أعلنت وزارة الدفاع الإسبانية، مطلع يونيو/حزيران الحالي، تعليق عقد لإنتاج نظام صواريخ “Spike” المضاد للدبابات لاستخدامه في قيادة القوات البرية، مؤكدة سحبها ترخيص شركة “رافائيل” للصناعات العسكرية الإسرائيلية في إسبانيا، وبدءها البحث عن بدائل غير إسرائيلية للتعاون والتطوير العسكري.
وكانت قيمة الصفقة التي أعلنت إسبانيا تعليقها تبلغ 287 مليون دولار، وتشمل 1700 صاروخ مضاد للدبابات، ليخرج المدير التنفيذي لشركة “رافائيل”، يوآف ترغمان، معلنًا أن التعاون مع إسبانيا جارٍ كالمعتاد، وأن تغيير الأسلحة بعد سنوات من التدريب ليس بالأمر السهل، ومؤكدًا أن شركته لم تتلقَّ أي إشعار بالإلغاء، وأنها لا تخشى ذلك، فلديها حاليًا طلبات تتجاوز قيمتها 8.591 مليار دولار.
القيمة المرتفعة لطلبات الأسلحة وأنظمة الدفاع ليست وحدها ما تُظهر من خلاله شركة “رافائيل” على الإعلام؛ فهناك ارتباطها الوثيق بالحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، واستخدامها للقطاع كساحة تجارب لفعالية أنظمتها ودقتها، وهناك الضربات التي تلقتها مصانعها على يد المقاومة اللبنانية قبل وقف إطلاق النار نهاية العام المنصرم، وهناك أخيرًا عقودٌ من الممارسة الدبلوماسية العسكرية الإسرائيلية، تقود من خلالها “رافائيل” حملات التشبيك مع الأنظمة ووزارات الدفاع العالمية.
“رافائيل”: سيرة الاكتفاء الذاتي العسكري الإسرائيلي
بدأت العصابات الصهيونية تصنيع سلاحها عام 1933، معتمدة على جمع خردة الحرب العالمية الثانية بأقل قدر ممكن من التكاليف، وإعادة تدويرها لاستخدامها في تنفيذ مخططاتها الاستعمارية، قبل أن تُلقي بها النكبة تحت أعين اللوم الدولي، والسخط العربي، والرغبة الدولية في المقاربة بين النفط والرضا العربي، والوجود الإسرائيلي.
حالة السخط، والرغبة في زيادة التسلح، دفعت الدول الغربية للوقوف على خط متحفظ يُقدِّم أقل قدر ممكن من العون العسكري لـ”إسرائيل”، بما لا يدفع الدول العربية إلى الحشد العسكري المنظّم؛ فأوقفت بريطانيا دعمها العسكري لـ”إسرائيل”، بينما ألغت فرنسا صفقة لطائرات “ميراج” المقاتلة، فيما لم تصل الولايات المتحدة إلى مستوى الداعم العسكري المباشر.
هذه المخاوف قابلتها “إسرائيل” بالتعزيز، فرفضت الالتزام باتفاقيات حظر انتشار السلاح، ومن ضمنها حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT)، وتلك المتعلقة بالأسلحة الكيميائية، بينما مارست جامعة الدول العربية ضغوطًا دبلوماسية وسياسية لفرض قيود على تسليح “إسرائيل”، شملت تهديد بعض الدول بقطع العلاقات أو إلغاء عقود نفطية إذا باعت أسلحة لتل أبيب.
تحت وطأة ذلك، اتجه بن غوريون لتأسيس وحدة سرّية تدمج بين العلم والسلاح، تهدف إلى تحقيق تفوّق عسكري “إسرائيلي” على المحيط العربي والإسلامي، وتعتمد في طريقها ذلك على تطوير أسلحة شديدة الفتك والتدمير.
عهد بها إلى مهندس يهودي أوكراني الأصل، أطلق مفهوم “حوما مجدال” الاستيطاني (برج وسور)، وساهم في تأسيس 56 مستوطنة قتالية خلال عشرة أعوام، قادرة على مهاجمة الفلسطينيين والدفاع عن نفسها في الوقت ذاته، وخدم في صفوف “الهاجاناه” خلال النكبة، مظهرًا كفاءة عالية في التعامل مع الأسلحة.
كان ذلك هو المهندس شلومو غور، الذي أسس وأدار فيلق العلوم الإسرائيلي وهو ما عُرف لاحقًا بـ HEIL HAMADAH، ومن خلاله عمل بالتعاون مع إسحاق بنتوف، على تطوير أسلحة ومتفجرات وبناء أول صواريخ إسرائيلية، ليتطور الفيلق لاحقًا وينقسم إلى وحدة “ EMET” عام 1952، التي أصبحت لاحقًا هيئة تطوير الأسلحة عام 1954، والتي تُعرف اليوم باسم رافائيل.
وهكذا، استطاعت هذه الوحدة تأمين قاعدة تكنولوجية عسكرية لـ”إسرائيل” في سنواتها الأولى، وشكّلت نواة للتصنيع العسكري المحلي في ظل غياب الاستيراد الخارجي. وفي عام 1958، أُعيد تنظيمها لتتمكّن من توفير بنادق “عوزي” الهجومية، وإعادة تركيب صواريخ ومعدات عسكرية بمساعدة فرنسية سرية، ما أهلها لدخول حرب عام 1967 بمخزون عسكري جيد.
ظلت “رافائيل” جزءًا من وزارة الجيش الإسرائيلية، وتوسّعت مهامها بالتوازي مع تطور العلوم العسكرية؛ فعملت على تطوير القنابل والألغام والعبوات الناسفة، وأسست أول خطوط إنتاج محلي للذخيرة. وفي أواخر الخمسينيات، بدأت بتصميم صواريخ أرض-جو دفاعية، ثم أطلقت أول صاروخ جو-جو محلي، من طراز “شافرير” (Shafrir)، الذي استُخدم لاحقًا ضد الجيوش العربية في حرب 1973.
وفي الفترة ما بين الثمانينيات والتسعينيات، أطلقت “رافائيل” أنظمة تشويش لاسلكي مكّنت جيش الاحتلال الإسرائيلي من تعقّب الرسائل والمكالمات، وتنفيذ عمليات في مناطق أخرى بدعم من إعاقة إلكترونية منظّمة، وهي المنظومة التي أصبحت تُعرف لاحقًا باسم “التوجيه الراداري”.
كما لم تقتصر تداخلات “رافائيل” العسكرية على وحدة بعينها؛ فمن خلال تعاونها مع سلاح الجو، أنتجت صواريخ Popeye التي تُطلق من الطائرات، وعززتها بأنظمة توجيه تعمل بالليزر وأشعة التلفزيون، أما في سلاح الدبابات، فقد طوّرت أنظمة مضادة للدبابات، عُرف منها نظام Spike.
أما على مستوى التوظيف وبناء القاعدة البشرية، فقد اعتمدت “رافائيل” بشكلٍ أساسي على علماء يهود من أوروبا الشرقية، أغلبهم من خلفيات علمية في مجالات الفضاء أو خدموا سابقًا في وحدات عسكرية داخل الجيش الإسرائيلي.
إلى جانب مهندسين من تخصصات متعددة، توسّع نطاقهم لاحقًا ليشمل خبراء في الحوسبة، وأنظمة التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، ومن بينهم: يوآف هير إيفين، الرئيس التنفيذي القادم من سلاح المدفعية والمدرعات، ويوآف تارغمان، الذي تقاعد من البحرية وعمل سابقًا في صناعات الفضاء.
لكن هذه الإنجازات لم تُترجم إلى أرباح تُذكر؛ فقد ظلت “رافائيل” تعاني من ركودٍ ربحي وغيابٍ عن الأسواق والمعارض العالمية، نتيجة ارتباطها المباشر بوزارة الجيش، ما جعلها مقيدة من حيث التسويق والتصدير، ومعتمدة على التمويل الحكومي.
كما دخلت في حالة ترهّل بعد اتفاق أوسلو وتراجع التهديدات الأمنية، بالتزامن مع انفتاح إسرائيلي متسارع على الشركات الأمريكية والأوروبية، وظهور منافسين من القطاع الخاص، وعلى رأسهم شركة ألبيت سيستيمز (Elbit Systems Ltd)، التي انطلقت بحرية في فضاء المنافسة والتطوير والتسويق الدولي.
من السرية إلى العلن
في عام 1995، وصلت خسائر شركة “رافائيل” إلى 120 مليون دولار، ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إسحاق رابين، لإطلاق عملية إعادة هيكلة، تمثلت في فصل الشركة عن وزارة الدفاع، وإعلانها كشركة مساهمة محدودة مملوكة للحكومة، وتعيين المهاجر اليهودي البولندي عاموس جوزيف رئيسًا لمجلس إدارتها، ثم رئيسًا فعليًا لها.
عاموس جوزيف كان هو الآخر من خلفية عسكرية؛ إذ خدم في عصابات “البلماخ” خلال حرب النكبة، ثم أصبح لواءً في جيش الاحتلال – وهي أعلى رتبة في الجيش بعد رئيس الأركان – وتولى منصب رئيس قطاع الذخيرة، وقائدًا عامًا للإمدادات، ليُصنَّف لاحقًا كأحد كبار العلماء في الوحدات العسكرية، قبل أن يتحوّل إلى عالم نووي، ويترأس جامعة “التخنيون” التقنية، وصولًا إلى تكليفه بمهمة إنقاذ “رافائيل” وإعادة هيكلتها.
وحين أنهى جوزيف مهمته عام 2001، كانت “رافائيل” قد أكملت عملية التحوّل؛ إذ خصّصت 10% من أنشطتها لبرامج البحث والتطوير، وانفتحت على الأسواق العالمية، ومُنحت حرية التصدير، فوصلت قيمة مبيعاتها إلى 830 مليون دولار، محققةً ربحًا صافياً مقداره 37 مليون دولار، لتدخل بذلك مرحلة المنافسة في الأسواق العسكرية العالمية، مستندةً إلى خبراتها في التجربة الميدانية.
بحلول عام 2006، وخلال الحرب الإسرائيلية على لبنان، قدّمت الشركة مجموعة من أنظمة الاعتراض والتعقّب التي أسهمت في تطوير الأداء الجوي والميداني والبحري للجيش، ما دفعها إلى تغيير اسمها من شركة رافائيل لتطوير الأسلحة المحدودة إلى شركة رافائيل لأنظمة الدفاع المتقدمة المحدودة.
وبعدها بعامين، أثناء حرب 2008، ومن ثم 2014، ومن خلال القبة الحديدية ومقلاع داوود، وجملة من أنظمة الاستهداف الجوي الدقيق، والقنابل الفسفورية والعنقودية الحارقة، والقنابل الارتجاجية، والخارقة للتحصينات، استطاعت الشركة أن تجتذب أنظار سوق السلاح العالمي.
لتتقدم “إسرائيل” سريعًا في ميدان كبار مزوّدي السلاح، وتنتقل إلى نادي الخمسة الكبار، لا يسبقها في ذلك إلا الولايات المتحدة وروسيا، بينما تحتدم المنافسة بينها وبين فرنسا وبريطانيا وألمانيا. وتتمتّع بميزة تنافسية فريدة: خوضها المستمر لغمار الحروب، والخبرة العسكرية لمصمّمي الأنظمة، والتجريب الميداني المباشر في الأراضي الفلسطينية، إلى جانب مناطق الصراع التي تُقدَّم فيها التقنيات على شكل “هبات إسرائيلية”، مثل: إثيوبيا، جنوب السودان، بورما، الهند، وغيرها.
نتيجة لذلك، حققت الشركة عام 2015 أرباحًا صافية بقيمة 127 مليون دولار، ارتفعت عام 2016 إلى 130 مليون دولار، وبلغ إجمالي طلبات الأسلحة والتدريب حينها 3.1 مليار دولار، فيما وصلت قيمة المبيعات الفعلية إلى 2.291 مليار دولار، مع زيادة بنسبة 12% في تراكمات الطلبات مقارنة بالعام السابق.
وفي الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة عام 2021، حطّمت الشركة أرقامًا قياسية في مبيعات الأسلحة، تجاوزت 10 مليارات دولار خلال أقل من أسبوعين من انتهاء الحرب. وشملت الصفقات: طائرات مسيّرة، وصواريخ “سبايك” الموجّهة، وقذائف بزنة نصف وربع طن، وأربعة صواريخ جديدة جُرِّبت للمرة الأولى خلال المعركة.
وصُوِّر أثرها بالصوت والصورة لاستخدامه في عمليات التسويق للدول التي تعتبر “إسرائيل” مصدر تسليح رئيسًا، لتُسجل الشركة في نهاية العام ارتفاعًا عامًا في الأرباح فاق 500 مليون دولار.
على ركام الإبادة..
في سبتمبر/أيلول 2024، استهدفت صواريخ “حزب الله” مقر شركة “رافائيل” في شمال فلسطين المحتلة للمرة الثانية على التوالي خلال حرب الإسناد. وفي الشهر نفسه، نفّذت المقاومة كمينًا في رفح، سقط خلاله دانييل ميمون توأف، نجل شلومو توأف، نائب رئيس شركة “رافائيل” للصناعات العسكرية.
لكن ذلك لم يؤثّر في النمط التصاعدي لإنتاج الشركة، أو في اختبارات صناعاتها ومنتجاتها الحربية، ولا في تعاونها مع الأسواق العسكرية العالمية؛ إذ تدير اليوم نحو 40 شركة تابعة لها، موزعة على الولايات المتحدة، وأوروبا، والهند، والإمارات، وإفريقيا، ما يجعل الضربات البشرية واللوجستية على مقرها المركزي تأثيرًا هامشيًا.
وقد ارتفعت أرباحها في عام 2024 إلى صافي 272 مليون دولار، بينما قفز إنتاجها بنسبة 60%، ووصلت مبيعاتها إلى 4.8 مليار دولار، مع تراكم طلبات بقيمة 17.76 مليار دولار. واحتلّت المرتبة 36 عالميًا بين أكبر شركات السلاح، والمرتبة الثانية محليًا بعد شركة “ألبيت سيستمز”. كما دخلت صواريخ Spike المضادة للدبابات، من الجيل الرابع، إلى أكثر من 39 دولة حول العالم.
أما صواريخ Popeye، فقد استُخدمت في التصدي للضربة الإيرانية عام 2024، ورغم ملاحظات فنية عليها، جذبت اهتمام الحكومة الألمانية، التي وقّعت مع “رافائيل” صفقة أسلحة بقيمة 14 مليار دولار. في المقابل، تواصل الشركة اختبار منظومة الدفاع الجوي SPYDER في مواجهة صواريخ الحوثيين القادمة من اليمن، وجذبت معها استثمارات دولية جديدة. كما روّجت لـ”معطف الريح”، وهي دروع ذكية للدبابات، جُربت في غزة، ثم أوكرانيا.
ومن اللافت أن نصف الأرباح العامة لشركة “رافائيل” يذهب مباشرة إلى خزينة دولة الاحتلال، وأن الطفرة الكبرى في مبيعاتها بدأت منذ الربع الأخير من حرب غزة وحتى العام الحالي، كما أن نصف طلباتها التسليحية والتدريبية تأتي من أسواق دولية، ما يضع علامات استفهام حقيقية حول مصداقية التصريحات الصادرة من بعض الدول، كإسبانيا وإيطاليا، بشأن وقف الاستثمارات أو تجميد التعاون العسكري مع الشركة.
أما آخر ما قدّمته “رافائيل”، فهو مشروع “الشعاع الحديدي”، أول نظام عالمي لأسلحة الليزر عالية الطاقة، مفتوح الهندسة، يتوافق مع المعدات البرية والبحرية والجوية، ويعترض أجسامًا بحجم قطعة نقدية من على بُعد 10 كيلومترات، وبتكلفة لا تتجاوز دولارًا واحدًا، باستخدام الطاقة الكهربائية، ومن المقرّر أن يُعرض هذا النظام للمرة الأولى في أكبر معرض دولي عسكري منذ بدء الإبادة، في باريس.
بالمحصلة، ما تطرحه “رافائيل” لا يختبر فقط نطاق تطورها، بل يختبر أيضًا منطق هذا العالم الكاذب ومنظومته الأخلاقية الزائفة. عالمٌ لا يرى الأجساد المحترقة، بل يُفتتن بـ”الضربات الذكية” ونتائجها الغبية. فبين الركام والحرائق، لا يتحرك لتوثيق جريمة، ولا يندفع لوقفها، بل يلهث خلف صفقات سلاح أكبر. حتى التلويح بإلغاء العقود وتجميد التعاون، يتكشّف لاحقًا أنه ليس أكثر من مسكّن مؤقت لمشاعر الشعوب المتضامنة.
في عالمٍ يقتات على الجيف، لا يرى في أدوات الموت سوى دقة الإصابة وتطوّر أنظمة الاعتراض. لا يُقدّم من أخلاقه سوى ما يلائم تاجر أكفان وسط الحرب. وهنا يقف سؤال حائر في الوسط: هل يحتاج العالم إلى أكثر من الإبادة كي يلجم كيانًا لا يزدهر إلا على صوت الانفجارات وأكوام الرماد؟