تتواصل المواجهة المفتوحة بين إيران و”إسرائيل”، لليوم الرابع على التوالي، حيث تستمر الاشتباكات الصاروخية المتبادلة بين الطرفين في مرحلة تصعيد غير مسبوقة، وسط غياب ملامح عن تهدئة وشيكة أو تسوية سياسية تلوح في الأفق.
أطلقت إيران موجة جديدة من الصواريخ باتجاه “إسرائيل”، وُصفت بأنها الأعنف منذ بدء التصعيد، استهدفت مواقع عسكرية وحيوية وأدت إلى مقتل وإصابة نحو 250 شخصًا، وذلك بعد ساعات من تحذير طهران للإسرائيليين بمغادرة الأراضي المحتلة، قائلة إن هذه الأرض “لن تكون صالحة للسكن في المستقبل”.
من جهتها، شنت “إسرائيل” في اليوم السابق هجومًا جديدًا طال العاصمة طهران ومدنًا إيرانية أخرى، فيما اعتبرته وسائل إعلام إسرائيلية “أبعد ضربة جوية” منذ انطلاق جولة التصعيد الحالية، في أعقاب تهديد وزير جيش الاحتلال بـ”حرق طهران”.
لم تعد الضربات المتبادلة بين الجانبين مجرد رسائل سياسية أو استعراض قوة أو مبادرات لرد الاعتبار السياسي، بل اتجهت نحو استهداف أعصاب البنية التحتية للطرفين، فشملت مراكز أبحاث نووية وقواعد عسكرية ومصافي نفط ومقار سيادية حساسة.
يرصد هذا التقرير أبرز المواقع الحساسة التي تعرّضت للهجوم منذ بداية التصعيد والأهمية الاستراتيجية لكل منها في إخضاع إرادة كلا الطرفين.
المواقع الإسرائيلية
مصفاة حيفا: مركز إنتاج الطاقة الأهم في “إسرائيل”
تشكل عصب الاقتصاد في “إسرائيل”، إذ تُعد الأكبر من نوعها بطاقة إنتاجية تبلغ نحو 197 ألف برميل يوميًا، ما يعادل حوالي 9.8 مليون طن سنويًا، وتلبي 70% من احتياجات “إسرائيل” من المنتجات البترولية، بما فيها البنزين والديزل والبتروكيماويات، وتُصدر جزءًا منها إلى الأسواق الأوروبية.
تشكل المصفاة مصدرًا أساسيًا لتوليد الطاقة الكهربائية الصناعية والإنتاجية، وهي جزء من استراتيجية “إسرائيل” لتقليل الاعتماد على واردات الوقود واستيراد الطاقة عبر الأنابيب أو البحر، ولديها مرافق تقنية متقدمة تشمل وحدات التكسير الهيدروجيني والمعالجة الكيميائية، وخطوط أنابيب واسعة تربطها بالموانئ ومصانع التوزيع.

معهد وايزمان: عقل “إسرائيل” النووي
استهدفت إيران أحد أبرز المراكز البحثية والعلمية في “إسرائيل”، المصنَّف ضمن المراكز العشرة الأولى في العالم، إذ يُعد أحد الأعمدة الحيوية التي يرتكز عليها الأمن القومي الإسرائيلي، ويوصف بأنه “عقل إسرائيل النووي”، كونه كان الحاضنة الأولى لبرنامجها النووي، حيث أجرى مسوحات جيولوجية في النقب عُثر فيها على فوسفات يحوي يورانيوم، ما وضع الأساس العلمي لاستخراج اليورانيوم الثقيل، ولاحقًا لإنتاج الماء الثقيل؛ الخطوات التي اعتُبرت “بداية المشروع الذري” الإسرائيلي.
ويشكّل المعهد ركيزة علمية مباشرة في الصناعات الدفاعية الإسرائيلية، إذ توظف وزارة جيش الاحتلال الإسرائيلية نتائج أبحاثه في الذكاء الاصطناعي لتحليل ميدان القتال وتطوير الطائرات المسيّرة وأنظمة التشويش والملاحة البديلة.
اقتصاديًا، يدر المعهد على الاحتلال أرباحًا بالملايين، حيث حوّل اكتشافاته إلى أكثر من 120 شركة ناشئة ومنتجات دوائية عالمية، إذ تُقدّر مبيعاتها التراكمية بأكثر من 23 مليار دولار حتى عام 2024.
سجّل المعهد منذ تأسيسه نحو ألفي براءة اختراع، أبرزها اختراع دواء “كوباكسون” لعلاج مرض التصلب اللويحي المتعدد عام 1997، وتطوير أول حاسوب بيولوجي في العالم، كما يضم المعهد أكثر من 30 مختبرًا في شتى المجالات العلمية، ويحتوي على خمس كليات، وهي: الأحياء والكيمياء الحيوية والفيزياء والرياضيات وعلوم الحاسوب.
يصدر المعهد دراسات دورية حول الأمراض السرطانية ومعالجتها، وبحوثًا في علم الجينات، ويستضيف نحو 50 مؤتمرًا علميًا دوليًا كل عام، وارتبط بـ 6 جوائز نوبل و3 جوائز تورينغ؛ كما يستقطب قرابة 3,800 عالم وطالب دراسات عليا من 40 دولة.
محطة الطاقة في حيفا: حجر الطوارئ في قطاع الكهرباء
تُعد داعمًا أساسيًا للبنى الصناعية شمال “إسرائيل”، حيث تقع ضمن مجمع مصرفي صناعي ضخم في حيفا، وتؤمن الكهرباء لتشغيل مصفاة حيفا والمصانع المحيطة، كما تمثل حجر الطوارئ في قطاع الكهرباء، كونها تنتج يوميًا ألف ميغاواط.
تضم المحطة مجموعة من الوحدات التي تعمل بالغاز الطبيعي والبنزين، بالإضافة إلى محطة تابعة بمحرّك غازي صغير بطاقة 10 ميغاواط لتلبية الاحتياجات المناوبة، كما تشمل وحدتي توليد مركّبتين (CCGT) بقدرة تقارب 725 ميغاواط (Haifa III & IV، 2011)، إلى جانب وحدتي توربينات أقدم.
لكن الهجوم الإيراني على المحطة أظهر هشاشة البنية التحتية للطاقة، حيث أدى تضررها إلى انقطاع جزئي للكهرباء في وسط “إسرائيل”، ما أسفر عن ضغوط على الخطوط الكهربائية واضطراب في إمدادات بعض المناطق.

المواقع الإيرانية
منشأة نطنز: قلب البرنامج النووي
توصف منشأة نطنز النووية، الواقعة شمال شرق محافظة أصفهان وسط إيران، بأنها “قلب البرنامج النووي الإيراني”، وقد بُنيت تحت الأرض بعمق يتراوح بين 40 و50 مترًا، ومحاطة بجدران خرسانية سميكة بسمك نحو 7.6 متر، بهدف حمايتها من أي هجوم جوي.
تُعد نطنز أكبر منشأة لتخصيب اليورانيوم في إيران، وتضم أكثر من 50 ألف جهاز طرد مركزي موزعة داخل مبانٍ تحت الأرض حُفرت خصيصًا وتخضع لحماية مشددة، وتعمل فيها مجموعات متعددة من أجهزة الطرد المركزي، تُعرف بـ “سلاسل التخصيب”، التي تنسق فيما بينها لتسريع عملية تخصيب اليورانيوم.

مطار تبريز: شريان اقتصادي وتجاري
يخدّم مدينة تبريز وولاية أذربيجان الشرقية، ويرتفع 1359 مترًا فوق سطح البحر، ويُسيّر نحو 44 رحلة داخلية و6 دولية يوميًا، ما يجعله أكبر مطار في شمال غرب البلاد، كما يُعتبر شريانًا اقتصاديًا وتجاريًا، إذ يربط مناطق الصناعات الثقيلة في تبريز بمرافئ تركيا وأذربيجان، ويُسهّل صادرات الفستق والبتروكيماويات إلى القوقاز والاتحاد الأوروبي.
يُستخدم مدرج المطار أيضًا مقرًا للقاعدة الجوية التكتيكية الثانية للقوات الجوية الإيرانية، التي تُشغّل أسراب MiG-29 A/UB وتشكيلات F-5E للدفاع عن المجال الجوي شمالًا وغربًا، كما يمر بمحاذاة خط سكك حديد تبريز–ميانه، ما يُسهّل تفريغ الشحن الجوي إلى شبكة السكك الحديدية الإيرانية ومنها إلى مرفأ بندر أنزلي على بحر قزوين.

مفاعل آراك: مسار بديل للحصول على قنبلة نووية
يقع مجمّع آراك على بُعد 75 كم شمال غرب مدينة آراك في محافظة مركزي، ويضم مفاعل أبحاث بقدرة 40 ميغاواط حراري، ومصنعًا مستقلًا لإنتاج الماء الثقيل الذي يُستخدم للتبريد والتهدئة داخل المفاعل.
يتيح الوقود الطبيعي والماء الثقيل لهذا المفاعل توليد 9–10 كغ من البلوتونيوم سنويًا؛ وهي كمية كافية لصنع قنبلة أو اثنتين كل عام، ما يجعل آراك بمثابة “المسار البديل” للحصول على سلاح نووي إلى جانب تخصيب اليورانيوم.
يمنح مصنع الماء الثقيل في آراك فائضًا يُباع دوليًا، ما يمنح إيران القدرة على امتلاك حلقة صناعية نووية شبه مكتفية محليًا، ويتوقع أن يحلّ مستقبلاً محل مفاعل طهران البحثي المتهالك لإنتاج النظائر الطبية والصناعية اللازمة لعلاج السرطان وتصوير الطب النووي.
إلى جانب ذلك، يساهم المجمع في تعزيز قاعدة الموارد البشرية النووية الإيرانية من خلال استخدامه كمركز تدريبي للمهندسين والمتخصصين في تكنولوجيا المياه الثقيلة.

مستودع شهران: مركز تخزين الطاقة الحيوي
يُصنَّف كأكبر نقطة لتخزين الوقود داخل طهران، ويقع في الجزء الشمالي الغربي من مركزها، ويضم 11 خزانًا بطاقة استيعاب تقارب 260 مليون لتر، ويُضخ فيه يوميًا نحو 7 ملايين لتر من البنزين والديزل ووقود الطائرات.
وباعتباره الموزع الرئيسي لشمال طهران، يغطي احتياجاتها لعدة أيام في حال انقطاع الإمدادات الخارجية، ما يجعله جزءًا من منظومة الأمن الطاقي الداخلي.

حقل بارس الجنوبي: أكبر حقل غاز في العالم
يُعد أكبر حقل غاز منفرد في العالم، حيث يشكّل نحو 19% من الاحتياطيات العالمية القابلة للاستخراج، بما يعادل حوالي 360 تريليون قدم³ من الغاز القابل للإنتاج، وقرابة 16 مليار برميل من المكثفات.

يشكل الحقل ركيزة معيشية أساسية لإيران، إذ ينتج ما يقرب من 70% من إنتاج الغاز المحلي، أي حوالى 275 مليار م³ سنويًا، يُستهلك في توليد الكهرباء والصناعات البتروكيماوية ووقود النقل وحقن الآبار النفطية لزيادة الاستخراج.
ورغم أن العقوبات تحرم إيران من تصدير الغاز، إلا أن النصف الآخر من الحقل، الذي تديره قطر، يرفد نحو 20% من إمدادات الغاز المسال (LNG) العالمية؛ ما يعني أن أي تهديد أمني لهذا الحقل المشترك ينعكس فورًا على أسعار الغاز في أوروبا وآسيا.
هكذا، تتجاوز هذه الجولة من التصعيد بين إيران و”إسرائيل” حدود العمليات العسكرية التقليدية، لتغدو معركة معقدة على مفاصل القوة والنفوذ الإقليمي، فمع كل ضربة متبادلة، تتزايد الهشاشة في البنى الحيوية وترتفع كلفة الصراع السياسية والاقتصادية، وبين حسابات الردع وأوهام الحسم، يبقى السيناريو الأخطر معلقًا: انزلاق المنطقة إلى مواجهة مفتوحة قد تعيد رسم خرائط الاستقرار في الشرق الأوسط لسنوات طويلة قادمة.