أطلق الاحتلال الإسرائيلي حملته العسكرية “السور الحديدي” التي استهدفت مخيمات شمالي الضفة الغربية، في 21 يناير/كانون الثاني الماضي، بمشاركة قوات حرس الحدود ووحدات خاصة وجهاز الأمن الداخلي (الشاباك) والجيش، بهدف “استمرار الحفاظ على حرية حركة الجيش بكامل الضفة الغربية، وتدمير وتحييد البنى التحتية الإرهابية، وملاحقة القنابل الموقوتة”، بحسب صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية.
تخوض “إسرائيل” حملتها العسكرية الممنهجة الساعية إلى إعادة تشكيل المشهد الجغرافي والديموغرافي في الضفة، خاصةً في مخيمات الشمال، وقد تجاوزت العملياتِ الأمنيةَ التقليديةَ إلى تفكيك البنية الحضرية للمخيمات، عبر هدم المنازل، وشق الطرق، وفرض تهجير قسري للسكان.
يأتي هذا التحول في السياسات الإسرائيلية في إطار أوسع يهدف إلى رفع تكلفة المقاومة الفلسطينية، وتقليص تأثير المخيمات بوصفها حاضنات اجتماعية، تمهيدًا لفرض المزيد من السيطرة الإسرائيلية على الضفة.
لا تقتصر هذه الإجراءات على استهداف المقاومة المسلحة فحسب، بل هي جزء من مشروع “الحسم الصهيوني” الهادف إلى إنهاء أية بنى مجتمعية مقاومة، وإعادة توزيع السكان وفق نموذج “كانتونات” معزولة يسهل التحكم بها.
وقد وصف وزير الحرب الصهيوني، يسرائيل كاتس، الحملة بأنها “العملية الأهم منذ العام 1948″، ما يعكس حجم أهدافها الاستراتيجية التي تسعى “إسرائيل” لتحقيقها في المنطقة.
إعادة هندسة شاملة
تشكِّل عملية “السور الحديدي” مرحلةً جديدةً من التصعيد العسكري، ففي هذه الحملة التي قاربت على 130 يومًا من العدوان المستمر، استخدمت “إسرائيل” تقنيات عسكرية ثقيلة تشمل اجتياحات واسعة النطاق، باستخدام قوات مدرعة وجرافات من طرازات D9 وD10، ومسيَّرات هجومية، ما يشير بوضوح إلى أن الحملة لا تستهدف المقاومةَ المسلحةَ فحسب، بل تسعى إلى إعادة تشكيل البنية التحتية لمخيمات شمالي الضفة.
تركزت أكبر الإجراءات العسكرية في مخيم جنين ومخيمَي طولكرم (طولكرم ونور شمس)، فاستُخدِمت الجرافات والشاحنات العسكرية لشق طرقات جديدة داخل المخيمات، وحوَّلت الأزقةَ الضيقةَ إلى شوارع واسعة يسهل اقتحامها وتنفيذ عمليات عسكرية فيها.
على الأرض، شهدت هذه المناطق عمليات تدمير واسعة شملت هدم 600 منزل على الأقل في مخيم جنين، فهُجِّرت مئات العائلات قسرًا، فيما تواصل الهدم في مخيمَي طولكرم فدُمِّر 400 منزل على الأقل.
وكانت إحدى أبرز ملامح العملية استهداف شبكات المياه والكهرباء والاتصالات في مخيمات الشمال، ففي مخيم جنين، دُمِّرت شبكات المياه والمجاري، ما خلق أزمة بيئية خطيرة زادت صعوبةَ عودة الفلسطينيين إلى منازلهم المدمَّرة، كما تسببت بتوقف أربعة مستشفيات عن العمل لنقص المياه، فزادت معاناة السكان الإنسانية.
لا تقتصر الإجراءات الإسرائيلية على عمليات التدمير فحسب، بل تشمل أيضًا سياسات تهجير قسري تستهدف السكان الفلسطينيين، فقد أُجبِر أكثر من 40 ألف فلسطيني على مغادرة منازلهم نتيجة للتهديدات المباشرة، والقصف، والتجريف.
وفي ظل الهجمات العسكرية، صعَّدت “إسرائيل” استهدافَ وكالة “أونروا”، بإصدار قوانين تمنع نشاطها في الضفة الغربية والقدس، ما يهدِّد قدرتها على تقديم خدماتها للاجئين. من جانب آخر، عُرقِلت جهود الإغاثة وإعادة الإعمار بمنع دخول المساعدات الإنسانية وإغلاق الطرق المؤدية إلى المناطق المتضررة، ما فاقم معاناة آلاف النازحين.
إلى جانب العمليات العسكرية، تكثِّف “إسرائيل” الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على سكان المخيمات بإغلاق الأسواق والمحلات التجارية، ومنع النشاط الاقتصادي في المخيمات ومحيطها، بهدف إضعاف قدرة السكان على الحفاظ على مصادر رزقهم. وفي جنين وحدها سجلت الإحصائيات الرسمية فقدان أكثر من 4,000 عامل أعمالهم بسبب العدوان.
عدوان تراكمي
لم تبدأ الإجراءات الإسرائيلية المتعلقة بإعادة هندسة المخيمات في الضفة الغربية مع عملية “السور الحديدي” في يناير/كانون الثاني 2025، بل تمتد إلى خطوات اتُّخِذت منذ العام 2023، بدأت في اتباع استراتيجية جديدة في اقتحام مخيم جنين، شملت تدمير البنية التحتية بالكامل وتجريف الطرق، واستخدام الطائرات المسيَّرة لتوسيع نطاق الاستهداف.
في يوليو/تموز 2023، أطلقت اجتياحًا واسعًا لمخيم جنين تحت مسمى “البيت والحديقة“، شمل قصفًا مكثَّفًا وتدمير أحياء سكنية بأكملها، وإنشاء شوارع جديدة باستخدام الجرافات الثقيلة.
وفي سبتمبر/أيلول 2023، استهدفت مخيمَي طولكرم ونور شمس، فنفَّذت عمليات توسيع الطرق وفتح ممرات داخل المخيمات تحت غطاء العمليات الأمنية.
ومع نهاية 2023، استهدفت تدريجيًّا البنية التحتية للمخيمات، خاصةً شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي، بالتزامن مع منع أعمال الصيانة والترميم.
وكان الاحتلال قد عقد اجتماعات مع مسؤولين محليين في جنين، وأعلن نيته تحويل المخيم إلى حي تابع للمدينة، في محاولة لإنهاء صفة المخيم موقعًا للاجئين. وفي يناير/كانون الثاني 2025، أعلن أن “المخيمات لن تبقى مناطق حصينة”، وبدأ في تطبيق تعديلات عمرانية قسرية تشمل هدم المنازل داخل المخيمات لتسهيل السيطرة الأمنية.
وفي فبراير/شباط 2025، بدأت عمليات تفجير المنازل على دفعات في مخيم جنين، ودُمِّرت الشوارع القديمة بالكامل، ما يشير إلى دخول مرحلة إعادة التخطيط النهائي.
ويُتوقَّع أن تستمر عمليات التهجير القسري في منتصف العام 2025، إذ سيُجبَر النازحون على الاستقرار في المدن بدلًا من العودة إلى المخيمات، وفي نهاية العام، يُرجَّح أن تنتهي “إسرائيل” من إعادة تشكيل البنية التحتية للمخيمات وفقًا لنموذج الضواحي المفتوحة، ما يدمج المخيمات فعليًّا ضمن نسيج المدن الفلسطينية تحت السيطرة الإسرائيلية، مع إنهاء تدريجي لدور وكالة “أونروا” في المنطقة.
تبديد هوية المخيمات
تسعى “إسرائيل”، بمختلف الأدوات العسكرية والسياسية، إلى تغيير كامل لواقع المخيمات، ما يهدِّد الهوية الفلسطينية المرتبطة بها، إذ تستند الهندسة الجديدة التي تفرضها “إسرائيل” على فكرة تحويل المخيمات من ساحات غير خاضعة للسيطرة إلى مناطق يسهل ضبطها أمنيًّا.
المخيمات، التي تضم تجمعات سكنية كثيفة وأزقة ضيقة، تشكِّل بيئةً معقَّدةً لعمل المقاومة، لذا هُدِمَت أجزاء واسعة من المخيمات لفتح محاور عسكرية تسهِّل على جيش الاحتلال المناورة، كما نُشِرَت نقاط مراقبة دائمة واستُخدِمَت الطائرات المسيَّرة بكثافة، ما يقلل قدرةَ المقاومة على استخدام هذه المناطق كقواعد عملياتية.
وأصبحت المخيمات الفلسطينية، التي تمثِّل رموزًا تاريخيةً واجتماعيةً ترتبط بالنكبة وحق العودة، هدفًا للإجراءات الإسرائيلية الرامية إلى طمس معالمها التاريخية والجغرافية.
كما تساهم سياسة “إسرائيل” في منع إعادة الإعمار بالضغط على “أونروا” ومنع وصول المساعدات الدولية، ما يصعِّب على المخيمات استعادة وضعها السابق.
ومع تفكيك الأحياء السكنية وتدمير المنازل، وفرض قيود على التنقل، يصبح البقاء في المخيمات خيارًا غير عملي لعائلات كثيرة، ما يعزِّز سياسة التهجير التدريجي ويزيد طردَ السكان إلى مناطق أخرى.
تستمر هذه الإجراءات في تحقيق أهدافها على المدى الطويل، إذ تسعى “إسرائيل” إلى تحويل المخيمات إلى مناطق طاردة للسكان، ما يُفقدِها قدرتَها على مقاومة الاحتلال ويُفقِدها هويتها بوصفها أماكن لتجمع اللاجئين الفلسطينيين.
الضم و”حسم الصراع” بلا تكلفة
تُعَدُّ عمليات تفكيك المخيمات وإعادة هندستها في شمالي الضفة الغربية جزءًا من رؤية استراتيجية إسرائيلية أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع السياسي والديموغرافي في الضفة بما يتماشى مع مشروع “الحسم الصهيوني“، الذي تتبناه مكونات رئيسية في حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية.
تستند هذه الرؤية إلى ثلاثة أبعاد رئيسية تعكس أهدافًا بعيدة المدى تتعلق بتفكيك مقومات المقاومة الفلسطينية، وتقليص الهوية الوطنية الفلسطينية، وإعادة توزيع السكان الفلسطينيين في مناطق خاضعة للسيطرة الإسرائيلية.
تسعى الحكومة الإسرائيلية عبر هذه الإجراءات إلى إنهاء أي تهديد أمني محتمل في المناطق المستهدَفة بالضم، عبر تصفية مجموعات المقاومة التي تشكِّل العقبةَ الأبرزَ أمام فرض السيطرة الإسرائيلية المباشرة.
وتسعى هذه الحكومة إلى تحييد بؤر المقاومة التي ترفع تكلفة الاستيطان، إذ يردع بقاءُ نشاط المقاومة في شمالي الضفة المستوطنين، ويؤخِّر خطط توسيع المستوطنات، وبالتالي يُعَدُّ تفكيك هذه البؤر شرطًا أساسيًّا لاستكمال مشاريع الاستيطان والضم.
في السياق، تواصل “إسرائيل” تهيئة واقع أمني يُمكِّنها من تنفيذ الضم دون مواجهة مسلحة واسعة، عبر تفريغ المناطق من المجموعات المقاومة، والتي يمكن أن تخلق جبهةَ مواجهةٍ عسكريةٍ دائمةٍ واستنزافًا مستمرًّا.
كما يتجاوز الهدف تفكيكَ المخيمات إلى تمهيد الطريق لسيناريو التهجير الواسع لسكان الضفة، إذ يُعَدُّ تفكيك المخيمات خطوةً أولى نحو إعادة رسم الخريطة الديموغرافية للضفة بما يتناسب مع خطط التوسع الاستيطاني.
ويتقاطع تفكيك المخيمات مع مشروع أوسع يهدف إلى إعادة توزيع مراكز السيطرة داخل الضفة، ضمن سياسة تشمل تقسيم السكان الفلسطينيين إلى “كانتونات” جغرافية منفصلة، ليُقضَى على أية إمكانية لظهور مقاومة موحَّدة أو حركة سياسية مؤثِّرة.
يشمل هذا المشروع تعزيزَ نفوذ العشائر ورجال الأعمال ورموز الأجهزة الأمنية على حساب التيارات الوطنية، ما بدأ الاحتلال فعليًّا في تطبيقه بعقد اجتماعات مع وجهاء العشائر ورجال الأعمال في جنين، لخلق قيادات محلية بديلة تخضع للتفاهمات الأمنية والاقتصادية مع “إسرائيل”.
وفي ظل الحديث المتزايد عن مستقبل السلطة الفلسطينية، تعمل “إسرائيل” على تهيئة بيئة تُسهِّل انتقال الضفة إلى نموذج إداري جديد قائم على فكرة المحليات، عبر تفكيك سلطة القرار المركزي، فتعمل على إضعاف أية بُنية قد تُستخدَم لإعادة توحيد الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال.
وبالتالي تعزيز فكرة الحكم المحلي كبديل عن السلطة الفلسطينية، لتكون كل مدينة أو تجمع سكاني مُدارًا من خلال شخصيات محلية ذات مصالح اقتصادية وأمنية مرتبطة بـ”إسرائيل”.
بالتالي، يمثِّل ما يجري اليوم واحدةً من أخطر المراحل التي تمر بها القضية الفلسطينية، إذ يُعاد رسم الخارطة الديموغرافية والسياسية بطريقة تُضعف أيةَ إمكانية لمواجهة الاحتلال مستقبلًا، عبر فرض وقائع غير قابلة للتغيير، ما يصعِّب على الفلسطينيين إعادة بناء وحدة وطنية أو مقاومة فاعلة.