لم يكن طريق الحجاج اليمنيين إلى مكة هذا العام، والبالغ عددهم أكثر من 24 ألف حاج وحاجة، معبّدًا بسهولة أسوة بباقي الحجاج المسلمين، حيث واجهوا الكثير من العراقيل والصعاب التي حالت دون تحقيق سفر مريح لأداء النُسك. بل إن بعضهم نجا من الموت بأعجوبة، مثلما حدث في صباح الثامن والعشرين من مايو/ أيار الماضي، حينما شنّت إسرائيل غارات جوية على طائرة تتبع الخطوط الجوية اليمنية، كانت تحمل أمتعة الحجاج، وهي على بُعد خمس دقائق من إقلاعها من مطار صنعاء الدولي إلى مطار الملك عبدالعزيز بجدة.
يحكي محمد العتمي، وهو شقيق أحد الحجاج الناجين من القصف الإسرائيلي على طائرة الإيرباص A320 التي كانت ستنقل شقيقه الحاج إلى السعودية، كيف أن شقيقه عاد إلى منزلهم بعد أن كان متواجدًا في صالة الانتظار بمطار صنعاء، حيث كانت الطائرة تحترق.
يقول محمد لـ “نون بوست”: “عاد أخي إلى المنزل مذعورًا من هول ما حدث، وتم إبلاغه بإلغاء رحلته، وعلى الرغم من حزننا لعدم سفره في تلك اللحظة، إلا أننا حمدنا الله أنه عاد إلينا سالمًا معافى”.
وبحسب إفادة عاملين في مطار صنعاء، فإن ملابس، ووثائق، وأدوات، وكافة الأمتعة الخاصة بالحجاج الذين كانوا سيسافرون بتلك الطائرة المقصوفة، احترقت بالكامل.
لم يستسلم اليمنيون الذين عادوا من مطار صنعاء بعد القصف الإسرائيلي للواقع المفروض عليهم، وكانوا مُصرّين على أن يؤدوا فريضة الحج، فاختاروا مسارات أخرى غير مطار صنعاء، الذي لم يعد صالحًا للسفر بعد قصف آخر طائرة يمنية فيه.
وكانت المسارات البديلة إما مطارات عدن وسيئون، التي تبعد عن صنعاء تسع ساعات، أو استئناف الرحلة نحو مكة برًّا عن طريق صحراء الربع الخالي ومنفذ الوديعة الحدودي، الذي يبعد عن العاصمة اليمنية صنعاء مسافة تزيد عن 580 كيلومترًا.
أسعار باهظة وانعدام للخدمات
لم تكن تلك الحادثة وحدها التي تحكي معاناة حجاج بيت الله الحرام من اليمنيين القاطنين في المناطق الشمالية الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي، وهم الغالبية من حيث الكثافة السكانية، فقد سبق أن عانى الحجاج من تأجيل مواعيد رحلاتهم بعد أن دمّرت إسرائيل ثلاث طائرات تابعة للخطوط الجوية اليمنية، عقب تعرّض مطار صنعاء لأكثر من 30 غارة جوية إسرائيلية خلال الأشهر الفائتة.
تبلغ تكلفة البرامج المخصصة للحجاج اليمنيين عبر وزارة الأوقاف اليمنية عن طريق الجو 14,646 ريالًا سعوديًا، أما عن طريق البر فتبلغ 14,195 ريالًا سعوديًا.
ويدفع الحجاج اليمنيون في الوقت الراهن أسعارًا باهظة لتذاكر السفر جوًا من صنعاء إلى جدة، على الرغم من قرب المسافة بين البلدين، حيث تصل إلى 850 دولارًا أمريكيًا، ومن عدن إلى جدة 750 دولارًا، وهو المبلغ الذي لا يقدر على دفعه الكثير من الحجاج، الأمر الذي يضطرهم إلى السفر عن طريق البر، بينما كان سعر التذكرة قبل الحرب لا يتعدى الثلاثمائة دولار أمريكي.
أما المسافرون عن طريق البر، فيواجهون العديد من المخاطر أثناء رحلتهم. وبحسب شكاوى حجاج يمنيين في سنوات ماضية تحدثوا لـ “نون بوست”، فإن أبرز المشكلات التي كانوا يعانون منها، وهي ذات المشكلات القائمة حتى الوقت الراهن: وعورة الطرق المؤدية إلى الأراضي السعودية، حيث يتم إجبار الحافلات التي تقل الحجاج على السير عبر الوديان والجبال، الأمر الذي يؤدي إلى تأخر رحلة الحجاج لساعات طويلة، إضافة إلى تزايد أعداد نقاط التفتيش المنتشرة على طول طريق السفر حتى الوصول إلى منفذ الوديعة الحدودي.
تقول الخمسينية فاطمة المطري، وهي امرأة يمنية أدّت فريضة الحج العام الماضي، إنها “حينما وصلت إلى منفذ الوديعة، تعرضت لوعكة صحية بسبب اشتداد حرارة الجو، حيث مكثت في الحافلة التي كانت تقلّها لأكثر من يومين، ووجدت صعوبة بالغة في الحصول على الطعام والشراب والصرف الصحي”.
في العام الماضي، حدثت عدد من حالات الوفاة في أوساط الحجاج اليمنيين بسبب تكدّس الحجاج في منفذ الوديعة، وبسبب المعاملات غير اللائقة التي عانوا منها من القائمين على إدارة المنفذ، بحسب وسائل إعلام يمنية.
ويفتقر منفذ الوديعة إلى وجود فنادق، وشقق سكنية، ومراكز صحية، ومحال تجارية قادرة على توفير احتياجات المسافرين إلى السعودية. وبين فترة وأخرى، تصدر تعليمات جديدة من الجانبين الحكوميين اليمني والسعودي، تصطنع عراقيل للمسافرين اليمنيين إلى الأراضي السعودية، وفقًا لأحاديث مواطنين يمنيين لـ “نون بوست”.
عراقيل مفتعلة وخلافات
ظل الحجاج اليمنيون ممنوعين من السفر جوًّا عبر مطار صنعاء الدولي خلال العام 2015، وسمح لمئتين وخمسين حاجًّا وحاجة في العام 2016 بالسفر عبر ذات المطار والعودة إليه، ومرت سنوات أُغلق فيها مطار صنعاء أمام الحجاج.
وفي العام الفائت، تم الاتفاق بين جماعة الحوثي والحكومة اليمنية على السماح للحجاج القادمين من صنعاء بالسفر إلى السعودية عبر مطار صنعاء الدولي، لكن عودتهم أحدثت أزمة كبيرة، بعد أن احتجزت جماعة الحوثي عددًا من الطائرات التابعة لشركة الخطوط الجوية اليمنية في مطار صنعاء، واضطر أكثر من 1300 حاج إلى المكوث في السعودية حتى انتهت الأزمة التي افتعلتها الجماعة الحوثية.
في ذلك الوقت، اتهمت الحكومة اليمنية جماعة الحوثي بإجبار وكالات الحج والعمرة على توريد قيمة تذاكر الطيران للحجاج القادمين عبر مطار صنعاء إلى حسابات شركة الخطوط الجوية اليمنية في صنعاء، المجمدة منذ 8 مارس/ آذار 2023، والتي تسيطر عليها الجماعة، ما اضطر شركة الخطوط الجوية اليمنية الواقعة تحت سيطرة الحكومة اليمنية في عدن، لتغطية كافة النفقات التشغيلية لأكثر من مائة رحلة جوية، تنقل نحو 8,400 حاج من صنعاء إلى الأراضي المقدسة ذهابًا وإيابًا، من حساباتها في عدن، التي تتخذها الحكومة اليمنية عاصمة مؤقتة للبلاد.
على وقع أزمات الحجاج اليمنيين وخلافات أخرى، انقسمت إدارة شركة الخطوط الجوية اليمنية إلى إدارتين: الأولى في عدن تحت إدارة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، والثانية في صنعاء الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي، حيث كان من نصيبها أربع طائرات من طراز إيرباص، استولت عليها جماعة الحوثي منتصف العام الماضي، وتم تدميرها كاملًا في غارات شنّتها المقاتلات الإسرائيلية على مطار صنعاء، ردًّا على هجمات لجماعة الحوثي بصواريخ وطائرات مسيّرة على مطار تل أبيب، وانتقامًا للضغوطات التي تمارسها جماعة الحوثي ضد مصالح إسرائيلية، على وقع حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
تبادل الاتهامات
خلال سنوات الحرب، وجد الحجاج اليمنيون أنفسهم تائهين وسط انتهاكات طالتهم، وضعف في الخدمات المقدّمة لهم، حيث تتبادل جماعة الحوثي والحكومة اليمنية الاتهامات حيال المتسبّب في وقوع تلك الانتهاكات، من بينها إغلاق جماعة الحوثي لعدد من وكالات السفر والسياحة التي كانت تقدّم خدمات حجز التأشيرة والتذاكر للحجاج اليمنيين، وفرض جبايات وأتاوات غير قانونية بحق وكالات السفر والحجاج اليمنيين.
قابل ذلك اتهامات من جماعة الحوثي للحكومة اليمنية بإغلاق المسار الإلكتروني لتفويج الحجاج من العاصمة صنعاء، وجعلها تحت إشرافها بإيعاز من السلطات السعودية، وتسييس ملف الحج من خلال منح القاطنين في مناطق الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا حصصًا أكبر وفرصًا للحج من تلك التي تُقدّم للقاطنين في المناطق الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي.
وفي أغسطس/ آب 2017، اتهمت الحكومة اليمنية جماعة الحوثي باحتجاز جوازات سفر قرابة ألفي حاج يمني، وعرقلة سفر آخرين.
وفي موسم حج العام الجاري، حمّل وزير الأوقاف والإرشاد اليمني جماعة الحوثي مسؤولية عرقلة سفر اليمنيين، مؤكدًا أن وزارته تكفّلت بنقل الحجاج الذين قصفت إسرائيل طائرتهم، حيث تم نقلهم من صنعاء إلى عدن.
في حديثه مع “نون بوست”، يشير صلاح الأسدي، مدير إدارة الإعلام بقطاع الحج والعمرة بوزارة الأوقاف اليمنية، إلى أن كافة الحجاج اليمنيين قد وصلوا إلى مشعر عرفات، وكانت الحركة سلسة ومنتظمة ومحكمة من مكة المكرمة إلى مشعر منى، ومن ثم إلى مشعر عرفات، والجميع أصبح في مخيماتهم، حيث توفّرت لهم كافة الخدمات.
يختتم الأسدي حديثه بالتأكيد على أن وزارة الأوقاف التابعة للحكومة اليمنية تعمل على ترتيب مرحلة ما بعد أداء مناسك الحج، وتأمين عودة الحجاج اليمنيين بسهولة ويُسر.
وبالرغم من التصريحات الإعلامية التي يُبديها المسؤولون الحكوميون، فإن تأمين الحجاج اليمنيين وعودتهم سالمين إلى مدنهم يبقى تحدّيًا لهم، وقلقًا مستمرًا يجوب الحجاج اليمنيين الذين أجبرتهم ظروف الحرب القاهرة في بلادهم على عدم تأدية مناسكهم دون هذا القلق.