أكثر من عام ونصف مرّ، والاحتلال الإسرائيلي ما زال يرتكب في غزة واحدة من أبشع حروب الإبادة في العصر الحديث؛ يحرق البشر في خيام لجؤوا إليها هربًا من نيران القصف الذي لا يترك حجرًا ولا شجرًا إلا أصابه، يقطع أوصال جيل كامل، يعدم وسائل نجاتهم باستهداف المستشفيات والكوادر الطبية، يجوّعهم حتى الموت، ويقطع عنهم فتات المساعدات، بينما يبدو العالم غير آبه بهم.
فعليًا، ومنذ بدء الحرب على غزة، تعددت أوجه مناصرة العالم للقطاع، بدءًا من المظاهرات الحاشدة التي لم تنقطع، ومقاطعة المنتجات الداعمة للاحتلال، وليس انتهاءً بالاعتصامات الطلابية في الدول الغربية، وهي الأولى من نوعها التي تحدّت حكوماتها المتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن استمرار الإبادة بحق الفلسطينيين في القطاع ولّد شعور العجز لدى أصحاب الضمائر الحية، خصوصًا مع غياب المواقف الدولية الجدية لإيقاف الحرب.
كان هذا الشعور أحد الدوافع التي حرّكت ركاب سفينة “مادلين” ليبحروا في عرض البحر باتجاه قطاع غزة، حاملين الكثير من الأمل، مع مساعدات إنسانية رمزية، لكن عنجهية الاحتلال أوقفت السفينة قبل أن تدخل غزة، لتؤكد مرة أخرى على هشاشة الكيان الصهيوني.
ولم تكن “مادلين” الأولى في معركة كسر الحصار عن غزة، ولم يكن العجز وحده دافع ركابها؛ فقد سبقتها عدة محاولات حملت أهمية خاصة من حيث الضغط على الاحتلال والتضامن مع المحاصَرين داخل القطاع منذ عام 2007.
وسط كل ما يحدث، قد يراودك سؤال الجدوى: كيف يمكن لسفن وقوافل الحرية المدنية أن تنهي حصار #غزة مع آلة القتل العسكرية الإسرائيلية؟
📝إليك بعضًا من النتائج الملموسة التي من الممكن لهذه المبادرات أن تحقّقها 👇#مادلين#MadleenToGaza pic.twitter.com/QafYXVR4tk
— نون بوست (@NoonPost) June 10, 2025
أول اختراق ناجح (2008)
نجحت حركة “غزة الحرة” في كسر الحصار الإسرائيلي على غزة لأول مرة في صيف 2008، حيث انطلقت سفينتا “غزة حرة” و”الحرية” محملتين بـ 200 قطعة من الأطراف الصناعية و5 آلاف بالون للأطفال من اليونان، وعلى متنهما 44 شخصًا من 14 جنسية مختلفة.
حاول الاحتلال عرقلة وصولهم عبر زرع الألغام البحرية والتشويش على أجهزة الاتصالات، بالإضافة إلى سلسلة من التهديدات بمنع وصولهم، إلا أنه سمح بدخولهم إلى القطاع في 23 أغسطس/آب، ثم غادرت السفينتان يوم 28 سبتمبر/أيلول، وأقلّتا معهما عددًا من الفلسطينيين الذين كانوا عالقين في القطاع.
وأطلقت الحركة، التي أسسها ناشطون إثر الحصار الإسرائيلي المشدد على غزة عام 2006، 31 سفينة بين عامي 2008 و2016، وصلت 5 منها إلى غزة رغم تضييقات وقيود الاحتلال الإسرائيلي.
أسطول الحرية (2010)
استجابةً للحصار الخانق البري والجوي والبحري الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على سكان قطاع غزة، طرحت “هيئة الإغاثة التركية İHH” مبادرة “أسطول الحرية”، حيث اجتمعت مع 5 منظمات دولية غير حكومية، هي: حركة “غزة الحرة”، الحملة الأوروبية لإنهاء الحصار المفروض على غزة، سفينة اليونان إلى غزة، سفينة السويد إلى غزة، واللجنة الدولية لرفع الحصار عن غزة، وشكلوا معًا أسطولًا إغاثيًا تحت شعار “افتحوا الطريق إلى فلسطين”، ضمّ 6000 طن من المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
شارك في الأسطول، الذي تألف من 6 سفن، 750 ناشطًا من 37 دولة حول العالم، من بينهم نحو 15 برلمانيًا وأكثر من 60 صحفيًا دوليًا، بالإضافة إلى فنانين وناشطين حائزين على جوائز نوبل للسلام، ولكن، وبينما كان الأسطول يبحر في المياه الدولية قبالة شواطئ غزة فجر 31 مايو/أيار 2010، حاصر جيش الاحتلال الإسرائيلي الأسطول.
ثم اقتحم كبرى سفنه، “مافي مرمرة”، عبر عملية إنزال جوي، وأطلق الرصاص الحي وقنابل الصوت والغاز المسيل للدموع، ما أدى إلى مقتل 10 من المتطوعين وإصابة 56 آخرين، فيما تعرض آخرون للحبس والتعذيب والاستجواب ومصادرة ممتلكاتهم الخاصة.
لم تكتفِ “إسرائيل” بذلك، بل عملت على ترويج رواية مزيفة؛ حيث زعم تحقيق لجيش الاحتلال الإسرائيلي بعد الحادث أن الركاب جردوا الجنود من أسلحتهم ومعداتهم الشخصية واختطفوهم إلى بطن السفينة، وادّعى المتحدث باسم الجيش أن الركاب أطلقوا النار الحي على الجنود، ما أدى إلى إصابة بعضهم، علمًا بأن معظم ركاب السفينة كانوا من المدنيين.
تلقى الاحتلال الإسرائيلي إدانات واسعة جراء هذا الهجوم، كما أقرت المحكمة الجنائية الدولية بأن “أفعال إسرائيل في سفينة مافي مرمرة والسفن الأخرى تشكل قتلًا وجرحًا متعمدًا للأشخاص، وتصرفات تنتهك كرامة الإنسان، وهو ما يعد جريمة حرب”.
في السياق نفسه، أصدر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تقريرًا يدين قوات الاحتلال بانتهاك القوانين الدولية واستخدام القوة المفرطة، نافيًا الادعاءات الإسرائيلية التي اتهمت النشطاء بمهاجمة جنودها بأسلحة بيضاء ومعدات حادة.
“مافي مرمرة” مجددًا (2011)
رغم المجزرة التي تعرض لها، أكد الأسطول إصراره على كسر الحصار عن غزة، ففي يونيو/حزيران 2011، أعلن المنظمون جاهزية 10 سفن للمشاركة في الأسطول تحت شعار “كن إنسانًا”، محملة بـ 3 آلاف طن من المساعدات الإنسانية، وعلى متنها ألف شخص من صحفيين وسياسيين ونشطاء حقوق الإنسان وغيرهم، إلا أن العدد انخفض لاحقًا إلى 300 شخص.
لكن الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية عرقلا وصول هذا الأسطول إلى غزة حتى قبل إبحاره؛ حيث مارسا ضغوطًا شديدة على اليونان، التي كانت تعاني أصلًا من أزمة اقتصادية، وفق ما أفادت به رئيسة حركة “غزة الحرة” هويدا عراف.
أذعنت اليونان لهذه الضغوط ومنعت الأسطول من الإبحار، ورددت الحجج الإسرائيلية ذاتها بأن السفن تضم مجموعة من “المتطرفين”، وعللت قرارها بـ”أسباب تتعلق بسلامة الملاحة والركاب”، كما نفذت حملة اعتقالات بحق الناشطين وضيّقت عليهم.
رحلة سرية (2015)
لم ييأس تحالف “أسطول الحرية” أمام محاولات منعه من الوصول إلى غزة، وحاول هذه المرة تنظيم الرحلة بسرية تامة، ففي مايو/أيار 2015، شكّلوا أسطولًا مكوَّنًا من خمس سفن و80 شخصًا من الناشطين الدوليين والسياسيين، من بينهم الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي، والعضو العربي في الكنيست الإسرائيلي باسل غطاس وغيرهم.
واجه الأسطول مصيرًا مشابهًا لغالبية هذه السفن؛ فعند اقتراب إحدى سفنه من ميناء غزة، حاصرتها القوات الإسرائيلية، وقطعت الاتصالات عنها، وأجبرتها على التوقف، ثم اقتادت السفينة وركابها إلى ميناء أسدود وحقّقت مع الناشطين هناك قبل أن ترحّلهم إلى بلدانهم.
وكان الأسطول قد تلقى دعمًا أوروبيًا واسعًا؛ حيث نُظمت عدة وقفات تضامنية دعمه، ووقّع حوالي 100 نائب في البرلمان الأوروبي عريضة دعم للأسطول، مطالبين برفع الحصار عن غزة، من بينهم نائب رئيس البرلمان آنذاك ديمتريوس باباديموليس.
وكرد فعل على اعتراض سفينتها، أدانت وزارة الخارجية السويدية الاحتلال الإسرائيلي لتدخله على متن سفينة “ماريان” في المياه الدولية خلال مشاركتها في الأسطول، كما طالبت الرئاسة التونسية بالإفراج عن رئيسها الأسبق المرزوقي، واستنكرت احتجاز السفينة وركابها.
كعادتها، نفت “إسرائيل” عبر مكتب رئيس وزرائها وجود حصار على غزة واعتبرت أن النشطاء الذين يبحرون إلى غزة يتضامنون مع “جماعة إرهابية تعدم سكان غزة دون محاكمة، وتستخدم أطفال غزة كدروع بشرية”، مشيرة بذلك إلى حركة حماس، متغافلة عن سجلها الحافل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في القطاع.
قارب النساء (2016)
كان الأسطول هذه المرة مختلفًا؛ إذ كان المشاركون فيه من النساء فقط، ففي يوم المرأة العالمي، 8 آذار/مارس 2016، أُعلن عن إطلاق مشروع “قارب النساء إلى غزة”، على أن يشرع بالإبحار منتصف سبتمبر/أيلول من العام ذاته.
تكوّن الأسطول من سفينتين صغيرتين: “أمل” و”زيتونة”، وعلى متنهما 30 شخصية بارزة، من بينهن الإعلامية خديجة بن قنة، والناشطة علا عابد.
انطلق الأسطول من ميناء برشلونة في إسبانيا، لكن سفينة “أمل” أصيبت بعطل اضطرها إلى العودة إلى إسبانيا، أما “زيتونة” فاستكملت المسير حتى شارفت على الوصول إلى غزة، قبل أن تعترضها قوات الكوماندوز الإسرائيلية وتوقف الناشطات تمهيدًا لترحيلهن.
عودة وحرية وفلسطين (2018)
تحت شعار “من أجل مستقبل عادل لفلسطين”، انطلق أسطول الحرية الخامس نحو قطاع غزة المحاصر في يوليو/تموز 2018، مكوَّنًا من 3 سفن: “عودة”، و”حرية”، و”فلسطين”، وكانت تقل على متنها نحو 45 شخصًا من المتضامنين مع فلسطين وشخصيات عامة من حوالي 15 دولة.
وحملت السفن كمية رمزية من الأدوية والمستلزمات الطبية للمساهمة في تخفيف آلام الجرحى والمرضى الفلسطينيين، ولا سيما جرحى مسيرة العودة الكبرى، كونهم محرومين من الخروج لتلقي العلاج بسبب الحصار.
وتميّزت هذه المحاولة بمرور السفن، بشكل فردي أو جماعي، عبر حوالي 20 ميناء أوروبي، لتسليط الضوء على معاناة غزة وآثار الحصار الكارثية على الشعب الفلسطيني، لكن، وعلى مسافة تقل عن 50 ميلاً بحريًا من شواطئ القطاع، سيطرت قوات الاحتلال الإسرائيلي على السفن الثلاث في المياه الدولية، واعتقلت جميع من كانوا على متنها، ثم رحّلت كافة النشطاء إلى خارج البلاد.
أميال من الابتسامات (2023)
من أكثر المحاولات اللافتة نجاحًا في إطار كسر العزلة عن غزة، حملة “أميال من الابتسامات”، التي تشرف عليها جمعية “شركاء من أجل السلام” والحملة الأوروبية لكسر الحصار عن القطاع الفلسطيني، فمنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2009، بدأت الحملة بتسيير قوافل إغاثية نحو غزة بالشراكة مع متضامنين ومؤسسات وهيئات إغاثة عربية ودولية.
وبمشاركة مئات المتضامنين من نواب وبرلمانيين، تمكّنت الحملة، التي استطاعت تسيير 41 قافلة حتى فبراير/شباط 2023، من تقديم عشرات السيارات المخصصة لنقل المعاقين، ومئات الكراسي المتحركة الكهربائية، وكميات من الأدوية، وسيارات الإسعاف، وأجهزة الحواسيب للمدارس المتضررة من الهجمات الإسرائيلية المتكررة على القطاع المحاصر.
رغم الرمزية العالية لهذه المحاولات، لم تتوقف “إسرائيل” وأذرعها الإعلامية وحلفاؤها عن محاولات تسخيفها والتقليل من شأنها، إذ تصفها في خطابها الرسمي بأنها “استفزازات سياسية” أو “حيلة دعائية”، وتدّعي في كل مرة أن المشاركين فيها “ناشطون متطرفون” أو “أدوات في يد حركات معادية”.
وفي كل تحرك جديد، تسعى المنظومة الإعلامية الموالية للاحتلال إلى تصوير المتضامنين كـ “باحثين عن استعراض إعلامي”، وتشويه أهدافهم باعتبارها جزءًا من “أجندات سياسية”، بينما تعمل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على عرقلة هذه المبادرات مبكرًا، عبر الضغط على الدول التي تنطلق منها القوافل، أو عبر الترهيب القانوني والسياسي للنشطاء والمنظمين في بلدانهم، وذلك في مسعى مستمر لإفراغ هذه المبادرات من مضمونها الأخلاقي والإنساني، وقطع الطريق على أي محاولة لتوسيعها أو تحويلها إلى موجة تضامن عالمي أوسع.
في النهاية، قد لا تساوي كل المحاولات السابقة شيئًا في ميزان القوى العسكرية، لكنها كانت كافية لأنها شكّلت الـ”لا” في وجه “نعم” الاحتلال الإسرائيلي لمحو غزة عبر القتل والتدمير والتجويع وكل أشكال الحصار الأخرى. وفي ميزان الضمير الحي، تبقى هذه المحاولات أقوى من دول بأكملها تخشى الوقوف في وجه الإبادة الإسرائيلية.