ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد سنوات من المحادثات والعقوبات والتهديدات، يبدو أن المنطقة تشهد الآن بداية حرب لطالما أُثيرت المخاوف بشأنها في الخليج الفارسي بين إيران وإسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة.
هذا التهديد لم يكن يومًا على هذا القدر من الخطورة. فقد شنّت إسرائيل غارات على مواقع إيرانية بعد منتصف ليل الجمعة، وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن العملية “لم تنتهِ بعد”، في إشارة واضحة إلى أن الهدف منها هو عرقلة المسار الدبلوماسي الذي تسعى إليه واشنطن مع طهران.
كان مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد صوّت يوم الخميس على قرار يوبّخ إيران لعدم امتثالها بالتزاماتها بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي واتفاقيات أخرى، مشيرًا إلى أن الانتهاكات وصلت إلى مستوى يبرّر تدخّل مجلس الأمن الدولي.
هذا التطور يُنذر بعودة العقوبات الدولية، وليس فقط الأميركية، ما من شأنه أن يفاقم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها إيران ويهدد بزعزعة استقرار حكومتها. لكن إسرائيل لم تنتظر أي تحرك دولي محتمل، وسارعت إلى تنفيذ الهجوم خلال أقل من 24 ساعة على صدور قرار الوكالة، مستندة إلى قرار التوبيخ كمبرّر للتحرك.
كان من الواضح منذ فترة أن القرار بات وشيكًا، خصوصًا بعد التقرير الذي نشرته الوكالة الدولية في 31 أيار/مايو، والذي وثّق انتهاكات إيرانية متعددة وأعرب عن قلقٍ إزاء الزيادة الكبيرة في مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة تتجاوز 60 بالمئة، وهي نسبة تقترب من مستوى التخصيب المطلوب للأسلحة النووية.
وفي تحرك استباقي للتصويت، أقدمت الولايات المتحدة على إجلاء الموظفين غير الأساسيين وعائلات العاملين من سفاراتها في دول مجاورة، أبرزها العراق والكويت والبحرين، ما يعكس إدراك واشنطن لاقتراب عمل عسكري إسرائيلي. ومن شبه المؤكد أن إسرائيل ما كانت لتُقدِم على هذه الخطوة من دون ضوء أخضر من الإدارة الأميركية، بصرف النظر عن تصريحات مسؤولي إدارة ترامب.
في خطوة تعكس نهجها المزدوج، وجّهت إسرائيل في وقت سابق من اليوم نفسه اتهامات لطهران بخرق معاهدة حظر الانتشار النووي، على الرغم من أن إسرائيل نفسها ليست طرفًا في المعاهدة، وتمتلك برنامجًا نوويًا غير معلن وغير خاضع لأي تفتيش، وهو البرنامج الوحيد من نوعه في منطقة الشرق الأوسط.
على المستوى العملياتي، كانت إسرائيل قد أعدّت مسبقًا خطة للهجوم على إيران بناءً على فرضية أنها قد تضطر إلى التصرّف دون دعم أميركي مباشر. وحتى لحظة إعداد هذا التقرير، تبدو هذه الفرضية قد تحققت بالفعل في وقت يُرجّح أن تسعى فيه إسرائيل إلى جرّ الولايات المتحدة إلى المواجهة إذا ما طال أمدها.
كانت تقارير صحفية قد أفادت، يوم الإثنين، بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الامتناع عن مهاجمة إيران طالما استمرت المفاوضات الدبلوماسية. ومن المقرّر استئناف هذه المحادثات، في الوقت الحالي، اليوم الأحد في العاصمة العُمانية مسقط. لكن يبقى السؤال ما إذا كانت ستُعقد فعلاً بعد التطورات الأخيرة.
مع ذلك، ألمح ترامب إلى تراجع تفاؤله بإمكانية التوصل إلى اتفاق مع إيران. وتبدو الرسالة الأميركية في هذه المرحلة أقرب إلى تهديد مباشر، يُشبه – كما وصفه الصحفي الإسرائيلي أمير تيبون – توجيه مسدس محشوّ إلى رأس طهران مع إنذار صريح: “عليكم القبول بالاتفاق، وإلا فإن المسدس – أي إسرائيل – قد يُطلق النار”.
والآن بعد أن حدث ذلك فعلًا، يبقى أن نرى ما إذا كانت تلك “طلقة تحذيرية” أم بداية حرب فعلية. في المقابل، يبدو أن نتنياهو يسير بوضوح نحو الخيار الثاني لكن لا يزال هناك بصيص أمل في إيقاف هذا المسار.
موقف إيران من الوكالة الدولية للطاقة الذرية
لطالما ردّت إيران على مجرد انتقادات الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيادة أنشطتها النووية، لكن قرار التوبيخ الأخير – وهو الأول من نوعه منذ نحو عقدين – أثار ردًّا أكثر حدة من طهران. ومع أن إيران وصفت القرار بأنه مسيّس بالكامل، فإنها لم تقدّم ردودًا مفصلة على التهم التقنية الواردة فيه في موقف لا يخلو من دلالة. فالاتهامات المطروحة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية دقيقة من الناحية الفنية، لكن لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع للأزمة.
تعرب الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن قلقها إزاء ما تعتبره تقصيرًا عامًا من جانب إيران في التعاون، غير أن طهران لجأت إلى شروط الوكالة كوسيلتها الوحيدة للرد على الضغوط الأميركية منذ انسحاب واشنطن أحادي الجانب وغير المبرر من خطة العمل الشاملة المشتركة، المعروفة بالاتفاق النووي الإيراني، والتي أُبرمت في 2015 خلال إدارة باراك أوباما.
وبعد أن أقدم دونالد ترامب في سنة 2018 على إلغاء الاتفاق وإعادة فرض العقوبات التي سبق تخفيفها، لم ترَ إيران أمامها خيارًا سوى استخدام برنامجها النووي كوسيلة للضغط من أجل العودة إلى الاتفاق.
هذا القرار كان قابلاً للدفاع عنه في سياقه، لكن ترتّبت عليه تبعات معقّدة إذ رأت الدول الأوروبية، التي شاركت الولايات المتحدة في تقديم قرار التوبيخ داخل الوكالة الدولية، أن معاهدة عدم الانتشار النووي – التي تُعدّ لدى كثيرين أهم اتفاقية دولية قائمة – باتت تُستخدم كورقة تفاوضية في نزاع سياسي.
لا تسعى المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا، المعروفة مجتمعة باسم “أوروبا-3″، إلى حرب في الخليج لكنها طالبت منذ سنوات بموقف أكثر تشددًا تجاه انتهاكات إيران النووية. فهذه الدول لا تثق بنوايا طهران وترفض استخدام الالتزامات النووية كأداة تفاوضية. كما تبدي قلقًا بالغًا من العلاقات الوثيقة بين طهران وموسكو، التي أصبحت مصدر توتر متزايد منذ غزو روسيا لأوكرانيا قبل ثلاث سنوات.
هذا القرار سياسي في جوهره لكنه لا ينفي صحة اتهامات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فشكاوى الوكالة بشأن عدم قدرتها على التحقق من مدى التزام إيران بتعهداتها تعكس واقعًا فعليًا. مع ذلك، من المرجح أن الدول الأوروبية الثلاث لم ترغب في تحرك إسرائيلي منفرد، بل كانت تأمل أن يسهم تصويت التوبيخ في تأجيل أي هجوم إسرائيلي، ولو مؤقتًا، لمنح الولايات المتحدة فرصة لإجراء حوار دبلوماسي إيجابي مع إيران في مسقط. لكن هذه الآمال تبددت مع تنفيذ الهجوم الإسرائيلي.
تتمثل النقطة المحورية التي تثير قلق الوكالة في اكتشاف آثار يورانيوم في مواقع لم تعلنها إيران كمواقع نووية، ولم تقدّم طهران تبريرًا كافيًا لهذا الاكتشاف، ما دفع إلى الاعتقاد بوجود برنامج إيراني سري لتطوير أسلحة نووية بدأ في سنة 2002. ورغم اعتقاد واسع بأن إيران كانت تسعى آنذاك لامتلاك السلاح النووي، إلا أن التقييم الأميركي يرى أن طهران أوقفت تلك الجهود سنة 2003 ولم تستأنفها حتى الآن.
لكن إيران لم تعترف مطلقًا بسعيها لامتلاك سلاح نووي، وهو موقف يصعب عليها تغييره في ظل إصرار مرشدها الأعلى – آية الله علي خامنئي حاليًا، وآية الله روح الله الخميني سابقًا – على تحريم الإسلام لهذا النوع من الأسلحة.
وردّت إيران على تصويت التوبيخ بالإعلان عن نيتها افتتاح منشأة ثالثة لتخصيب اليورانيوم وتسريع عمليات التخصيب مع استعدادها للرد بضرب إسرائيل والقواعد الأميركية في المنطقة حال تعرضها لهجوم. وستكشف الأيام المقبلة عن مدى صدق هذه التهديدات.
أزمة مُفتعلة
هناك مخرج واضح لهذا المأزق يتمثل في تراجع الولايات المتحدة عن شرطها غير الضروري الذي يُلزم إيران بعدم تخصيب اليورانيوم على أراضيها وتفكيك بنيتها التحتية النووية.
هذا الشرط الذي تمسكت به إسرائيل، وحلفاؤها، ودعاة تغيير النظام في واشنطن، وهم يدركون جيدًا أنه غير مقبول لدى إيران. وترفض طهران السماح لقواها النووية المدنية بأن تخضع لسيطرة قوى خارجية تحمل مصالح سياسية قد تتوافق معها اليوم لكنها قد تتعارض معها غدًا. وربما الأهم أن إيران تعتبر تخصيب اليورانيوم حقًا سياديًا لا يمكن التنازل عنه.
على الرغم من أن معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لا تمنح هذا الحق صراحةً، إلا أنها لا تفرض قيودًا على التخصيب بمستويات منخفضة، وتكفل لجميع الدول الموقّعة تطوير واستخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية. وتفسّر إيران ذلك باعتباره حقًا مشروعًا في التخصيب، مما يحوّل القضية إلى مسألة كرامة وطنية توحّد الإيرانيين حتى من معارضي النظام.
وأعربت إيران عن استعدادها للخضوع لتفتيش صارم من الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتأكد من أن تخصيبها لليورانيوم يقتصر على الأغراض السلمية شرط رفع العقوبات عنها. ويُعدّ التزامها بخطة العمل الشاملة المشتركة بين 2015 و2018، وحتى بعد انسحاب ترامب من الاتفاق، دليلًا واضحًا على صدق نواياها.
حتى لو افترضنا قدرة إيران على تطوير يورانيوم مُخصّب لصناعة أسلحة نووية بشكل سري — وهو أمر صعب للغاية بسبب إمكانية رصد المواد المشعة من مسافات بعيدة — فإن هذا يصبح أسهل بكثير في غياب عمليات التفتيش وليس بوجودها.
لذا، لا منطق في تعريض الاتفاق النووي للخطر بسبب هذه النقطة، إلا إذا كانت الولايات المتحدة لا تسعى أصلًا إلى التوصل إلى اتفاق، وهو موقف ينتمي إلى صقور واشنطن المعادين لإيران، في حين أن دونالد ترامب لم يكن متمكناً بما يكفي في هذه الملفات ليعي ذلك.
في الواقع، القضية بأكملها مفتعلة إذ أكدت الاستخبارات الأميركية نفسها منذ سنة 2007 أن إيران لم تكن تسعى بنشاط لامتلاك سلاح نووي منذ 2003. والسبب الحقيقي وراء تصعيد أنشطتها النووية في السنوات الأخيرة هو انتهاك الولايات المتحدة للاتفاق النووي، ما دفع إيران لاستخدام التقدم النووي كورقة ضغط لإجبار واشنطن على العودة إلى طاولة المفاوضات.
لكن هذه الاستراتيجية ليست مثالية لإيران، إذ تمنح الولايات المتحدة حافزًا للبحث عن اتفاق — كما حاول ترامب، فيما رفض جو بايدن بشكل كارثي — وفي الوقت ذاته توفر ذريعة لصقور الحرب في إسرائيل وواشنطن للمطالبة بضرب إيران، مع كسب الدعم الأوروبي. ويبقى غموض كبير حول ما كانت تفعله إيران فعليًا قبل نحو ربع قرن، في وقت كانت فيه الولايات المتحدة تستعد لغزو العراق وتُمهّد له باتهامات ملفقة، حيث بدأ العديد من المحافظين الجدد حينها بتكرار حجة نتنياهو التي اعتبرت إيران الهدف التالي والأهم.
بين قوتين نوويتين تضربان صدريهما كالغوريلا، من المنطقي أن تكون إيران شعرت بالحاجة إلى ردع نووي، وفعلاً، كان هناك داخل النظام الإيراني من يدافع عن هذا التوجه. لكن ما إذا كانت تملك القدرة الكاملة لتطبيقه يبقى مجهولاً، إذ تفضل إيران حتى اليوم إبقاء هذا السؤال بلا إجابة.
ويرى كثيرون أن طهران كانت تطور قدرة “الاقتراب النووي” — أي امتلاك كمية كافية من اليورانيوم المُخصب، وتقنيات الصواريخ، والخبرة الفنية التي تمكنها من إنتاج سلاح نووي بسرعة إذا لزم الأمر — كوسيلة ردع ضد أي هجوم أميركي محتمل، وليس كخطوة فعلية نحو التسلح النووي.
مع ذلك، يدور كل هذا النقاش حول تهديد وهمي، كما يتجلى في تصريح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي الذي غرّد يوم الأربعاء قائلاً: “الرئيس ترامب دخل البيت الأبيض وهو يقول إن على إيران ألا تمتلك سلاحًا نوويًا. هذا في الواقع يتماشى مع عقيدتنا، ويمكن أن يشكل أساسًا لاتفاق جديد”. مع الهجوم الإسرائيلي الأخير، تواجه المنطقة حربًا قد تدمر الخليج وتهزّ الشرق الأوسط بأكمله وتجذب أقوى الجيوش العالمية، وتسقط الاقتصاد العالمي في هاوية عميقة، بل قد تشعل حربًا عالمية ثالثة.
وحتى في أفضل السيناريوهات، فإن أي مواجهة عسكرية مستمرة بين إيران وإسرائيل تعني سقوط أعداد هائلة من الضحايا، وصدمة قوية لاقتصاد عالمي منهك، وتصعيدًا كبيرًا للتوترات الإقليمية. كل هذه المخاطر تُقام على أساس تهديد يعلم الجميع، رغم التصريحات النارية، أنه غير موجود على أرض الواقع.
يوم الخميس، وقبل الهجوم الإسرائيلي، أكدت سلطنة عُمان أن المحادثات المقررة ستُعقد يوم الأحد. كانت هذه المحادثات فرصة للتراجع عن خيار الحرب لكن الآن تبدو فرص انعقادها ضئيلة. مرة أخرى، يبقى الأمر مرهونًا بالقرار الأميركي: هل تريد واشنطن حقًا تفادي حرب إقليمية شاملة؟ في الأساس، لا ينبغي أن يكون هناك أي تهديد بحرب من الأصل، إذ لا توجد أسباب حقيقية تستدعي القتال.
يمكن التوصّل إلى اتفاق نووي بسهولة إذا وافقت إيران على منح الوكالة الدولية للطاقة الذرية نفس مستوى التفتيش الذي سمح به الاتفاق بين 2015 و2019، وهو ما أبدت استعدادها له مقابل رفع العقوبات، في مقابل أن تتخلى الولايات المتحدة عن مطلبها غير المعقول بمنع التخصيب تمامًا.
انطلاقًا من هذه النقطة، يمكن صياغة تفاصيل الاتفاق خلال أيام أو أسابيع فقط. هذا لا يعني أن كل المشاكل ستزول، فإيران وإسرائيل ما زالتا في مواجهة ملفات عدة، لا سيما مع استمرار الإبادة في غزّة التي تشكل بؤرة توتر دائم. كما تستمر الصراعات بالوكالة بين إيران والسعودية وإسرائيل والإمارات وتركيا وأطراف أخرى في المنطقة، بالإضافة إلى بقاء العقوبات المفروضة على إيران لأسباب غير نووية.
بمعنى آخر، توجد خلافات فعلية كثيرة، لكنها لا تهدد بحرب إقليمية ناهيك عن حرب عالمية، وهذا هو الإنجاز الكبير الذي حققه الاتفاق النووي وسيكون هو الهدف لأي اتفاق جديد. وعلى الجميع أن يضغطوا على قادتهم لئلا يغامروا بإشعال حريق هائل بسبب قضية وهمية. يهدد نتنياهو بأن هجومه سيشمل اغتيال علماء إيرانيين وشخصيات أخرى وأن العمليات العسكرية ستستمر لأيام. لقد بلغنا حافة الخطر، وعلينا الانسحاب منها فورًا.
المصدر: موندويس