حجبت هيئة الإعلام الأردنيّة 12 موقعًا إخباريًا، من أبرزها: “نون بوست”، “ميم مرآتنا”، “رصيف 22″، “Middle East Eye”، “الشعوب”، “عربي 21″، “رصد”، “عربي بوست”، و”صوت الأردن”، زاعمةً أنها “تبثّ السموم الإعلامية وتهاجم الأردن ورموزه الوطنية”، وذلك استنادًا إلى الصلاحيات القانونية الممنوحة لها في إطار “الحفاظ على الأمن الإعلامي الوطني، والتصدي لمحاولات التشويش على استقرار الأردن، والإساءة لرموزه السياسية والاجتماعية والوطنية”.
ورغم أن المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي يُعدّ الأردن طرفًا فيه، تنصّ بوضوح على حق كل فرد في حرية التعبير، بما في ذلك الحق في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقّيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو فني أو بأية وسيلة أخرى، إلا أن هذا الحق يُواجه تضييقًا فعليًا حين تُفرض قيود فضفاضة لا تستوفي الشروط المنصوص عليها في الفقرة الثالثة من المادة نفسها، والتي تشترط أن تكون هذه القيود “ضرورية” و”محددة” و”متناسبة” مع الهدف المشروع.
وفيما يسمح العهد بفرض قيود في حالات استثنائية، مثل التحريض على العنف أو الكراهية، إلا أنَّ توسيع هذه القيود ليشمل الخطاب المهني والمستقل يُعدّ إخلالًا جوهريًا بالمعايير الدولية، خاصةً أن الهيئة لم تقدّم أية مبررات قانونية مفصّلة أو تحديد محتوى بعينه يشكّل “إساءة”، بحسب ادعائها.
هذا الغموض يفتح الباب أمام تسييس الرقابة وتحويلها إلى أداة لكبت النقد، لا سيّما حين يتعلّق الأمر بأداء الدولة أو السياسات العامة أو أوضاع حقوق الإنسان، فقد استندت الهيئة إلى ذريعة “الحفاظ على الأمن الإعلامي الوطني”، وهي عبارة وردت في المادة (4) من قانون الجرائم الإلكترونية الأردني، لكنها تُستخدم في الغالب بطريقة فضفاضة لتبرير تقييد الحريات، وعلى رأسها حرية التعبير وحق الوصول إلى المعلومات.
ويأتي الحظر بعد أن نشر موقع “Middle East Eye” تقريرًا قال فيه إن “الأردن حقق أرباحًا كبيرة من تنسيق دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة”، وهو ما نفاه وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة، محمد المومني، واصفًا ما ورد في التقرير بأنّه “تزييف للحقائق وافتراءات”، في إشارة إلى ما نُشر حول جهود الهيئة الخيرية الهاشمية.
حريّة الإعلام في الأردن
تراجع الأردن 15 مرتبة في تصنيف حرية الصحافة العالمي الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود“، ليحلّ في المرتبة 147 من أصل 180 دولة، ما أثار انتقاداتٍ واسعة، خاصة في ظلّ تقدم دول تواجه أزمات سياسية واقتصادية حادة، مثل زيمبابوي ورواندا وسيراليون، على الأردن في التصنيف.
يُعزى هذا التراجع بشكل أساسي إلى القيود المفروضة على الصحفيين، لا سيّما من يغطّون تطورات الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة؛ إذ يُستخدم قانونٌ سالبٌ للحرية ضدهم، ما يجعل الأردن يقترب تدريجيًا من ترتيب دول تعاني من انهيار شبه تام في البيئة الصحفية، مثل اليمن.
ويُشير التقرير إلى أن المشهد الإعلامي الأردني يضمّ مؤسساتٍ متنوّعةً، تشمل القنوات الحكومية مثل “المملكة”، والخاصة مثل “رؤيا”، إلى جانب الإذاعات المجتمعية والمواقع الإخبارية الإلكترونية، ورغم هذا التنوّع الظاهري، إلا أن التعددية الإعلامية ما تزال محدودة فعليًا، خاصة في تناول المواضيع المتعلقة بحقوق المرأة، والمكونات المجتمعية المختلفة، مثل الفلسطينيين والشركس والمسيحيين والدروز.
كما يرى أن الصحافة في الأردن لم تحقق بعدُ الاستقلال المهني والمؤسسي، ويلفت إلى أن السلطات الأردنية تفرض سيطرتها على وسائل الإعلام من خلال تعيين كبار المسؤولين فيها، مثل رؤساء تحرير الصحف الرسمية، ومديري مؤسسات الإعلام الحكومية، إلى جانب التأثير المالي الذي يحدّ من استقلالية وسائل الإعلام الخاصة.
كما تُمارَس التغطية الإعلامية بشكل غير متوازن، إذ تحظى بعض المنابر بامتيازات نتيجة قربها من جهات عسكرية أو رسمية، في حين تُمنع وسائل الإعلام الأخرى بانتظام من تغطية قضايا رئيسية، كملفات الفساد والجريمة.
أمّا من الناحية القانونية، فقد أشار إلى أن التعديلات التي طالت قانون المطبوعات والنشر في عام 2012، وسّعت من صلاحيات الرقابة على المحتوى الرقمي، مّا أدّى إلى حجب مئات المواقع، كما منح قانون الجرائم الإلكترونية الجديد، الذي أُقرّ في أغسطس/ آب 2023، السلطات أدوات إضافية لتقييد حرية التعبير، تحت مبرّرات مثل “مكافحة الأخبار الكاذبة” و”حماية الوحدة الوطنية”، وأدّى ذلك إلى تنامي ظاهرة الرقابة الذاتية بين الصحفيين، خشية التعرّض للملاحقة القانونية.
ووثّق التقرير ممارساتٍ متكرّرةً من قبل أجهزة المخابرات، تشمل استدعاء الصحفيين واشتراط التزامهم الصمت مقابل إطلاق سراحهم، في مناخ يتّسم بغياب الشفافية وتنامي التضييق على العمل الإعلامي.
وفي بيانٍ نشرته المنظمة العربيّة لحقوق الإنسان، قالت إنّه في وقت تُشدّد فيه الحكومة الأردنية على “مكافحة الأخبار المضلّلة”، تُمارَس إجراءات تمسّ جوهر الشفافية والمصداقية الإعلامية، عبر فرض حجب شامل على مصادر إعلامية بديلة تفتح المجال أمام جمهورٍ متنوّعٍ لسماع وجهات نظر مختلفة، لا يُسمح غالبًا بتداولها في الإعلام الرسمي.
وأشارت إلى أنَّ حجب المواقع في الأردن يعكس محاولةً لحماية المجال العام من الأصوات التي قد تُسيء استخدام حرية التعبير، ويأتي كخيار من خيارات تنظيم المحتوى، في ظلّ تحديات معقّدة تواجه الدولة. وبينما يُنظر إليه من قبل البعض كخطوة ضرورية لحفظ التماسك الاجتماعي أو الأمني، إلا أن الاعتماد عليه بشكل متكرّر قد يُظهر ميلاً لتضييق المساحات المتاحة للنقاش العام، ويثير تساؤلاتٍ حول مدى استعداد السلطات لتقبّل النقد والمساءلة، بوصفهما من ركائز الحكم الرشيد.
فيما استنكرت لجنة دعم الصحفيين قرار الهيئة، معتبرةً أن الخطوة لا تعكس إلا تصعيدًا في سياسة التضييق على الحريات الإعلامية، وتراجعًا مقلقًا عن التزامات الأردن الدستورية والدولية، وأضافت أن تبرير الهيئة للحجب باستخدام عبارات من قبيل “بثّ السموم الإعلامية” و”تهديد الأمن الإعلامي الوطني”، “يعكس اتجاهًا نحو استخدام مفاهيم فضفاضة تُوظّف لتوسيع رقعة الرقابة وتكميم الأصوات المستقلة، خاصة تلك التي تطرح نقدًا لسياسات الدولة أو تفتح ملفات حقوق الإنسان والفساد”.
وأردفت أن استناد القرار إلى مواد قانونية في قوانين الإعلام والجرائم الإلكترونية والمطبوعات والنشر، بما في ذلك ما يتعلّق بـ”المساس بالأمن الوطني” و”الإساءة إلى رموز الدولة”، لا يُبرّر حجب مؤسسات إعلامية معروفة، لا سيّما وأن هذه القوانين نفسها باتت محلّ انتقاد محلّي ودولي بسبب استخدامها للحدّ من الحريات بدلاً من حمايتها.
كما شدّدت اللجنة على أن هذا النمط من الحجب لا يؤدّي إلا إلى ترسيخ الخوف بين العاملين في الصحافة، ودفع المؤسسات الإعلامية إلى الرقابة الذاتية، خشية العقوبات، في وقت تحتاج فيه المجتمعات إلى إعلام حرّ ومستقل أكثر من أيّ وقت مضى.
في حين كتب مؤسس وعضو مجلس إدارة مركز حماية وحرية الصحفيين في الأردن، نضال منصور، إنَّ الصحافة في البلاد تعاني من اختناق حقيقي، نتيجة أزمة مركّبة تعصف بالمهنة، تبدأ من تدهور أوضاع المؤسسات الإعلامية، ولا تنتهي عند انعدام الأمان المعيشي للصحفيين والصحفيات، الذين يواجهون صعوبات مهنية ومالية متزايدة، ولا يجدون بيئة تضمن لهم العيش الكريم أو الحماية الفعلية.
وأضاف أن التحديات الأبرز التي يواجهها العاملون في المهنة لا تتعلّق فقط بالانتهاكات الجسيمة، بل بما وصفه بـ”الشلل الصامت”، مثل ضعف تدفّق المعلومات، ومنع الوصول إليها، وامتداد الرقابة المسبقة لتطال حتى غرف التحرير، فضلًا عن تغوّل الرقابة الذاتية التي ترسّخت بفعل القوانين المُشدّدة، وعلى رأسها التعديلات الأخيرة على قانون الجرائم الإلكترونية، التي شجّعت العقوبات السالبة للحرية، والغرامات المُغلّظة.
وتابع منصور أن هناك “من يرى أن حرية الإعلام في الأردن أفضل من بعض دول الجوار، لكن المقارنة لا تصنع إصلاحًا، والهوامش المتبقية ليست كافية”، مؤكّدًا أن اتساع مساحات الحرية هو خطّ الدفاع الأهم لحماية البلاد من الفتن والانقسام، وأنّ المجتمع المتماسك يحتاج إلى إعلام حرّ، لا إعلام خائف.
لماذا يُحجَبُ الإعلام المستقل؟
تعتمد السلطات الأردنية على مبرّرات قانونية وإدارية لتبرير حجب الإعلام المستقل؛ إذ تشترط على المواقع الإلكترونية الحصول على تراخيص رسمية بموجب قانون المطبوعات والنشر المعدّل عام 2012، وقد أفضت هذه الإجراءات إلى حجب نحو 290 موقعًا إلكترونيًا في عام 2013، مع استمرار حملات الحجب في السنوات التالية، بحجّة مخالفة بعض المواقع شروط الترخيص، وعدم تقنين أوضاعها القانونية.
إلى جانب ذلك، تستند السلطات إلى تبريرات تتعلّق بـ”تحسين الأداء الوظيفي” و”حماية الأمن الإعلامي الوطني” كذريعة لتقييد حرية الإعلام، وتشير هذه المبرّرات إلى محاولة فرض رقابة أوسع على المحتوى الإعلامي، وخاصة المواقع التي تتناول قضايا حسّاسة أو تنتقد السياسات الحكومية، ما يؤدّي إلى تقويض حرية التعبير وفرض رقابة ذاتية على الصحفيين.
يؤكّد المدير العام لإذاعة “حسنى”، حسام غرايبة، أن حجب المواقع الإلكترونية خطوة غير فعّالة وغير واقعية، خاصة في ظلّ وجود أدوات تمكّن المستخدمين من تجاوز الحجب بسهولة. وذكر أن الحكومة نفسها سبق وأن أقرّت بعدم قدرة حظر المواقع الإباحية في الفضاء المفتوح على النجاح.
ويقول إن بعض مَن يدافع عن الأردن قد يسيء إليه دون قصد، متسائلًا عن جدوى هذه الإجراءات في ظلّ عدم القدرة حتى على حجب المواقع الإباحية أو تطبيقات سيارات الأجرة، معتبرًا أن “ما هكذا تُورد الإبل”. ورأى أن الأجدى هو إقامة علاقات إيجابية مع هذه المواقع لمنع نشر المعلومات الخاطئة، بدلًا من فرض الحجب، مؤكّدًا أن الحلول الأمنية والرقابية لن تعالج المشاكل الإعلامية، وأن مواجهة الخطأ بالمعلومة والشفافية هي السبيل الأنجع لضمان حرية الإعلام وصحة المعلومات.
وتساءلت النائبة هدى العتوم، عبر صفحتها على “فيسبوك”، إذا كان الهدف من الحجب هو حماية المجتمع من الانحلال والتدمير الأخلاقي، فلماذا لا نرى تحرّكًا مماثلًا لحجب ما هو أخطر؟
وأكّدت أن المواقع التي تهدم القيم وتشجّع على ما أسمته “الفجور والانحراف” تستهدف أبناء المجتمع المحافظ في عقر دارهم، مطالِبةً باتخاذ خطوات جادّة لحجب هذه المواقع، تمامًا كما يتم حجب ما يُصنّف كمواقع تضليل أو بثّ للسموم، قائلةً: “فلنحارب الانحلال كما نحارب التضليل، فكلاهما سموم”.
واستنكر الحزب الديمقراطي الاجتماعي الأردني ما اعتبره تراجعًا غير مبرّر في مسار الحريات الإعلامية، معتبرًا أن إجراء الهيئة جاء بردّ فعلٍ متسرّع لا يواكب تطوّرات العصر الرقمي، ولا يتماشى مع طبيعة المرحلة السياسية والاقتصادية التي تمرّ بها البلاد.
ورأى أن مثل هذه القرارات لا تملك جدوى فعلية، في ظلّ توفّر أدوات رقمية بسيطة تسمح للمستخدمين بتجاوز الحجب والوصول إلى المحتوى المحجوب، ما يجعل الحظر مجرّد إجراء شكلي يُخفق في تحقيق أهدافه، لكنه يترك أثرًا بالغ السلبية على صورة الأردن في العالم.
وأشار الحزب إلى أن تقييد الإعلام بهذه الطريقة يُضعف موقع الأردن في تقارير حرية الصحافة وحقوق الإنسان، في وقت تحتاج فيه الدولة إلى تعزيز مناخ الانفتاح والثقة، بدلًا من تكريس مناخ الخوف والانغلاق، الذي يُقوّض المشاركة المدنية والمواطنة الفاعلة.
فيما يرى النائب الأسبق لرئيس مجلس إدارة مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأردنيّة، وعضو نقابة الصحفيين الأردنيّة، سمير الحياري، أنَّ حجب المواقع المنتقدة للأردن هو بمثابة اقتراح منع السيارات من السير في الشوارع بعد حوادث الطرق، متسائلًا عبر تغريدةٍ له في موقع التواصل الاجتماعيّ “إكس”: “أينَ تعيشون يا من قرّرتم ذلك؟”.
في المحصلة، فإنّ التضييق المستمر على الإعلام، وسعي الدولة لفرض روايتها على الفضاء العام، يُهدّدان مهنية الصحافة وتنوّع الآراء، ففي الوقت الذي يتطلّب فيه المستقبل بناء إعلام حرّ وموثوق، تبرز الحاجة إلى توفير بيئة تحترم القانون، وتصون حقوق الصحفيين، وتضمن لهم الأمان المادي والمعنوي للعمل بكرامة، ووحدها هذه الشروط كفيلة بتمكين الصحافة من أن تكون حرّةً ومستقلة، قادرةً على أداء دورها وتسليط الضوء على مختلف القضايا دون قبضة أمنية أو استدعاءات متكررة من جهات متعددة.