أسوة بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أجرى وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، زيارة سريعة لمنطقة خان الخليلي التراثية الشهيرة في وسط القاهرة، مساء الاثنين 3 يونيو/حزيران الجاري، حيث تجول في شوارعها القديمة وأدى صلاة المغرب في مسجد الإمام الحسين، ضمن زيارته للعاصمة المصرية في سياق جولته الإقليمية التي تشمل مصر ولبنان.
عراقجي بحث مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره بدر عبدالعاطي خلال تلك الزيارة، التي استمرت يومين، العلاقات الثنائية والتشاور بشأن المستجدات الإقليمية والدولية، خاصة التطورات في فلسطين المحتلة، وعدد من الملفات الخاصة بالأمن المائي في البحر الأحمر، وفق ما نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية “إرنا” عن متحدث الخارجية الإيرانية اسماعيل بقائي.
وزير الخارجية الإيراني «عباس عراقجي» يتجول في منطقة خان الخليلي، ويؤدي صلاة المغرب في مسجد الإمام الحسين pic.twitter.com/POZqmlsr9b
— شبكة رصد (@RassdNewsN) June 2, 2025
لا يمكن التعاطي مع زيارة وزير الخارجية الإيراني للقاهرة في هذا التوقيت بكونها زيارة عادية أو في سياق الأجندة الدبلوماسية التقليدية، إذ تأتي في خضم ظروف وتحديات إقليمية ودولية ضاغطة على الطرفين، تسعى لعزل مصر وتقزيم دورها الإقليمي من جانب، وتشديد الخناق على إيران بسبب برنامجها النووي من جانب أخر.
ثمة مؤشرات وإرهاصات تلوح في الأفق خلال العامين الماضيين تذهب باتجاه تنامي رغبة البلدين وتعاظم إرادتهما في الوصول إلى نقطة التقاء تُعيد معها العلاقات الدبلوماسية إلى ما كانت عليه قبل القطيعة عام 1979، حيث تعمل وزارتا خارجية الدولتين بشكل مكثف على تدشين خارطة تطبيع جديدة للعلاقات وفق مقاربات مختلفة تمامًا عما كانت عليه في السابق.
هندسة الشرق الأوسط
تأتي زيارة عراقجي في وقت تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط إعادة هندسة لخارطتها الإقليمية بشكل جذري، ونسف كامل للكثير من المقاربات التي استندت عليها غالبية الدول في رسم توجهاتها الخارجية، مما دفع كل من القاهرة وطهران للعودة خطوة – بل خطوات- للخلف لإعادة تقييم المشهد في ضوء تلك المستجدات.
ومن أبرز تلك التغيرات التي أحدثت ارتباكًا في شبكة التربيطات الإقليمية التقارب بين طهران ودول الخليج والضغوط التي تتعرض لها الإدارة السورية الجديدة للتطبيع مع الاحتلال الذي يتعاظم نفوذه عربيَا بشكل مقلق في كل من سوريا ولبنان وفلسطين، والقنوات المفتوحة مؤخرًا بين الرياض ودمشق وإبرام العديد من الاتفاقات الاقتصادية رغم حساسية هذا التحرك مصريًا في ظل توتير الأجواء مع إثيوبيا جراء التعنت في ملف سد النهضة.
هذا بخلاف التوتر المتصاعد –رغم نفيه رسميًا- بين القاهرة وواشنطن من جانب والقاهرة وعواصم الخليج خاصة الرياض وأبو ظبي من جانب أخر، والوضع كذلك على المستوى الإيراني حيث دخول المفاوضات بشأن البرنامج النووي منعطفًا من التعقيد ومعاودة إدارة دونالد ترامب التلويح بورقة العقوبات مجددًا.
علاوة على ذلك تصاعد التوترات الأمنية في المنطقة والإيماء بين الحين والأخر باستهداف إيران بعمليات عسكرية إسرائيلية وما لذلك من تداعيات على أمن واستقرار المنطقة وتعريض الملاحة البحرية في البحر الأحمر للخطر مما سيكون له ارتدادات كارثية على الإقليم بأسره
وفي الوقت ذاته تحاول الولايات المتحدة فرض نموذج تموضع إقليمي وفق معايير وأبجديات مختلفة، يخدم الأجندة الصهيونية ويٌهندس على مقاسها عمليًا، يتصدره عواصم الخليج على حساب العديد من القوى الإقليمية ذات الحضور الفعال تاريخيًا على رأسها القاهرة ودمشق وبغداد وطهران.
وفي تلك الأجواء لم تعد التحالفات التقليدية ذات تواجد عملي، إذ باتت مهمشة وغير ذي جدوى، وهو ما دفع العديد من القوى ومنها مصر وإيران ومعهما العراق للبحث عن تموضعات إقليمية مغايرة، تخدم مصالحهم وتعزز ثقلهم المتراجع، بما يحقق التوازن مع شبكة التحالفات الجديدة التي تستدعي الرجل الأبيض بغزارة لوضع أقدامه والانخراط بشكل رسمي في المنطقة.
ماذا تريد القاهرة؟
تجدر الإشارة ابتداء إلى أن الجانب المصري هو من وجه الدعوة لوزير الخارجية الإيراني لزيارة البلاد، وربما تكون المرة الأولى التي توجه فيها القاهرة دعوة مباشرة لمسؤول إيراني للزيارة بشكل فردي بعيدًا عن السياقات الإقليمية والمشاركة في المؤتمرات والمحافل التي تحتضنها الأراضي المصرية، الأمر الذي يعكس الرغبة المصرية الواضحة في تعزيز خطوات التقارب مع طهران.
وتتزامن تلك الدعوة مع تراجع الثقل الإقليمي المصري بشكل لافت، وفقدانها لدورها المؤثر في العديد من الملفات، السودان وليبيا واليمن ولبنان وسوريا، حتى الملف الفلسطيني الذي كان تتمتع فيه القاهرة بميزة جغرافية تؤهلها للعب دور مؤثر ورئيسي، تهمش كثيرًا بعد فتح الإدارة الأمريكية قنوات اتصال مباشرة مع حركة حماس.
هذا التقزيم ربما يكون سببًا أو نتيجة لتوتير العلاقات مع الولايات المتحدة والكيان المحتل بسبب الموقف المصري المعلن إزاء مخطط التهجير ورفض إملاءات الرئيس الأمريكي، الذي يبدو أنه يبحث عن طريقة يعاقب بها حليفه الإقليمي بتهميش دوره وتقزيم حضوره وإبعاده عن المشهد بصورة تٌخرجه بعيدًا عن الملعب الذي كان أبرز لاعبيه خلال السنوات الماضية، ولعل عدم دعوة السيسي -أسوة بالمرة السابقة- لحضور القمة الخليجية الإسلامية في الرياض في أعقاب زيارة ترامب أبرز تلك المؤشرات.
تحركات الحليف الخليجي الإقليمية الباحثة عن تعزيز النفوذ بمعزل عن القاهرة ودون أي اعتبار لمقارباتها كان لها دورها في تأزم الموقف، سواء فيما يتعلق بالتقارب مع الولايات المتحدة وإسرائيل من جانب، أو العبث في الملفات الإقليمية التي تشتبك مع الأمن القومي المصري من جانب أخر، وهو ما وضع الجانب المصري في مأزق سياسي واضح.
من هذا المنطلق كان التحرك المصري لاستعادة حضوره الإقليمي مرة أخرى، والتي يبدو أن طهران ستكون إحدى أبوابه الكبرى، من خلال لعب القاهرة لدور الوساطة بين إيران والولايات المتحدة في ملف الاتفاق النووي، إذ تزامنت زيارة عراقجي مع وجود المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافاييل جروسي، الذي يزور الأراضي المصرية حاليًا، وهو التزامن الذي لا يمكن اعتباره من قبيل الصدفة.
وبالفعل عُقد اجتماع ثلاثي ضم وزيري الخارجية المصري والإيراني مع مدير وكالة الطاقة الذرية، وهو الاجتماع الذي يمكن قراءته في سياق محاولة القاهرة لعب دور الوساطة في هذا الملف، خاصة بعد التقرير الصادر عن الوكالة والذي يتهم إيران بزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم، وهو الدور المٌستساغ إيرانيًا، أما على المستوى الأمريكي فقد تلقى وزير الخارجية المصري اتصالاً من المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، حول آخر تطورات المفاوضات في هذا الملف.
ومن ثم ترى القاهرة في طهران وتحسين العلاقات معها جسرًا طويلا لتمديد نفوذها الإقليمي المٌحاصر، وتوسيع هامش حراكها السياسي الدبلوماسي، مستغلة ورقة حساسية العلاقات مع طهران لإثبات حضورها وإيصال رسالة مباشرة لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج بأن التواجد المصري الإقليمي لا زال قائمًا رغم محاولات العزلة المكشوفة.
ماذا تريد طهران؟
وعلى الجانب الأخر تواجه إيران ضغوطًا أمريكية وأوروبية قاسية بسبب برنامجها النووي وتشبثها برفض الشروط الأمريكية التي تطالب بوقف كافة أشكال تخصيب اليورانيوم وإنهاء مشروع امتلاك القنبلة النووية، وهو ما ترفضه طهران بشكل حازم، الأمر الذي زاد من وتيرة التهديدات بفرض المزيد من العقوبات التي عرضت الدولة الإيرانية لعزلة دولية، اقتصادية وسياسية، استمرت لعقود طويلة.
وتؤمل طهران على القاهرة، كما الرياض والدوحة ومسقط، في لعب دور وسيطي إقليمي لتقارب وجهات النظر بينها وبين واشنطن، استنادا إلى الثقل الإقليمي التاريخي والحضاري لمصر من جانب، وعلاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة بصرف النظر عن توتير الأجواء المؤقت مؤخرًا من جانب أخر.
🟥 وزير الخارجية الإيراني السيد عباس عراقجي:
التقيت المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي؛ وأكدت أنه لا يمكن أن يُنتزع حق تخصيب اليورانيوم من طهران
والتخصيب حق إيراني وفقًا للمواثيق الدولية.
— إيران بالعربية (@iraninarabic_ir) June 2, 2025
ويبحث الإيرانيون، بعد الخسارة التي تعرضوا لها في سوريا ولبنان، عن موطئ قدم لهم في المنطقة، يحافظ ولو على الحد الأدنى من النفوذ الإقليمي، ومن ثم جاء الحراك الدبلوماسي المكوكي لوزير الخارجية خلال الشهرين الماضيين لفتح قنوات اتصال مع العديد من قوى المنطقة حتى تلك التي تعاني من علاقات ليست دافئة مع طهران.
وتسعى إيران من خلال هذا الحراك -خاصة مع دولة ذات كيان وحضور تاريخي مثل مصر- لتشكيل جبهة إقليمية في مواجهة التهديدات الأمريكية، تتمترس خلف نفوذها السياسي لإثناء الأمريكان – ومن خلفهم الحليف الإسرائيلي- عن أي تهور يدفع المنطقة نحو أتون حرب لا رابح فيها، ستكون خسائرها فادحة خاصة على الإيرانيين ربما يقضي على حلمهم النووي التاريخي، فضلا عن تهديد عرش ولاية الفقيه.
تقارب برغماتي
بعيدًا عن السردية الإعلامية التقليدية في التعاطي مع ملف العلاقات المصرية الإيرانية على أنها علاقات تعاني من القطيعة، فإن الواقع يشير إلى غير ذلك، فالعلاقات بين البلدين منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، تعاني من الجفاف وبعض الجمود وليست القطيعة كما يروج البعض.
وعلى مدار أكثر من أربعة عقود كاملة شهدت فيها العلاقات بين البلدين منحنيات من الصعود والهبوط، وصلت إلى أعلى درجات التطرف خلال العقدين الماضيين، حين التزمت القاهرة بالمقاربة الخليجية، وأغلقت الباب بشكل نسبي أمام أي تقارب مع طهران، خشية إغضاب الحليف الخليجي.
اليوم تغير الوضع، فلم يعد هذا العائق موجودًا على أرض الواقع، وذلك بعد استئناف العلاقات الخليجية الإيرانية على مستوى السفارات وفتح صفحة جديدة من التفاهم والتنسيق المشترك، ومن هنا فليس هناك أي مانع لدى القاهرة في تعزيز تقاربها مع طهران، خاصة في ظل التحديات الإقليمية التي تجعل من هذا التقارب ضرورة أكثر منه رفاهية.
وبمنطق برغماتي بحت تسعى مصر اليوم إلى تعميق أواصر الصداقة مع الصهر الإيراني، وإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه حين كان يربط البلدين علاقة نسب شهيرة بزواج شاه إيران الراحل من شقيقة الملك فاروق، الأميرة فوزية، والتي أصبحت إمبراطورة (شهبانو) لإيران قبل طلاقهما.
ويميل كثير من الخبراء والمحللين إلى أن الحوار البناء والتقارب المحتمل بين طهران والقاهرة من شأنه أن يكون مدخلا واسعًا لاستكشاف فرص عدة للتعاون المشترك في شتى المجالات، خاصة الطاقة والاقتصاد، وفي ظل الإمكانيات والقدرات التي يمتلكها البلدان والتحديات التي تواجههما، فإن أجواء الشراكة من الممكن أن تكون مبشرة للغاية وتدعو للتفاؤل، إذ يؤمل كل طرف نفسه بمكاسب استراتيجية من المتوقع تحقيقها من خلال تلك العلاقة.
ومنذ عام 2021 بدأت إرهاصات انخراط كلا البلدين في حراك دبلوماسي سري لاستعادة العلاقات مرة أخرى، كانت البداية بلقاء وزير الخارجية المصري السابق، سامح شكري مع نائب الرئيس الإيراني علي سلاجقة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، على هامش مؤتمر الأمم المتحدة لأطراف اتفاق المناخ (كوب 27)، الذي أقيم بمدينة شرم الشيخ.
وفي الشهر التالي مباشرة التقى الرئيس المصري بوزير الخارجية الإيراني السابق حسين أمير عبد اللهيان على هامش مؤتمر “بغداد 2” الذي أقيم في الأردن، ثم تبعه لقاءات عدة على هامش اجتماع البنك الآسيوي للبنية التحتية الذي عقد في شرم الشيخ سبتمبر/أيلول 2023، تلاه اجتماع أخر بعد شهرين فقط لرئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف، مع رئيس مجلس النواب المصري حنفي جبالي، على هامش اجتماع لمجمع برلمانات دول منظمة “بريكس” في جنوب أفريقيا.
ثم كانت زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان لحضور القمة الحادية عشرة لمنظمة «الدول الثماني النامية» للتعاون الاقتصادي، التي عقدت في القاهرة في ديسمبر/كانون الأول 2024 تتويجًا لجهود التقارب بين البلدين، وكانت الزيارة الأولى لرئيس إيراني للقاهرة منذ 11 عاماً، والثانية من 45 عاماً، وذلك عقب زيارة قام بها سلفه أحمدي نجاد، في فبراير/ شباط 2013.
من الواضح أن كلا من القاهرة وطهران قد أيقنتا أن التطورات الجيوسياسية والتحديات الأخيرة تتطلب مستوى مختلف من العلاقات، أكبر من مجرد التلامس الدبلوماسي، مستوى يحافظ للدولة المصرية على الحد الأدنى من أوراق الضغط ويدفعها نحو التواجد على خارطة الإقليم، وفي المقابل يٌبقي على النفوذ الإيراني ويحول دون ضربات جديدة تقزم حضورها وتقلم أظافرها.
آفاق عدة قادرة على استيعاب هذا التقارب، في ظل القواسم المشتركة بين البلدين، غير أن نجاح وفاعلية هذا المسار يتوقف بشكل كبير على قدرة الطرفين على تبني استراتيجية عقلانية متزنة، قادرة على الموائمة بين مصالح الدولتين في تعزيز التقارب مع الالتزامات الأمنية من جانب، وعدم الإخلال بالعلاقات مع الحليف الخليجي الأمريكي من جانب أخر.