اجتماعه مع بشار الأسد، بهدف إعادة النظر في عدد من الاتفاقيات المعقودة بين البلدين، بموجب “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق” التي وقعها عام 1991 كل من الرئيس اللبناني، إلياس الهراوي، وحافظ الأسد.
في البداية، لم يعترض نظام الأسد على مطالب لبنان بترسيم الحدود بين البلدين، وبدأ الطرفان فعليًا بإعداد الخرائط الجوية والوثائق الخاصة بالحدود. إلا أن الجانب السوري اقترح أن تبدأ عملية الترسيم من منطقة جنوب الليطاني، حيث تقع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلتان.
إلا أن مطالب الأسد أدت إلى تعطيل الاتفاقية، نتيجة صعوبة بدء الترسيم من مزارع شبعا لأنها تخضع لسيطرة إسرائيل التي ترفض الانسحاب منها، ولا تتجاوب مع تطبيق القرار الأممي 1701، لعام 2006. في حين، طالب نظام الأسد في تأجيل المفاوضات، إلى أن قرر بشكل رسمي صرف النظر عنها دون أن يحدد موعدًا لانطلاقها.
صحيفة الشرق الأوسط، أكدت في عام 2020، أن ملف ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان، قديم ومطروح على الطاولة منذ عام 2006، إلا أن نظام الأسد وقف في وجه ترسيم الحدود، لسببين رئيسيين، الأول، يعود إلى مسألة مزارع شبعا التي شكلت ذريعة لبقاء الوضع متأرجحًا على الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية، واستدامة انخراط سوريا في أي عملية تفاوضية تخص الملف.
أما السبب الثاني، فجاء بعد اندلاع الثورة السورية، ويتعلق بقانون “قيصر” الذي فرضت بموجبه الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات اقتصادية على نظام الأسد وكل من يتعامل معه. فقد وجد النظام في بقاء الحدود اللبنانية على وضعها الحالي فرصةً للالتفاف على العقوبات، من خلال تهريب المواد النفطية عبر هذه الحدود. كما تحولت المناطق الحدودية البرية إلى ممر نشط لتهريب السلاح والمخدرات، بالتنسيق مع ميليشيا حزب الله اللبناني.
وتربط بين سوريا ولبنان 6 معابر برية رسمية تستخدم للحركة التجارية والمدنية، وهي، معبر جديدة يابوس، ومعبر تلكلخ، ومعبر الدبوسية، ومعبر العريضة، ومعبر القاع، ومعبر مطربا، بينما تضم الحدود اللبنانية السورية، نحو 17 معبرًا غير شرعيًا في عهد نظام الأسد البائد، وتملكها عشائر تحصل على حماية من حزب الله، حيث تعرف معابر التهريب بأسماء العشائر.
واستفاد نظام الأسد من جهة وميليشيا حزب الله اللبناني من جهة أخرى من عدم ترسيم الحدود البرية بين لبنان وسوريا طيلة السنوات الماضية، حيث تحولت إلى بؤرة لتصريف المخدرات والأسلحة بالإضافة إلى مرور عناصر حزب الله نحو سوريا، لدعم إجرام النظام، ومرور الميليشيات الإيرانية نحو الأراضي اللبنانية.
أهمية ترسيم الحدود بين البلدين
تُعد مسألة تسليم فرنسا وثائق وخرائط تتعلق بالحدود اللبنانية – السورية جزءًا من مسار ترسيم الحدود، وهو ملف يستغرق وقتًا لتطبيقه عمليًا، لكنه في المحصلة يصب في مصلحة البلدين الجارين، عبر تعزيز الاستقرار، وتحييد الميليشيات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة، والحد من نشاط التهريب.
ويرى الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أسامة الشيخ علي أن المملكة العربية السعودية وفرنسا ترعيان الملف السياسي في لبنان، فالسعودية رعت اتفاق الطائف الذي أدى إلى تشكيل النظام السياسي القائم في لبنان، بينما تعتبر فرنسا نفسها راعية للنظام السياسي، وتعمل على استقراره، إلى جانب الحفاظ على نفوذها في لبنان وسوريا.
ويقول الشيخ علي خلال حديثه لـ “نون بوست”: “إن اتفاقية ترسيم الحدود مهمة للجانبين السوري واللبناني، لأن نظام الأسد البائد، لم يحترم السيادة اللبنانية، وكان يتدخل في شؤونها الداخلية، وتوجه الحكومة السورية الإيجابي يعطي انطباعًا أن سوريا تحترم استقلالية لبنان وقيادتها ولا تتدخل في شؤون دول الجوار”.
وأضاف، أن ملف ترسيم الحدود محاولة لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي فيما يتعلق بمزارع شبعا اللبنانية التي تعتبر ذريعة لميليشيا حزب الله اللبناني بهدف استمرار المقاومة، وتمسكه في عدم تسليم السلاح للجيش اللبناني لما يسميها بـ “السيادة الوطنية”، وسط الضغوط الدولية المستمرة على الحكومة اللبنانية بهدف سحب السلاح.
وتابع، أن ترسيم الحدود مهم جدًا خاصًة بالنسبة للبنان للتأكيد على سيادته، وانتهاء حقبة التدخل السوري في شأنه الداخلي، وله تأثير كبير من الناحية الدولية حيث يعطي مؤشرات أن الحكومة السورية تحترم دول الجوار ولا تنوي السير وفق سياسة النظام البائد.
وكشفت مصادر لجريدة المدن اللبنانية، أن الخرائط الفرنسية التي استلمها لبنان، تعود إلى الانتداب الفرنسي عام 1943، وأعدت بإشراف اختصاصيين في الجغرافيا وترسيم الحدود، ويمكن اعتمادها كمستند في عملية ترسيم الحدود بين البلدين، لإنهاء الصراع المستمر على الحدود البرية، خاصة مزارع شبعا، وبالتالي انتهاء مشروعية وجود المقاومة من قبل حزب الله اللبناني.
ويرى الباحث، عرابي عبد الحي عرابي، أن الاتفاقية تمثل خطوة حاسمة نحو ضبط الأمن في المناطق الحدودية المتوترة، كما أنها تعزز السيادة الثنائية وتحد من الفوضى الناتجة عن المعابر غير الرسمية التي استخدمها حزب الله اللبناني في تهريب السلاح والمخدرات.
ويضيف خلال حديثه لـ “نون بوست”، أن الاتفاقية تفتح باب تعاون وتنسيق بين الجيشين السوري واللبناني، وبالتالي تقليص شرعية أي نشاط مسلح خارج مؤسسات الدولة بما فيها فلول النظام السابق، بالنسبة للدولة السورية، وميليشيا حزب الله بالنسبة للبنان، وبالتالي تحييد حزب الله، ما يسهم في تغيير المعادلة الأمنية لصالح الاستقرار ويؤسس لرقابة حدودية أكثر فاعلية وشفافية تحت مظلة دعم دولي.
ختامًا.. تبدو مسألة ترسيم الحدود البرية اللبنانية – السورية، ضرورة لا بد منها، لأنها تهدف إلى تحقيق مصالح الجانبين السوري واللبناني، من خلال حفظ أمن واستقرار البلدين، كما أنها تخلصهما من عمليات تجارة المخدرات والسلاح وتهريب البشر، إضافة دورها في تحييد ميليشيا حزب الله اللبناني.