في مطلع أبريل/نيسان الماضي، أُفرج عن الأسير الفلسطيني مصعب قطاوي، وكان حليق الرأس عند خروجه من الأسر، وقد نُقشت على رأسه نجمة داوود بأداة حادة من قِبل جنود الاحتلال الإسرائيلي. لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها، إذ سُجّلت قبل نحو عامين واقعة مشابهة، نُقشت فيها النجمة ذاتها على وجه الأسير عروة شيخ علي.
من هذا المشهد، نحاول أن نستقصي: لماذا ترسم “إسرائيل” نجمة داوود على أجساد الأسرى الفلسطينيين؟ على رؤوسهم ووجوههم؟ ومن ثم ننتقل إلى التأمل في “تلثيم الوجه المقاوم”، كما يظهر لدى أفراد المقاومة الفلسطينية؛ مبتعدين عن بعده الأمني الواضح والضروري، ومسلّطين الضوء على أبعاده الإنسانية والفلسفية، بوصفه فعل مقاومة ثقافية وجمالية، فالوجه الإنساني، بما يحمله من هوية وتمثيل، يدخل في صلب الصراع بين المستعمِر والمستعمَر.
الوجه كهُوية للمنتصر
تحاول العقلية الإسرائيلية، من خلال ممارساتها داخل السجون وخارجها، بوصفها عقلية استعمارية إحلالية، محو هُويّة “الآخر” الفلسطيني، ذلك الشعب الواقع تحت استعمارٍ مباشر من قبل هذه القوة التي تكشّف وجهها الإباديّ بجلاء بعد السابع من أكتوبر.
داخل الفضاء السجني الإسرائيلي، لا سيما بعد تولي السياسي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير منصب وزير الأمن القومي منذ عام 2022، يعيش الأسرى الفلسطينيون في مشهد جحيمي متواصل، إذ تنتهج سلطات الاحتلال بحقهم ممارسات جسدية إذلاليّة تهدف إلى إذابة العقل الفلسطيني، وتدميره كليًا، كي يتخلّى الأسير عن كونه فلسطينيًا مقاومًا، ويتحوّل إلى كائن بلا هُوية، بلا كينونة مستقلة، كائن لا يفكر خارج الهيمنة الإسرائيلية.
ضمن هذه الممارسات السجنية الإذلالية، كانت حادثة حفر نجمة داوود على رأس ووجه أسيرين فلسطينيين محررين، وربما أسرى آخرين لم تصل صورهم إلى الصحف ووسائل الإعلام.
لم يكن اختيار “إسرائيل” للرأس والوجه عبثيًا؛ فالوجه هنا ليس مجرد عضو جسدي، بل حاملٌ للهُوية والذات الفلسطينية، عنوانُ الكبرياء المقاوِم، ومرآةُ الذات التي رغم الأسر، لم تُكسر.
لقد أرادت “إسرائيل”، قبل لحظة التحرر، أن تضع هويتها على وجوه الأسرى؛ أن تستبدل ملامح الفلسطيني بوسم المستعمِر. أن تمحو وجهًا لتُقيم آخر مكانه. كان ذلك نوعًا من العقاب الرمزي الأبدي، ووسمًا بالخزي والإذلال، عبر الجسد، في رسالة صارخة من المنظومة الاستعمارية للأجساد الفلسطينية، مفادها: “بما أنك تقاومني بجسدك، سعيًا لطرد جسدي من أرضك، ها أنا أضع هُويتي على جسدك أنت، أيها الفلسطيني… وإلى الأبد”.
أيضًا، من ضمن السياسات الإبادية التي تنتهجها “إسرائيل” في حربها على غزة، تلك التي تنعكس على الجسد والوجه معًا، سياسة التجويع؛ إذ تحاصر “إسرائيل” قطاع غزة وتمنع دخول المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء، ما تسبّب، إلى جانب عشرات الوفيات جراء الجوع، في هشاشةٍ جسديةٍ صارخة، تظهر بوضوح على الوجوه.
لقد تغيّر الوجه الغزّي؛ ملامحه أصبحت باهتة، خائفة، دامعة بلا انقطاع، وجهٌ بلا أمل، إذ تعاقب “إسرائيل” الوجوه الفلسطينية دون الحاجة لنحتٍ مباشر أو رسم، بل من خلال الإنهاك والتجويع والترويع. إلى جانب ذلك، فإنّ الإصابات التي طالت وجوه الغزّيين، بفعل القصف وشظايا الصواريخ وتفجير الروبوتات، خلّفت إعاقاتٍ مستدامة وتشوهاتٍ دائمة، وكأن الوجه الغزّي وحده بات مرآةً للحرب والإبادة.
لا تقتصر هذه السياسات على غزة وحدها؛ فقد شهد لبنان، في سبتمبر/أيلول 2024، حادثة تفجير أجهزة “البيجر”، التي تسببت في مئات الإعاقات والتشوّهات في وجوه اللبنانيين، ليتضح أن سياسات “إسرائيل” لا تعرف سقفًا في استباحة الوجه الإنساني.
الوجه المُلثّم والمستعمِر العاجز
اللثام، أي ما يُخفي الوجه، كان عبر التاريخ أداةً متعددة الوظائف؛ أمنية وعسكرية وصحية وفنية ومهنية. يتلثّم السارق وقاطع الطريق واللحّام والطبيب والممثل والثوري والمُحارب، كلٌّ لأسبابٍ تخصه: حماية أو سطو أو تمثيل أو قتال أو وقاية.
أما في سياق مقاومة الاستعمار، وتحديدًا في الحالة الفلسطينية، فإن اللثام لا يُستخدم فقط للإفلات من الملاحقة الأمنية الإسرائيلية وأجهزتها، بل يتجاوز ذلك إلى التخفّي من الصورة التي رسمها المستعمِر عن الوجه الفلسطيني نفسه.
هذه الصورة ليست بريئة ولا محايدة؛ بل صورة لا إنسانية صُنعت بعناية ضمن مشروع الاستباحة الكاملة للجسد الفلسطيني، بدءًا من الوجه، إذ لا يرى الإسرائيلي في هذا الوجه سوى تهديد، أو بالأحرى: نقيض لما يعتبره وجهًا جديرًا بالإنسانية.
المسألة كلّها في الوجه، ففي الحالة الفلسطينية، لا يُفهم الوجه باعتباره مرآة ذاتية حيّة، تتقلّب فيها المشاعر والتجارب الإنسانية، بل يُعامَل كوجه مستعمَر، يُحمّل دلالةً وجودية مزدوجة: هو وجه الآخر الذي لا يُساوي وجه “الأنا” الإسرائيلية. العلاقة هنا تصبح بين طرفين: وجهان لا ثالث لهما – وجه المُستعمِر ووجه المُستعمَر، الأنا والآخر، التفوق والدونية.
وكلما اقترب وجه الفلسطيني من وجه الإسرائيلي، صار في نظره تهديدًا متزايدًا، غير قابل للتصنيف كـ”إنساني”، لأنه ينافسه على المجال ذاته، وعلى الأرض ذاتها، أما إذا ابتعد عنه، فإنه يُعامل بوصفه وجهًا مجردًا، مُفرغًا من الحياة.
لكن، في ظل حتمية التلاقي – كما يقول فيلسوف “الوجه والآخر” إيمانويل ليفيناس – فإن حضور الآخر، بوجهه، يُشكّل الشرط الأول للإنسانية: “الوجه يعكس التكوين الإنساني، ويمنحه بعدًا شخصيًا، لأنه يُتمّ هذا التكوين بوجود الآخر، ويُخرجه من انغلاقه”. هنا، يصبح اللثام حماية من عنف التسمية، ومن عنصرية الصورة، ومن السطو على الهوية، ويغدو – بقدر ما يُخفي – أكثر تعبيرًا عن الوجود الفلسطيني المقاوم.
لذا، كان لثام الوجه لدى المقاومين الفلسطينيين، إلى جانب بُعده الأمني في إخفاء الهُوية وتجنّب الملاحقة والتحقيق والسجن، سواء من قِبل الاحتلال الإسرائيلي أو أجهزة السلطة الفلسطينية المتواطئة، يحمل بُعدًا رمزيًا أعمق: إنه محوٌ لهندسة العدو للوجه الفلسطيني، تلك التي تراه، بعينها العنصرية، وجهًا “آخر” من الدرجة الدنيا.
هنا، يختفي الوجه تمامًا. يصبح مُجرّدًا، بلا أنف أو فمٍ أو خدَّين، بلا ملامح يمكن من خلالها استباحته أو تصنيفه كوجه “غير إنساني”. كأنّ الفلسطيني الملثّم يقول للمحتل: “حين رأيت وجهي، صنّفته غير إنساني، واستبحتني: قتلتني، وعذّبتني، ونحتَّ على رأسي رموزك الاستعمارية. أما الآن، فلا وجه لي تراه. لقد أخفيته عنك تمامًا، ومحتُ بذلك هندسة عقليتك الاستعمارية”.
لكن ما يتبقى من هذا الوجه المُلثَّم هو العينان. عيون المقاومة. العين التي ترى عدوها وتراقبه، والتي يراها العدو، لكنها لم تعد تلك العين المنكسرة الخاضعة. بل أصبحت عينًا أخرى: تومض وتختفي، تتابع وتواجه، ترصد وتشتبك، وتُقاوم بالعنف من يُمارس العنف. هي ليست مجرد عينٍ بشرية. بل عين مقاومة، نديّة، تقابل نظرة المُستعمِر بلا وجل، تُبقي وجهها سرًّا، وتُبقي نظرها سلاحًا مفتوحًا.
مؤخرًا، تجلّت سردية مقاومة الوجوه المُلثّمة بصورة أكثر وضوحًا، لا سيما في مشاهد تسليم الأسرى الإسرائيليين، حيث خرج المقاومون الفلسطينيون بزيّهم العسكري، مُلثّمي الوجوه، يسلّمون الأسرى إلى ممثلي الصليب الأحمر. مشهدٌ حمل معه شهادات ورسائل واضحة للاحتلال، تُعلن رفض الاستسلام، وتُثبت أنهم لا يزالون على الأرض، يُقاومون حربه الإبادية.
لكن، وعلى خلاف ما فعله الاحتلال الإسرائيلي بأجساد الأسرى الفلسطينيين، من حفر نجمة داوود على وجوههم ورؤوسهم كوسمٍ عنيف للهُيمنة، لم يضع المقاومون أي علامات أو رموز هويّاتية على أجساد الأسرى الإسرائيليين. لم تُرسم كوفية، ولم يُنقش علم فلسطين، ولم تُحمَّل أجسادهم أي دلالة رمزية تُعرّفهم بهُوية الخصم، كما يفعل الاحتلال.
من هنا، يتضح أن العقلية الفلسطينية المقاومة لا تخوض معركتها على “الجسد” بقدر ما تخوضها على “الأرض”. الأرض التي انتُزعت منهم قسرًا، والتي أُحِلّ فيها، منذ نكبة عام 1948 وحتى اليوم، جسدُ المستوطِن القادم من أقاصي العالم. الاحتلال لم يكتف بجعل الأرض جسدًا للمستعمر، بل مضى في عدوانه الأخير على غزة ليحفر نجمة داوود على وجهها أيضًا.
كما في فلسطين، كذلك في تجارب الثورة عبر العالم: من الفدائيين في مصر وسوريا ولبنان والأردن، إلى الجيش الشعبي في فيتنام، وحركة “زاباتيستا” في المكسيك، ونمور “التاميل” في سريلانكا، والجبهة “الساندينية” في نيكاراغوا، والجيش الأحمر الياباني. جميعهم تلثّموا، بوجوه مختلفة، وألوان متباينة، لكن بهدف واحد: التخفّي من هيمنةٍ أمنية وهُوياتية، ومقاومة العنف الاستعماري بعنفٍ تحرّري، فكانت المقاومة أيضًا مقاومةً للوجه: مقاومة للوجه الذي أراد المستعمِر فرضه، فكان الردّ وجهًا ملثّمًا لا يُستباح.