اعتمدت “إسرائيل” في هجومها على إيران مبدأ “الضربة المباغتة الصادمة”، وهو مبدأ يمثل ركيزة مركزية في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، التي جرى تطويرها منذ تأسيس دولة الاحتلال، استنادًا إلى إدراك حاد لمحدودية العمق الجغرافي وقلة الموارد البشرية مقارنة بجيرانها.
وتفترض هذه العقيدة أن تحقيق الحسم لا يكون إلا عبر المبادرة بالهجوم، وبقوة فائقة، لكسر تماسك الخصم وإرباك قدراته القيادية قبل أن يتمكن من تنظيم رد فعل فعّال.
الضربة الإسرائيلية الأولى سعت إلى استنساخ النموذج ذاته الذي اختبرته “تل أبيب” بنجاح نسبي في مواجهات سابقة، إذ ركزت على استهداف متوازٍ لهرم القيادة العسكرية والأمنية، والدفاعات الجوية، ومنصات الصواريخ الباليستية، والمفاعلات النووية، إضافة إلى تنفيذ اغتيالات في صفوف العلماء.
وكانت الغاية إحداث شلل واسع في منظومة القيادة والسيطرة، وقطع خطوط الاتصال بين المستويات السياسية والعسكرية، وتعطيل القدرات الحيوية للنظام الإيراني.
لكن التقدير الإسرائيلي سقط سريعًا. إذ أظهرت إيران قدرة واضحة على امتصاص الضربة الأولى وتجاوز آثارها، عبر تدارك سريع لملء الشواغر، وإعادة ترتيب خطوط الاتصال، والتحول إلى نمط الطوارئ. وقلَّصت هذه السرعةُ في الاستجابة من فعالية الضربة الإسرائيلية، وأوقفت مبكرًا موجةَ النشوةِ في الأوساط الإسرائيلية التي راهنت على انهيار سريع في بنية النظام الإيراني.
الإغراق الصاروخي: استراتيجية الردع الإيرانية في اختبار النار
في مساء الجمعة 13 يونيو/حزيران الجاري، وبعد ساعات قليلة من الضربة الإسرائيلية، أطلقت إيران ردها العسكري واسع النطاق، معلنة عبر وكالة الأنباء الرسمية “بدء الرد الإيراني الساحق”، عبر إطلاق مئات الصواريخ الباليستية في اتجاه العمق الإسرائيلي.
وأكد بيان الحرس الثوري الإيراني أن “الحرس الثوري نفذ رده الحازم والدقيق ضد عشرات الأهداف والمراكز العسكرية والقواعد الجوية للكيان الصهيوني الغاصب”، مشيرًا إلى أن الهجمات نُفذت على ثلاث موجات، وتركزت على وسط الأراضي المحتلة، بما في ذلك منطقة “تل أبيب الكبرى”.
أظهرت المشاهد التي أعقبت الهجوم أثرًا بالغًا على الجبهة الداخلية الإسرائيلية. فمع تجاوز عدد الصواريخ المئتين في اليوم الأول، ثم نحو 80 صاروخًا في اليوم التالي، بدت شوارع “تل أبيب” شاهدة على ما وصفه مسؤولون إسرائيليون بـ”دمار غير مسبوق”.
كان الأكثر رمزية في تلك الهجمات استهداف مجمع “الكرياه” – المقر المركزي للجيش الإسرائيلي منذ عام 1948 – الذي يضم وزارة الحرب، وغرفة “الحفرة” المحصنة تحت الأرض، والتي تُعد مركز إدارة العمليات الحربية والاجتماعات الأمنية العليا.
جاء هذا الهجوم ردًا مباشرًا على ضربات إسرائيلية طالت مراكز حساسة في إيران، منها وزارة الدفاع، ومقرات الحرس الثوري، واغتيال قائد مقر “خاتم الأنبياء“، أعلى هيئة للقرار العملياتي العسكري في البلاد.
وأما من الناحية التكتيكية، فقد كشفت الضربات الإيرانية عن ملامح استراتيجية مدروسة، قوامها “الإغراق الصاروخي”، إذ أطلِقت دفعات متعددة الطرازات والأحجام والسرعات، بهدف إنهاك أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية واستنزاف قدراتها، بما يسمح للصواريخ الأثقل والأكثر دقة باختراق الدفاعات والوصول إلى أهدافها الحيوية بأقل خسائر.
وعلى الرغم من الجهد الهائل الذي سخَّرته “إسرائيل”، مدعومة بمنظومات الدفاع الأمريكية، مثل بطاريات “ثاد” التابعة للقيادة المركزية الأميركية (سنتكوم)، ومنظومات الإنذار المبكر والتكامل الدفاعي الإقليمي، فإن هذه المنظومات فشلت في اعتراض كامل الصواريخ، ما سمح لعدد ملموس منها بإصابة أهداف حساسة داخل “إسرائيل”.
وتكشف هذه الجولة من الرد الإيراني عن نتيجة أولية بالغة الدلالة، تستند إلى أنه على الرغم من أن الضربات الإسرائيلية كانت مركزة واستهدفت مكونات حيوية في القدرات العسكرية الإيرانية، فإن البنية الصاروخية الإيرانية ظلت فاعلة ومتماسكة، ما يؤكد نجاح طهران في اتخاذ تدابير وقائية، خففت من أثر الضربة الأولى، وأبقت على قدرتها في الإطلاق، والتحكم، والتوجيه، في واحدة من أعقد العمليات الصاروخية التي تشهدها المنطقة.
الضغط على المركز الإسرائيلي وكسر معادلة الهامش الآمن
مع بدء الرد الإيراني، دشَّنت طهران استراتيجيتها العسكرية بتركيز نيراني مكثف على مراكز المدن الإسرائيلية، ولا سيما منطقة “تل أبيب الكبرى”، في تحول واضح نحو سياسة “قصف المركز” بدلًا من الاكتفاء بردود موضعية أو استهدافات عسكرية تقليدية. وجاء هذا التوجه كخيار استراتيجي مدروس، يستند إلى مراكمة القوة وتحويل مكامن الضعف إلى أدوات ضغط فعَّالة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
ففي اليوم الأول وحده، تعرضت مدن رئيسية مثل “تل أبيب”، و”رمات غان”، و”ريشون لتسيون”، لأضرار جسيمة، إذ أفادت وسائل إعلام عبرية أن تسعة مبانٍ دُمِّرت بالكامل في “رمات غان”، في حين طالت الأضرار مئات المباني الأخرى، وتضررت البنية التحتية والمركبات في أنحاء واسعة من “غوش دان”، قلب الكيان العمراني والاقتصادي في “إسرائيل”.
وتحدثت القناة 13 الإسرائيلية عن أن “الدمار غير المسبوق” دفع بلدية “تل أبيب” إلى إجلاء مئات السكان، وسط إعلان الشرطة عن “مواقع سقوط متعددة” وحالة طوارئ شاملة في صفوف قوات الإنقاذ.
وأما في اليوم الثاني، فقد تواصل القصف ليطال بات يام ورحوفوت، مُسفرًا عن مقتل 9 إسرائيليين، وإصابة أكثر من 200، ووجود 35 مفقودًا على الأقل، وفقًا لتقديرات الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
وفي تطور بالغ الرمزية، أُصيب معهد “وايزمان” للبحوث في رحوفوت بأضرار مباشرة، واندلع حريق في أحد مباني المختبرات، ما أضفى بعدًا علميًّا واستراتيجيًّا على القصف الإيراني يُمثل ردًّا بالمثل على الضربات الإسرائيلية التي طالت علماء نوويين ومراكز أبحاث.
وفي الشمال، استهدفت إيران ميناء حيفا بضربة صاروخية مركزة، أصابت مصفاة النفط وخطوط الأنابيب وخطوط النقل، كما أفادت إذاعة جيش الاحتلال، ما يمثل ردًّا على الاستهداف الإسرائيلي لميناء كنغان بمحافظة بوشهر جنوب إيران، والتلويح بإمكانية توجيه ضربة قاسية إلى البنية التحتية الحيوية للطاقة.
تعكس هذه الهجمات تصميمًا إيرانيًّا على نقل المعركة إلى العمق الإسرائيلي، استنادًا إلى قناعة بأن الاستناد فقط على محاولة توجيه ضربات مركزة على منشآت حيوية، مثل المطارات والمنشآت النووية، تبقى محفوفة بالمخاطر التقنية والعسكرية، في ظل تطور الدفاعات الجوية الإسرائيلية وتدخل الأنظمة الدفاعية الأمريكية المتقدمة.
لذلك، كان الخيار الأكثر فاعلية هو التحول إلى استراتيجية “قصف المدن”، التي تسعى إلى ضرب الجبهة الداخلية للعدو مباشرة، وخلق حالة من الشلل شبه الكامل في مفاصل الاقتصاد والحياة اليومية.
وتراهن إيران في هذه الاستراتيجية على عاملين رئيسيين:
- ضعف الجبهة الداخلية الإسرائيلية، فهي لم تُبنَ لاستيعاب الحروب داخل حدودها، بل قامت على مبدأ تصدير الصراعات إلى أراضي الخصوم. ومن ثم فإن استمرار القصف والانهيار الجزئي في البنية التحتية من شأنه أن يُربك المجتمعَ الإسرائيليَّ ويزعزع ثقةَ الجمهور بالحكومة ومؤسسات الأمن.
- غياب العمق الاستراتيجي الجغرافي في “إسرائيل”، إذ إن أي قصف مركز في قلب الكيان يؤدي إلى شلل فعلي في الحركة الاقتصادية والتجارية، ويترك آثارًا واسعة النطاق يصعب معالجتها سريعًا، كما أن منشآت الطاقة والمواصلات الحيوية غير محصنة بالشكل الكافي أمام ضربات دقيقة.
في المقابل، تستفيد إيران من ميزة جغرافية هائلة، إذ تُعد الدولة الثامنة عشرة في العالم من حيث المساحة (1,648,195 كم²)، ما يمنحها عمقًا استراتيجيًّا واسعًا وقدرة مناورة مرنة في حال تعرَّضت لضربات واسعة.
وعلى الرغم من أن الضربات الإسرائيلية نجحت في استهداف بعض مواقع الدفاع الجوي ومراكز القيادة، فإن قدرة إيران على الصمود ما تزال مرهونة بقدرتها على حماية مقدراتها الاستراتيجية من التدمير الكلي أو تشويش فعالية الضربات المعادية.
هل المصالح الأمريكية على قائمة الأهداف؟
يشكل السؤال عن موقع الولايات المتحدة في الاشتباك المتصاعد بين إيران والاحتلال الإسرائيلي أحد أبرز الأسئلة الحاسمة التي تفرض نفسها على طاولة التحليل الاستراتيجي. فالولايات المتحدة، التي كانت حتى وقت قريب منخرطة في مفاوضات غير مباشرة مع طهران حول الملف النووي، لم تكن بمنأى عن المشاركة بوضوح في “الخداع والتضليل” الذي سبق الضربة الإسرائيلية الأولى.
وبينما سارع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى وصف الهجوم الإسرائيلي بـ”المثالي”، كاشفًا عن انتهاء مهلة الستين يومًا التي منحها لإيران للتوصل إلى اتفاق نووي، عاد وأكد لاحقًا أن واشنطن لا تسعى إلى حرب موسعة، بل ترغب في دفع طهران للقبول بصيغة الاتفاق المقترحة.
كما شدد ترامب في خطاب لاحق على أن “الولايات المتحدة لم تكن لها أي علاقة بالهجوم الإسرائيلي على إيران”، مضيفًا أن واشنطن لا تسعى إلى الصدام، وأن “التوصل إلى اتفاق بين إيران وإسرائيل ممكن بسهولة”، على حد تعبيره. لكنه عاد وأطلق تحذيرًا شديد اللهجة مفاده أن “أي هجوم تتعرض له الولايات المتحدة من إيران سيقابل برد غير مسبوق وبأقصى قوة”.
هذا التباين الظاهري في الخطاب الأمريكي بين الثناء على الهجوم، والرغبة في التهدئة، والتهديد برد غير مسبوق، كشف عن التردد البنيوي في المؤسسة الأمريكية حيال الدخول في حرب جديدة في الشرق الأوسط، على الرغم من عمق التحالف الاستراتيجي مع “إسرائيل”. ويعكس هذا التخبط في المقاربة الأمريكية رغبة مزدوجة في حماية الحليف الإسرائيلي من دون التورط في صراع مفتوح مع إيران.
وفي هذا السياق، صرَّح مسؤول أمريكي لقناة “الجزيرة” بأن “الولايات المتحدة ما تزال غير معنية بانخراط عسكري مباشر إلى جانب إسرائيل في استهداف منشآت نووية إيرانية”، مضيفًا أن ما تأمله واشنطن “عودة إيران إلى طاولة المفاوضات وتحقيق السلام”.
في الإطار ذاته، كانت واشنطن قد أعلنت رسميًّا، منذ الساعات الأولى للهجوم الإيراني، أنها لا تشارك في أي جهد هجومي، لكنها تنخرط في منظومة الدفاع الجوي المشترك لحماية “إسرائيل”. وقد ساهمت عمليًّا في دعم الدفاعات الإسرائيلية وضمان تكامل المظلة الدفاعية في الشرق الأوسط لحماية هذا الهدف.
فسر هذا السياق مسؤول إيراني كبير في حديث لشبكة CNN بوضوح، حين قال إن بلاده “سترد بحزم على أية دولة تحاول الدفاع عن النظام الصهيوني”، مشيرًا ضمنيًا إلى أن القواعد الأمريكية في المنطقة قد تتحول إلى أهداف مباشرة، إن تطورت المواجهة إلى مواجهة مفتوحة.
وتشير تصريحات كهذه إلى أن إيران تحتفظ بخيار استهداف المصالح الأميركية في المنطقة ضمن بنك أهدافها، لكنها تمارس حاليًّا درجة عالية من الانضباط الاستراتيجي، إذ تدرك أن الدخول في صدام مباشر مع الولايات المتحدة سيُخرج الصراع من نطاق السيطرة، وسيمنح واشنطن الذريعة اللازمة لتوجيه ضربات قاصمة للبنى التحتية الإيرانية، باستخدام تفوقها الجوي والصاروخي والتقني، في ظل وجود أجنحة داخل الإدارة الأمريكية تفضل هذا الخيار.
في المقابل، تتعامل إيران مع التحالف الأمريكي–الإسرائيلي بوصفه حقيقة ثابتة، لكنها تحاول عزل ساحتَي الاشتباك، من خلال تكثيف الضغط على “إسرائيل”، وتحذير القوى الإقليمية التي تحتضن القواعد الأمريكية من مغبة الانخراط في المواجهة. فإيران تدرك أن العديد من هذه الدول، على الرغم من عداوتها معها، لا ترى في تفوق “إسرائيل” الإقليمي مصلحة مباشرة، ولا ترغب في أن تكون أراضيها منصات لحرب قد تقلب المعادلات الجيوسياسية.
يبدو التهديد الإيراني المبطَّن للمصالح الأمريكية، إذن، جزءًا من استراتيجية الردع الوقائي، يهدف إلى تقليص الدعم العسكري المباشر لـ”إسرائيل”، دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع واشنطن.
ويفسر هذا أيضًا تجنب إيران حتى الآن لقرارات دراماتيكية، مثل إغلاق مضيق هرمز، على الرغم من أن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تهدِّد حركة التجارة العالمية وترفع أسعار الطاقة، وتُربك الأسواق الأمريكية، ما قد يُعد ذريعة قوية للتدخل الأمريكي الذي تتجنه إيران.
وبين التهديد والتحييد، تتضح معادلة إيران القائمة على مركزية تفكيك الهيمنة الإسرائيلية على القرار الإقليمي دون منح الولايات المتحدة مبررًا للحرب.
وفي المحصلة، تمثِّل المواجهة الحالية بين إيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي أكثر من مجرد تصعيد عسكري. إذ إنها معركة مركزية في مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط، تدور في قلبه معادلة النفوذ والسيادة. ولا يقتصر الهدف الإسرائيلي منها على تعديل السلوك الإيراني في الملف النووي، بل يتجاوز ذلك إلى محاولات تحييد إيران لسنوات، أو حتى الدفع نحو انهيار النظام.
وفي هذا السياق، فإن العامل الحاسم سيبقى قدرة إيران على الحفاظ على منظومتها الهجومية، واستمرار توجيه الضربات المؤثرة للجبهة الداخلية الإسرائيلية. وإذا ما استطاعت طهران الإبقاء على مستوى عالٍ من الضغط النوعي والمستمر، فإن ذلك سيشكِّل التحدي الأخطر لحكومة نتنياهو، وقد يضع المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية أمام معضلة غير مسبوقة في تاريخ الصراع، بحيث تكون جبهته الداخلية تحت القصف طويل الأمد، بلا ملاذ آمن، ولا حل سياسي في الأفق يُحقِّق لها النتيجة الاستراتيجية المرجوة.