بعد سنوات من اللجوء في إسطنبول، قرر أبو محمد العودة مع عائلته إلى دمشق، محمّلًا بآمال العودة واستعادة الجذور، لكن سرعان ما تبددت تلك الآمال مع بدء رحلة البحث عن منزل، إذ تبيّن أن أسعار الإيجارات في دمشق باتت تضاهي، ما اعتاده في إسطنبول.
ففي حين كان “أبو محمد” يقيم في إسطنبول ويستأجر شقة بمواصفات جيدة مقابل نحو 550 دولارًا شهريًا، تفاجأ عند زيارته دمشق بارتفاع كبير في أسعار الإيجارات، حيث تجاوز متوسط إيجار المنازل في الأحياء المركزية، بما في ذلك القديمة والمتهالكة منها، 800 دولار، رغم محدودية المعروض ووجود شروط تأجير صارمة في كثير من الأحيان.
تُعدّ أزمة المسكن واحدة من أبرز التحديات التي تواجه العائلات العازمة على العودة إلى سوريا في أعقاب سقوط الأسد، وباتت الخيارات السكنية محصورة في نطاق جغرافي ضيق لا يتناسب مع الأعداد المتزايدة للراغبين في العودة. هذا الخلل بين العرض والطلب ساهم في ارتفاع كبير بأسعار الإيجارات، لتتحول مهمة تأمين السكن المناسب إلى عبء جديد يثقل كاهل العائدين، ويهدد استقرارهم المنشود في وطنهم.
ما الذي يرفع أسعار الإيجارات؟
لم يكن الريف السوري في وضعٍ جيد حتى قبل اندلاع الثورة، إذ عانى لعقود من التهميش وضعف البنى التحتية، وازداد وضعه سوءًا بفعل سنوات الثورة والقصف الذي دمّر جزءًا كبيرًا منه، ودفع الآلاف إلى النزوح نحو المدن بحثًا عن الأمان والحد الأدنى من مقومات الحياة.
بعد سقوط الأسد، عاد كثير من اللاجئين والنازحين إلى الداخل، واضطر الكثير منهم إلى التوجه نحو المدن الكبرى مثل دمشق وحلب، إضافةً إلى انتقال عدد كبير من مؤسسات المجتمع المدني وعدد من المؤسسات الإعلامية والبحثية إلى تلك المدن لافتتاح مكاتب ومقرات فيها. وقد زاد هذا التدفق السكاني من الضغط على المدن، التي كانت تعاني مسبقًا من اكتظاظ شديد بسبب موجات النزوح الداخلي، مما أدى إلى ارتفاع الطلب على السكن بشكل كبير، وأدى إلى قفزة كبيرة في أسعار الإيجارات، وفاقم من أزمة السكن فيها.
تحوّلت سوق الإيجارات إلى ساحة للمضاربة والاستغلال، استغل المالكون وأصحاب المكاتب العقارية فيها هشاشة الوضع لفرض شروط مجحفة على المستأجرين، كما زادت الأزمة النقدية من تعقيد المشهد، ولجأ الكثير من الملّاك إلى تسعير العقار بالدولار مع فرض الدفع بالليرة السورية، وذلك لقلة النقد الموجود، وبات من المألوف اشتراط الدفع المسبق لفترات تمتد إلى ستة أشهر أو حتى سنة، في وقت تعجز فيه كثير من العائلات عن تأمين احتياجاتهم الأساسية، فضلًا عن أنّ هذه المبالغ الكبيرة تُقدَّم مقابل سكن متواضع أو متهالك في كثير من الأحيان.
العائدون بين أطلال المنازل وأسعار الإيجارات
تمتلك رهف وزوجها، العائدان مؤخرًا إلى سوريا، منزلًا في منطقة الهامة الواقعة في ريف العاصمة، إلا أنّ المسكن يفتقر إلى الأثاث والخدمات الأساسية. تقول رهف: “المنزل بحاجة إلى تجهيز كامل، ولا تتوفر في محيطه مرافق قادرة على تلبية احتياجاتنا اليومية، ما يجعل الإقامة فيه شديدة الصعوبة”.
رغم ذلك، يواصل الزوجان البحث عن منزل للإيجار داخل دمشق، على مقربة من مدارس أطفالهما الواقعة في حي الجسر الأبيض، لكن الصدمة كانت في الأسعار. توضح رهف: “طلبت المكاتب العقارية أكثر من 800 دولار شهريًا مقابل شقة صغيرة ومتهالكة، تُسعَّر الإيجارات بالدولار، لكن يُشترط دفعها نقدًا بالليرة السورية، ما يضاعف العبء المالي بشكل كبير”.
في حلب، لا يبدو المشهد أفضل حالًا، ورغم أن العديد من الأسر تفكر في العودة، إلا أنّ الإيجارات المرتفعة تعيق هذه الخطوة، ففي حي سيف الدولة تتراوح الإيجارات بين 20 إلى 30 مليون ليرة سنويًا، وتُلزم العقود المستأجر غالبًا بالدفع السنوي. وحتى في الأحياء التي تضررت بفعل الحرب، ترتفع الأسعار بلا ضوابط، ولا تعكس حال البنية التحتية المتردية.
في مدينة حماة، والتي لم تتعرض لدمار واسع، تفاجئ الإيجارات الباحثين عن سكن بأسعارها المرتفعة. تقول منى، وهي موظفة في القطاع العام: “أبحث عن منزل متواضع لأسرتي، لكن معظم العروض تبدأ من مليون ليرة شهريًا، وتُحتسب الإيجارات وفق سعر صرف الدولار، رغم تواضع الخدمات في معظم الأحياء”.
أما في درعا، فيلجأ العديد من العائدين إلى الإقامة المؤقتة لدى أقاربهم حتى ترميم بيوتهم المتضررة، بدلًا من اللجوء إلى الإيجار. يقول أبو طلال: “اضطررت للسكن مؤقتًا لدى أقاربي، بعد أن تفاجأت بارتفاع الإيجارات بشكل كبير، بينما يحتاج المنزل الذي أملكه إلى أعمال ترميم شاملة”. يشير أبو طلال أيضًا إلى غياب الخدمات الأساسية، كالمياه والكهرباء، في كثير من الأحياء، ما يجعل الإقامة المؤقتة لدى الأقارب خيارًا أكثر واقعية، وإن كان مرهقًا.
تكشف هذه الشهادات أن العودة إلى الداخل لا تعني نهاية النزوح، ففي ظل الغلاء المتصاعد، وغياب الخدمات، ومحدودية الدخل، تستمر غربة العائدين، ولكن هذه المرة من داخل الوطن.
أين تكمن جذور الأزمة في نظر الخبراء
لدى سؤال الدكتور عرابي عبد الحي، الباحث في مركز جسور للدراسات، أوضح أن السبب الرئيسي في ارتفاع الأسعار هو الطلب الشديد، مشيرًا إلى أن السوق يتحرك بحسب التوقعات، فكلما توقّع السوق عودة أعداد كبيرة، ارتفعت الأسعار تلقائيًا، مضيفًا أنه لا يمكن ضبط السوق بالقانون، ورأى أن الحل العملي هو الإسراع بإعادة الإعمار ومنح التراخيص للبناء، سواء للأفراد أو الشركات، بما يخفف من حدّة الغلاء.
من جهته، يرى الخبير العقاري المهندس براء بادنجكي أن الطفرة التي شهدها سوق الإيجارات وشراء العقارات في سوريا بعد سقوط النظام لم تكن نتيجة عامل واحد، بل جاءت نتيجة تراكب عدة عوامل، فمع سقوط الأسد ظهرت موجة تفاؤل وعودة داخلية وخارجية شجعت كثيرين على التفكير بالاستقرار مجددًا، مما أدى إلى ارتفاع كبير في الطلب على السكن، في وقت كان المعروض فيه منكمشًا بشكل حاد نتيجة الدمار الواسع وغياب المخططات التنظيمية.
وأوضح بادنجكي أن العقار تحوّل في مرحلة ما قبل سقوط الأسد إلى ملاذ آمن للمدخرات، في ظل غياب الثقة بأي نشاط اقتصادي منتج، وهو ما دفع كتلًا نقدية كبيرة إلى التجميد داخل السوق العقارية، وأسهم في خلق حالة من الاحتكار والمضاربة، فضلًا عن غياب الاستقرار المالي والتعامل غير المنظّم بالدولار. وقد تفاقم الوضع مع غياب القوانين الناظمة للعلاقة بين المالك والمستأجر، وانتشار الجشع في بعض حلقات الوساطة العقارية.
ولمعالجة هذه الأزمة، اقترح بادنجكي حزمة متكاملة من الإجراءات الإسعافية والاستراتيجية، إذ يوصي بتأسيس هيئة عقارية على غرار “دائرة الأراضي والأملاك في دبي”، تتولى ضبط السوق، وتحديد مؤشر للإيجارات يتناسب مع متوسط دخل الفرد، إلى جانب إطلاق منصة حكومية تُتيح شفافية الأسعار، وفرض تنظيمات تمنع الزيادات العشوائية في الإيجارات وتقيّد التأجير السياحي المفروش.
أما الإجراءات الاستراتيجية بعيدة المدى، فشملت – بحسب رؤيته – إطلاق مشاريع إسكان جماعي موجهة لذوي الدخل المحدود، وتفعيل أنظمة تطوير عمراني كتلك التي طُبِّقت في تركيا مثل (Kentsel Dönüşüm) لإعادة إعمار المناطق المتضررة بشراكات عادلة مع السكان، فضلًا عن إقامة مدن إسكانية جديدة في أطراف المدن الكبرى، وتنظيم العلاقة القانونية بين المالك والمستأجر، وتأسيس مركز لفضّ النزاعات الإيجارية.
وختم بادنجكي مداخلته بالتشديد على أن “تنظيم السوق العقاري لا يُعدّ ترفًا، بل يمثل ضرورة وطنية لضمان استقرار المجتمع وكرامته، وهو ما يشكّل ركيزة لأي نهضة اقتصادية قادمة. فما لم تتم إعادة تنظيم هذا السوق بإرادة حقيقية وقوانين واضحة، ستظل الأزمة تراوح مكانها، وستسهم في تعميق الاحتكار.”
في ردّه عن سؤال حول أزمة الإيجارات، أوضح رئيس بلدية داريا، السيد محمد جعنينة، أن سوق الإيجارات غير مضبوط حاليًا، ولا توجد قرارات صادرة من الجهات الرسمية أو المحافظة لتنظيمه، مشيرًا إلى أن المسألة تعتمد على العرض والطلب، ولا توجد حدود معينة يُلزَم فيها صاحب العقار بتأجير منزله.
واقترح جعنينة أن يُشكّل ترميم المنازل المتضررة والمنهوبة أحد الحلول الواقعية لأزمة السكن، خاصةً أن العديد من السوريين داخل وخارج سوريا يمتلكون مساكن تحتاج إلى أعمال تأهيل أساسية تشمل النوافذ والأبواب والكهرباء والمياه والأرضيات، وهي نفقات تفوق قدرة معظمهم في الوقت الحاضر. ودعا إلى تدخل جهات داعمة ومحلية لتبنّي مشاريع ترميم هذه المساكن، معتبرًا أن ذلك يشكّل أحد الحلول الناجعة لمشكلة الإيجارات المرتفعة.
هل يكمن الحل في الريف؟
يبدو التوسّع في الريف السوري هو الخيار العملي الأقرب لحل أزمة السكن، خاصةً مع الغلاء الكبير في المدن وندرة الخيارات المناسبة، ولكن هذا الخيار لن يتحقّق دون خطوات جدّية لإعادة تأهيل القرى والمناطق الريفية، ويبدأ ذلك بتحسين الخدمات الأساسية مثل: الطرق، والكهرباء، والمياه، والتعليم، والصحة، والمواصلات، لتصبح هذه المناطق صالحة للعيش.
ويمكن أن تساهم إجراءات بسيطة وفعّالة، مثل: تخفيف الضرائب على مشاريع البناء، وتسهيل التراخيص، وتقديم نماذج جاهزة للبناء، في تسريع عودة الناس وبناء منازلهم. كما أن منح المجالس المحلية دورًا أكبر في إدارة شؤونها، والتخطيط بما يناسب طبيعة كل منطقة، يساعد في خلق بيئة مستقرة ومتوازنة.
ويمكن الاستفادة في هذا السياق من التجربة التركية عقب زلزال كهرمان مرعش، إذ عمدت السلطات إلى بناء آلاف الوحدات السكنية وتسليمها للمتضررين خلال أشهر قليلة، بفضل تصاميم البناء الجاهزة، وسرعة التنفيذ، وتسهيل الإجراءات الإدارية.