لم يكن الطالب محمد رضوان يتخيّل، وهو يخطو خطواته الأولى في مطار القاهرة متجهًا إلى موسكو لدراسة الطب، أن رحلته ستنتهي به أسيرًا في يد القوات الأوكرانية!
محمد، الشاب الصعيدي، وجد نفسه خلال هذه الرحلة مقاتلًا في صفوف الجيش الروسي على خطوط القتال الأمامية، إلى جانب العديد من المقاتلين من أبناء بلده ودول عربية أخرى، قبل أن يقَعوا في النهاية أسرى بيد الجيش الأوكراني، في انتظار نهاية الحرب أو صفقة تبادل تُعيدهم إلى روسيا، أو إلى سجون بلدانهم التي فرّوا منها بحثًا عن فرصة للحياة بعدما ضاقت بهم السبل. فما قصة محمد رضوان؟ وماذا يفعل المقاتلون العرب في الحرب الروسية الأوكرانية؟
رضوان.. من الطب إلى الحرب
أظهرت مقاطع مصوّرة بثّها الصحفي الأوكراني ديميتري كاربينكو وجود عدد من الأسرى المصريين في قبضة القوات الأوكرانية، بعدما جُنّدوا للقتال ضمن صفوف الجيش الروسي، ومن بينهم ظهر الشاب محمد رضوان، الذي تحوّل من طالب طب إلى مقاتل، ثم إلى أسير حرب.
في الفيديو الذي أثار تفاعلًا واسعًا في مصر، خاصة في قريته “المريس” بمحافظة الأقصر، تحدّث محمد باللغة الروسية عن تفاصيل أسره، وشارك مكالمة مباشرة مع والدته، طمأنها خلالها على وضعه، مؤكدًا أنه ينتظر إدراجه ضمن عملية تبادل أسرى.
بدأت قصة رضوان أواخر عام 2021، حين قرر السفر إلى روسيا لمتابعة دراسة الطب، بعد أن حصل على نسبة 88% في الثانوية العامة، وهي درجة لم تؤهله لدخول كليات الطب في مصر، فتوجّه إلى جامعة في مدينة كازان الروسية، حيث بدأ بتعلّم اللغة الروسية، لكن تكاليف الدراسة أجبرته على تغيير مساره الأكاديمي إلى تخصص الاقتصاد.
ومع اشتداد الضغوط المادية على أسرته، لجأ رضوان إلى العمل بدوام كامل في توصيل الطلبات، وهو ما انعكس سلبًا على تحصيله العلمي، وأدى إلى فصله من الجامعة وفقدان تأشيرته.
في إحدى رحلات التوصيل، نُقل طرد إلى مدينة أخرى دون أن يتحقّق من محتواه، وأثناء تفتيش أمني، تبيّن أن الطرد يحتوي على 10 كيلوغرامات من المخدرات، ولم يتمكن من إثبات براءته، فصدر حكم بسجنه سبع سنوات.
وبعد فترة قصيرة في السجن، عُرض عليه الالتحاق بالجيش الروسي مقابل العفو عنه ومنحه الجنسية الروسية. وافق على الفور، لكن سرعان ما تمّ إرساله إلى الجبهة في أوكرانيا، حيث أُسر بعد أربعة أيام فقط من وصوله.
محمد ليس الوحيد
في الفيديو نفسه الذي ظهر فيه محمد رضوان، برز أسير مصري ثانٍ أدى دور المترجم، كما نشر الصحفي ذاته قصصًا لثلاثة شبّان مصريين آخرين، ورغم غياب إحصاءات دقيقة حول عدد الأسرى أو المقاتلين العرب في صفوف الجيش الروسي، إلا أن مواقع أوكرانية محلية أوردت روايات لمقاتلين تم أسرهم في الخطوط الأمامية للقتال.
فقد نقل موقع “نيوز يوكراين” قصة شاب مصري آخر – لم يُكشف عن اسمه – أُسِر لدى الجيش الأوكراني، حيث روى تفاصيل تجنيده وأسره والظروف التي عاشها في ميادين القتال.
وأُلقي القبض على الأسير، البالغ من العمر 25 عامًا، قرب بلدة كوراخوف، جنوب بوكروفسك، وهي منطقة نشطة عسكريًا تشهد هجمات روسية متكررة بالمشاة والمركبات القتالية، وقال أحد الجنود الأوكرانيين المشاركين في العملية إن مجموعة من المرتزقة تضم مصريين وأفارقة نُشرت في المنطقة ذاتها، مشيرًا إلى أن “بعضهم استُدرج للاستسلام خوفًا من قادتهم أكثر من الموت نفسه”.
وبحسب الجندي، فإن المرتزقة يُجبرون على القتال تحت تهديد بعقوبات قاسية، وقد وثّق الجيش الأوكراني لحظة استسلام المجموعة بعد إسقاط طائرة مسيّرة، في مقطع نُشر لاحقًا ضمن تقارير إعلامية.
ويروي الشاب المصري، الذي ظهر في مقطع مصوّر بثّته إذاعة “أوروبا الحرة” على يوتيوب، أنه سافر إلى روسيا للدراسة الجامعية وتخصص في قسم اللغات، حيث تعلّم الروسية والإنجليزية. وبعد ثلاث سنوات من الدراسة، ومع اقتراب انتهاء صلاحية تأشيرته، وقّع عقدًا مع الجيش الروسي في مارس/آذار 2024.
قال: “قرأت أن المشاركة في العمليات العسكرية ليست إلزامية لمن لا يحمل الجنسية الروسية، لكن اتضح لي لاحقًا أنني حصلت على الجنسية دون علمي، وتم تسجيل أوراقي وتجنيدي بطريقة ملتوية”.
وبحسب روايته، احتُجز في غرفة أشبه بالزنزانة لمنعه من المغادرة، ثم نُقل في شاحنة عسكرية إلى معسكر تدريب، قبل إرساله مباشرة إلى الخطوط الأمامية قرب كوراخوف، ويضيف: “نحن مجرد وقود للمدافع. إن رفضت تنفيذ الأوامر، يُطلقون عليك النار أو يُلقونك في حفرة معزولة. أعرف شخصًا قضى ثلاثة أسابيع داخل حفرة كهذه”.
يقول الأسير المصري إن مهمته كانت التمركز مع مجموعة في موقع محدد والحفاظ عليه، وبعد يومين من القصف المتواصل، تقطعت بهم السبل دون ماء أو وسيلة اتصال، وعندها قررت المجموعة الاستسلام، ويضيف: “لم نكن نعلم كيف نتواصل. رفعنا الرايات، ولم يرد أحد. ثم ظهرت طائرة مسيّرة، وتبعنا تعليماتها حتى تم أسرنا”.
ليس ببعيد عن مصر، كشفت تقارير أخرى عن مشاركة جنود يمنيين وصوماليين في الحرب إلى جانب الجيش الروسي، ووقوع بعضهم في الأسر، مثل عادل محمد، مواطن صومالي خدم سابقًا في الجيش الصومالي، وهو أحد هؤلاء الأسرى لدى القوات الأوكرانية.
تعرّض المجندون للخداع عبر وسطاء مرتبطين بجماعة الحوثي، قبل أن يُزجّ بهم في جبهات الحرب دون أي تدريب عسكري.
وبحسب شهادته المصوّرة التي بثّتها قناة “كييف إندبندنت”، يقول عادل إنه كان يبحث عن فرصة عمل في روسيا بسبب الأوضاع المالية الصعبة في الصومال، ووجد بالفعل وظيفة ذات أجر زهيد في مدينة ناغينسك قرب موسكو، لكنها لم تكن تكفي لسد احتياجاته. لاحقًا، وجد منشورًا يعلن عن حاجة لموظفين كحراس أمن، فتقدّم للوظيفة وتم قبوله. لكنه فوجئ بأنه أُدرج لاحقًا في صفوف المقاتلين وأُرسل إلى الجبهة.
قال: “أخبروني أنهم سيوفرون لي جواز سفر ومالًا، وراتبًا شهريًا قدره 2000 دولار، بالإضافة إلى الجنسية الروسية. وكان عليّ التوقيع على وثيقة العقد. ثم قالوا لي إن عملي يتطلب التدريب في مؤسسة عسكرية، فوافقت. وبعد أسبوعين من التدريب على الأسلحة النارية، أرسلونا إلى الخطوط الأمامية، وهناك وقعت في الأسر”.
يضيف عادل أنه كان ضمن مجموعة من المقاتلين القادمين من دول عربية مثل سوريا والمغرب ومصر، إلى جانب آخرين من دول إفريقية. ويُشير التقرير المصوَّر الذي بثّته القناة نفسها إلى وجود أسير آخر من سيراليون، دفعته ظروفه المعيشية إلى الالتحاق بالجيش الروسي، ليقع في النهاية أسيرًا كذلك.
تجنيد اليمنيين لصالح روسيا
ربما يكون معظم المقاتلين العرب المنضمين إلى الجيش الروسي نتاج قرارات فردية غير منظمة، لكن الحالة اليمنية تكاد تنفرد عن نظيراتها العربية من حيث درجة التنظيم والتنسيق، ففي تحقيق خاص نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز”، كُشف عن تجنيد مئات اليمنيين من قِبل القوات الروسية للقتال في أوكرانيا، في عملية غامضة ترافقت مع وعود كاذبة بالعمل والمال والجنسية، وانتهت بإرسال المجندين إلى ساحات القتال، في ظل تعاون وثيق بين موسكو وجماعة الحوثي المسلحة.
تحدث يمنيون نُقلوا إلى روسيا للصحيفة البريطانية، كاشفين كيف جرى استدراجهم بعروض عمل مغرية، ثم أُجبروا لاحقًا على توقيع عقود عسكرية مع الجيش الروسي. أحد هؤلاء المجندين، ويدعى “نبيل”، قال إنه كان ضمن مجموعة تضم نحو 200 يمني تم تجنيدهم في سبتمبر/أيلول 2023، وقد تعرّض المجندون للخداع عبر وسطاء مرتبطين بجماعة الحوثي، قبل أن يُزجّ بهم في جبهات الحرب دون أي تدريب عسكري.
نُقل هؤلاء المجندون إلى مناطق خطرة في أوكرانيا مثل كوراخوف، حيث وثقت تقارير ميدانية سقوط قتلى ومصابين بينهم، أحدهم حاول الانتحار بسبب الظروف القاسية، إذ لم يحصلوا على ملابس شتوية، ولا حتى على وقت كافٍ للراحة، وقد شملت مهامهم حمل ألواح خشبية في مناطق مزروعة بالألغام.
وأظهرت الوثائق أن عملية التجنيد تمّت عبر شركة أنشأها عبد الولي الجابري، وهو سياسي حوثي بارز وعضو في البرلمان، مسجّل شركته في سلطنة عُمان كمورد للأدوية والمعدات الطبية، لكنها كانت تُستخدم فعليًا كواجهة لعمليات التجنيد.
وبحسب نبيل و”عبدالله”، وهو يمني آخر تم تجنيده ضمن العملية، فقد جرى تهديد المجندين بالسلاح لإجبارهم على توقيع العقود، التي كانت مكتوبة باللغة الروسية، وقد وُعدوا برواتب تصل إلى 2000 دولار شهريًا، بالإضافة إلى مكافأة قدرها 10 آلاف دولار وجنسية روسية.
ما الأسباب؟
لا يمكن حصر ظاهرة المشاركة العربية في الحرب الأوكرانية، وهي حرب لا ناقة للعرب فيها ولا جمل، في سبب واحد، بل يمكن القول إنّها نتاج مجموعة من العوامل المتداخلة، لعل أبرزها:
1. الفقر كحافز للتجنيد
يُعد العامل الاقتصادي أحد أبرز دوافع انضمام الشباب العرب إلى صفوف الجيش الروسي، ففي بلدان مثل اليمن وسوريا والسودان، يعاني الشباب من معدلات بطالة مرتفعة، وانعدام الأفق، وتدهور حاد في قيمة العملات المحلية.
تشير تقارير البنك الدولي إلى أن أكثر من 80% من سكان اليمن يعيشون تحت خط الفقر، وفي ظل هذا الواقع، تصبح وعود مثل “راتب شهري بالدولار” أو “جنسية روسية” محفزات قوية، حتى لو كان الثمن هو القتال في حرب دموية لا تعنيهم.
2. شبكات التجنيد والاحتيال
ينشط وسطاء وشركات مشبوهة في تنظيم عمليات “الهجرة الدراسية أو العَمل” إلى روسيا، مستغلين تطلّعات الشباب للهروب من أوضاعهم المعيشية الصعبة، ففي العديد من الحالات، تُوقَّع العقود باللغة الروسية دون ترجمة، أو يُجبر الشبان على التوقيع تحت التهديد.
من بين هذه الشبكات، برز اسم “شركة الجابري”، المرتبطة بجماعة الحوثي، والتي كانت مسجلة في سلطنة عُمان كمورد طبي، لكنها كانت تُنسق فعليًا عمليات تجنيد شباب يمنيين لصالح الجيش الروسي، حيث تم تهريب البعض من صنعاء إلى موسكو، ثم نقلهم إلى مراكز تدريب ومن هناك إلى جبهات القتال في أوكرانيا.
3. الوعود بالجنسية الروسية
تشكل الجنسية الروسية عنصر جذب إضافيًا، خاصة لمن يعيشون في أوضاع قانونية هشة داخل روسيا، فبعض المصريين، مثل محمد رضوان، الذين ذهبوا للدراسة، وجدوا أنفسهم بعد انتهاء صلاحية تأشيراتهم أمام خيارات صعبة إمّا السجن أو القتال. وغالبًا ما تُرفق عروض التجنيد بوعود بالعفو وإسقاط الأحكام القضائية ومنح الجنسية.
4. تواطؤ بعض الأنظمة والجماعات المسلحة
تشير تقارير إلى تعاون بين روسيا وجهات سياسية أو مسلحة في عدد من الدول العربية، لتسهيل عمليات التجنيد، ومن أبرز الأمثلة التعاون بين موسكو وجماعة الحوثي في اليمن، حيث تُرسل “أنصار الله” مقاتلين مقابل دعم سياسي وعسكري روسي.
وقد لمّح قادة حوثيون، مثل محمد البخيتي، إلى وجود تنسيق عسكري مع موسكو، متحدثين عن “تطوير العلاقات على كافة المستويات، بما في ذلك الجانب العسكري”.
5. هشاشة الدولة وانعدام البدائل
في بلدان مثل سوريا واليمن، تنهار مؤسسات الدولة أمام الحرب والفساد، لتُستبدل بشبكات مصالح وأمراء حرب، حيث يفتقر الشباب إلى خيارات تعليمية أو مهنية أو هجرة قانونية، فتصبح الحرب، في نظر البعض، خيارًا يائسًا لمستقبل أفضل، حتى وإن كان موهومًا أو محفوفًا بالموت.
6. حملات التضليل الإعلامي والتجنيد العابر للحدود
تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي حملات ترويجية تُجمّل صورة الانضمام إلى الجيش الروسي، عبر نشر مقاطع عن “البطولة”، أو تصوير الامتيازات المالية والمعيشية، وتُدار بعضها باللغة العربية، غالبًا من قبل جهات استخباراتية أو تنظيمات سياسية موالية لروسيا.
7. أزمة التعليم والمستقبل المجهول
يعاني قطاع التعليم في دول مثل السودان وسوريا والعراق من انهيار مزمن، يدفع الآلاف من الطلاب للبحث عن فرص دراسية في الخارج، خاصة في روسيا وأوكرانيا، لكن كثيرين منهم يجدون أنفسهم لاحقًا في مواجهة خيارات خطرة بعد فقدان التأشيرة أو الدعم المالي، ما يجعلهم فريسة سهلة لشبكات التجنيد.
إذن، تبقى قصص المجندين العرب، خصوصًا اليمنيين، شاهدًا على استغلال الفقر واليأس في حروب لا تخصهم، وتكشف عن شبكات تجنيد عابرة للحدود، تستخدم الوعود الزائفة كطريق مختصر إلى الجبهات المشتعلة. وبينما يترقب هؤلاء المقاتلون مصيرهم في الأسر أو الموت أو النسيان، تظل مسؤولية كشف هذه الانتهاكات ومحاسبة المتورطين فيها مسؤولية أخلاقية وسياسية تتجاوز حدود الجغرافيا، وتستدعي وقفة جادّة في وجه المتاجرة بالبشر تحت غطاء الحرب.