يوما تلو الأخر تخرج الإدارة الأمريكية عن صمتها إزاء المواجهات الإيرانية الإسرائيلية، كاشفة بشكل مرحلي عن نواياها الحقيقية إزاء هذا التصعيد، معلنة بشكل لا شك فيه رفضها الكامل لفكرة امتلاك طهران للسلاح النووي، بل تجاوز السقف إلى إنهاء رسمي لمشروعها النووي من جذوره، مطالبة بإذعان إيراني كامل لكافة الشروط والإملاءات وفق ما جاء على لسان الرئيس دونالد ترامب خلال تصريحاته التي أدلى بها على متن طائرته الرئاسية العائدة إلى واشنطن بعد مغادرته المفاجئة لقمة دول السبع المنعقدة في كندا.
ترامب الذي غلف خطابه بدبلوماسية خشنة ضمنيَا، أشار إلى أن عرضًا جديدًا بشأن الاتفاق النووي المزمع بات مطروحًا على الطاولة، وعلى طهران أن تحدد موقفها بشأنه قبل فوات الأوان، لافتا أن الإيرانيين يعرفون كيف يتواصلون معه، مشددًا في الوقت ذاته على أن التهدئة مرهونة بالتخلي الإيراني عن مشروعها النووي.
لكن في المقابل حملت تصريحاته، وإن كانت بصيغة غير مباشرة، تهديدًا مبطنًا لإيران، بضرورة الإسراع في إنجاز اتفاق شامل، على المقاس الأمريكي وبدون أي شروط مسبقة، يتضمن إنهاء مشروعها دون تدخل الولايات المتحدة وإلا فالوقت قد ينفذ ويزداد المشهد صعوبة على الإيرانيين.
ويأتي ذلك في وقت تتلقى فيه طهران خسائر فادحة جراء الهجمات الإسرائيلية التي لا تتوقف منذ فجر الجمعة 13 يونيو/حزيران الجاري، والتي أطاحت بغالبية قيادات الصف الأول والثاني لهرم السلطة الإيراني، سياسيًا وعسكريًا.
تذهب غالبية المؤشرات خلال الساعات القليلة الماضية إلى أن الرئيس الأمريكي قد حسم أمره بشأن مستقبل التصعيد الإيراني الإسرائيلي، خاصة بعد فشل الضربات الإسرائيلية خلال الأيام الأربعة الأولى من المواجهات في تحقيق هدفها الأبرز في استهداف المفاعلات النووية الإيرانية خاصة مفاعل “فوردو” المُحصن داخل الجبال بين طهران وقم (وسط) والمناشدات الإسرائيلية المتكررة بضرورة التدخل الأمريكي لكتابة السطر الأخير في تلك المعركة.
يجد النظام الإيراني نفسه في ورطة سياسية خانقة، حشرته في حجر زاوية ضيق، إذ بات مخيرًا بين خيارين أحلاهما مر، إما الجلوس على طاولة التفاوض على وقع التهديد ودون أي شروط مسبقة، وهنا عليه الإذعان للإملاءات الأمريكية، أو قلب الطاولة والمضي قدمًا في مسار التصعيد، وهنا قد يلقى مصير أذرعه في لبنان وسوريا، فأي معادلة توازن يمكن لطهران أن تخرج بها من هذا المطب؟
سياسة العصا والجزرة
تمارس إدارة ترامب مع إيران، كالعادة، سياسة العصا والجزرة، الترهيب والترغيب، بأقصى مستوياتها، حيث تبني خطاب التهديد المباشر، والتلويح بين الحين والأخر باحتمالات التدخل الرسمي في المعركة، رغم الانخراط الاستخباراتي واللوجستي المعروف للجميع، وهي الاستراتيجية التي اعتادت عليها واشنطن خلال ولايتي الرئيس الحالي.
ويشهر الرئيس الأمريكي بيداه اليمني العصا الغليظة في وجه إيران مستندًا إلى القدرات العسكرية لبلاده والقادرة على تدمير المفاعلات النووية الإيرانية، التي عجزت عن استهدافها إسرائيل رغم ما تمتلكه من إمكانيات تدميرية هائلة.
وتشير المعلومات إلى امتلاك واشنطن عددًا من القنابل الخارقة للتحصينات، مثل “جي بي يو 28” و “جي بي يو 72” وهي الوحيدة المؤهلة للوصول إلى مفاعل “فوردو” المُحصن والمحمي بقاعدة عسكرية مخصصة للدفاع عنه ضد أي هجوم صاروخي أو جوي.
وكانت حكومة الاحتلال قد ناشدت الولايات المتحدة أكثر من مرة منذ بداية المواجهات مع إيران للتدخل من أجل تدمير تلك المفاعلات، بما لديها من قنابل قادرة على ذلك، مزودة بصمامات استشعار الفراغ، حيث لن تنفجر حتى تمر القنبلة عبر الخرسانة الصلبة أو الصخور ثم تصل إلى منطقة مفتوحة، مثل قاعة جهاز الطرد المركزي.
وفي سياق ذات العصا وجه ترامب تحذيرًا غريبًا بإخلاء العاصمة طهران فورًا، دون أن يقدم أي تفاصيل حول هذا التحذير الأول من نوعه، حيث كتب منشور على منصة تروث سوشيال “لا يمكن لإيران امتلاك سلاح نووي.. كررت ذلك مرارًا! وعلى الجميع إخلاء طهران فورا!”، مضيفًا “كان يجب على إيران توقيع الاتفاق عندما طلبت منها التوقيع. يا لها من خسارة وإهدار للأرواح البشرية”.
عاجل | وول ستريت جورنال عن مصادر: مجموعة حاملة طائرات أمريكية ثانية تتجه نحو بحر العرب
عاجل | وول ستريت جورنال عن مصادر: مدمرة أمريكية ثالثة تدخل شرق المتوسط للمساعدة في الدفاع ع pic.twitter.com/OYLPBPPw9H
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) June 17, 2025
وأصدر الجيش الإسرائيلي تحذيرًا مماثلا بالإخلاء شمل ما يصل إلى 330 ألف شخص في جزء من منطقة وسط طهران، ويشمل هذا الجزء مقر التلفزيون الحكومي ومقر الشرطة بالإضافة إلى 3 مستشفيات كبرى، أحدها تابع للحرس الثوري، وبالفعل تم استهداف مقر التلفزيون بصاروخ إسرائيلي، الاثنين 16 من الشهر الجاري.
وفي يده اليسرى يٌمسك ترامب بالجزرة، فاتحًا الباب أمام الخيار الدبلوماسي لإنهاء الحرب، حيث أعلن البيت الأبيض أنه سيناقش مع إيران إمكانية عقد اجتماع هذا الأسبوع بين المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، بهدف بحث مبادرة دبلوماسية تتضمن اتفاقاً نووياً وإنهاء الحرب بين تل أبيب وطهران، وفق ما أفاد موقع “أكسيوس” الأميركي.
ونقل الموقع عن أربعة مصادر مطلعة قولها إن أمر الاجتماع لم يُحسم بعد، وأنه يأت في سياق محاولة أخيرة من ترامب لتجنب الحرب والعودة إلى إبرام الصفقات.
ونقلت شبكة “سي إن إن” عن مصدر مطلع ومسؤول أميركي أن ترامب وجه مساعديه بمحاولة عقد لقاء مع مسؤولين إيرانيين في أسرع وقت ممكن، وخلال لقاءه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في قمة دول السبع في كندا قال الرئيس الأمريكي “أعتقد أنه من الغباء من جانب إيران عدم التوقيع” مضيفا “إيران موجودة في الواقع على طاولة المفاوضات، تريد التوصل إلى اتفاق، وبمجرد مغادرتي هنا سنفعل شيئا ما”.
حرب نفسية أم تهديد حقيقي؟
ينقسم الشارع الإيراني والمراقبين لتطورات المشهد بشأن تصريحات الرئيس الأمريكي إلى فريقين، الأول يميل إلى أنها تأتي في سياق الحرب النفسية التي تجيد الولايات المتحدة توظيفها بشكل دقيق لتحقيق الكثير من الأهداف مجانًا دون أي أعباء أو ثمن مدفوع، خاصة في ظل وجود شخصية نرجسية مضطربة مثل ترامب على رأس السلطة السياسية في أمريكا، لها سوابق كثيرة في هذا الشأن.
ويرى أنصار هذا الرأي أن التصريحات التصعيدية الصادرة منذ بداية الحرب، بدءًا من تهديدات نتنياهو باغتيال المرشد الإيراني على خامنئي،، وصولًا إلى دعوة ترامب لإخلاء طهران، تهدف إلى بث الخوف والذعر وكسر معنويات الشعب الإيراني، وأنها أبعد ما يكون عن الواقع، إذ كيف له أن يهدد حياة 10 ملايين مواطن يقطنون العاصمة الإيرانية ويطالبهم بالإخلاء في غضون ساعات.
وعلى الجانب الأخر هناك من يرى أن مثل تلك التصريحات حتى وإن كان مبالغ في بعضها إلا أنها تتضمن تهديدًا حقيقيًا لا يمكن إنكاره، وهو ما حدث بالفعل ميدانيًا، حيث موجة الاغتيالات التي لا تتوقف، واستهداف مقر التلفزيون الرسمي بعد أوامر إخلاء جيش الاحتلال، هذا بجانب التجييش الأمريكي وتعزيز قواته العسكرية والتسليحية في الشرق الأوسط، كل تلك المؤشرات تذهب باتجاه جدية تلك التهديدات وتجاوزها مرحلة الحرب النفسية، وفق ما يذهب أنصار هذا التوجه.
ويرى محللون أن ترامب يواجه ضغوطًا شديدة من جناحين متناقضين داخل حزبه، الأول وهو الجناح المتشدد الداعم لنتنياهو والصهيونية بشدة، والذي يدفع باتجاه الانخراط الفعلي في الحرب وتدمير المفاعلات النووية الإيرانية، أما الجناح الثاني وهو التيار البرغماتي الذي يمثله تاكر كارلسون وستيف بانون، والذي يرى أن المعركة ليست أمريكية ويدعو إلى ترك الإسرائيليين يقاتلون في حربهم بأنفسهم.
الإيرانيون يفقدون الثقة في ترامب
في مقال له بصحيفة “هآرتس” العبرية، طرح الكاتب الإسرائيلي أمير تيبون العديد من التساؤلات حول الموقف الأمريكي من تلك الحرب، ماذا سيفعل الرئيس الأميركي دونالد ترامب إزاء تلك الحرب؟ هل سيستجيب لطلب إسرائيل المعلن ويرسل قاذفات أميركية لاستكمال ما بدأته إسرائيل، أم سيعتبر مشاركة أميركا في الدفاع عن إسرائيل كافية، ويرفض توجيه ضربات داخل الأراضي الإيرانية إلا إذا ارتكبت إيران خطأ كبيرا وهاجمت أهدافا أميركية في الشرق الأوسط؟”،
ويرى تيبون أن تصريحات ترامب تشير إلى أنه أقرب للخيار الثاني، الخاص برفض الانخراط المباشر في الحرب، والاكتفاء بدعم إسرائيل دون التورط الرسمي، مع مواصلة التأكيد على الرغبة في استئناف المفاوضات مع إيران والتوصل إلى اتفاق نووي جديد، فهذا أقرب لعقلية الرئيس الأمريكي وتوجهاته في ولايته الثانية.
إلا أن الكاتب الإسرائيلي استبعد تصديق الإيرانيين لترامب في تلك المرحلة، في ظل تشكيكهم المستمر في كل ما يصدر عنه من تصريحات خاصة تلك التي يٌعرب فيها عن رغبته في الحوار والتفاوض والجلوس على مائدة النقاش وإنهاء الحرب، مرجعا ذلك إلى الدور الذي لعبه الرئيس الأمريكي ومبعوثه الخاص ستيفن ويتكوف مع إسرائيل لخداع الإيرانيين، باستخدام المفاوضات ذاتها التي يُعرض الآن استئنافها كوسيلة للتمويه والتضليل.
عاجل | وكالة إيرنا: قوات الدفاعات الإيرانية أسقطت رابع طائرة إسرائيلية من طراز إف-35 في تبريز#الجزيرة_مباشر pic.twitter.com/oHE4BLGjyG
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) June 17, 2025
طهران في مأزق
تجد طهران نفسها في مأزق كبير أمام خيط الدبلوماسية الرفيع الذي تلقيه واشنطن على وقع التهديد المباشر والمبطن، وذلك في ضوء عدد من المؤشرات التي حتمًا ستقود إيران إلى إعادة تقييم المشهد من كافة جوانبه:
أولا: الكلفة الباهظة.. خسائر فادحة: مُنيت الجمهورية الإيرانية خلال تلك الجولة من المواجهات مع إسرائيل بخسائر فادحة على كافة المستويات، حيث فقدت معظم رموز نخبتها العسكرية والعلمية، وتعرضت مواردها الاقتصادية واللوجستية للاستهداف المباشر، فيما يواجه نظامها تهديدًا وجوديًا يعرض استمراره وبقاءه للخطر، وذلك لأول مرة منذ إعلان الثورة، وسط تساؤلات عن قدرته في تحمل تلك الخسائر وإلى أي مدى إذا ما اختار إطالة أمد الحرب
وكان جيش الاحتلال قد أعلن قبل ساعات عن اغتيال رئيس أركان الحرب الجديد القائد العسكري الأعلى في النظام الإيراني، علي شادماني، والذي يعد الأقرب إلى المرشد الإيراني علي خامنئي، ويتولى قيادة خاتم الأنبياء للطوارئ المسؤولة عن إدارة المعارك وخطط إطلاق النار، وهو رئيس الأركان الثاني الذي تستهدفه إسرائيل في غضون 3 أيام فقط.
ثانيًا: مخاوف الاضطرابات الداخلية: هناك شبح أخر تنظر له السلطة الإيرانية بعين الريبة والقلق، ولابد وأن تضعه نصب عينيها أثناء مناقشة مستقبل تلك المواجهة، ذلك الذي يتعلق بالجبهة الداخلية، واحتمالات حدوث فوضى عارمة قد تطيح بالنظام، وهي الورقة التي من المؤكد أن يلجأ إليها الكيان الإسرائيلي، لتكثيف الضغوط على نظام الملالي وتركيعه.
وتحاول الولايات المتحدة وإسرائيل معًا، الاستثمار في حالة الفوضى، وهي الاستراتيجية المعتادة لديهما، مستغلين افتقاد المجتمع الإيراني إلى التجانس أو الانصهار الوطني، حيث يعاني من تشرذم وانقسامات حادة، تخلق بيئة مواتية للاضطرابات ونسف الاستقرار، حيث التنوع الديني ما بين مسلمين سنة وشيعة، وبهائيون وزرادشتيون ومسيحيون ويهود ومندائيون ويارسانيون، وخارطة ثرية بالتنوعات العرقية ما بين الفرس والعرب والبلوش والأكراد والتركمان والأذر والأرمن والقشقائيون والشاهسونيون، والتالشيون واللور.
ثالثًا: تحشيد المجتمع الدولي: تواجه طهران موقفًا دوليًا مناوئًا لها في المجمل، حتى قبل الحرب، تعاظم هذا الموقف – بفعل الضغوط الأمريكية- بعد اندلاع المواجهات، حيث خطاب الشيطنة الدولي المتصاعد، والذي يُحمل إيران المسؤولية عن هذا التصعيد بدعوى مساعيها لامتلاك السلاح النووي فيما يٌغض الطرف عن “إسرائيل” التي تمتلك بشكل رسمي هذا السلاح.
وفي بيان مشترك لهم، اتفق قادة مجموعة السبع في كندا، على دعم حق “إسرائيل في الدفاع عن نفسها” ومعارضة امتلاك إيران السلاح النووي، حيث وصفت المجموعة، التي تضم الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وكندا، على أن “إيران لا يمكن أن تمتلك سلاحاً نووياً أبداً”، وفي المقابل أكدت أن “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها”، وأعربت عن دعمها لأمن إسرائيل، واصفة إيران بأنها “المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار والإرهاب في المنطقة”.
كما حض وزراء خارجية فرنسا وبريطانيا وألمانيا إيران على “العودة بأسرع ما يمكن، ومن دون شروط مسبقة، إلى طاولة المفاوضات” بشأن برنامجها النووي، داعين إياها إلى الإحجام عن أي هروب إلى الأمام بما يتعارض مع المصالح الغربية، وأي توسع إقليمي وأي تصعيد نووي” على غرار وقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو الخروج من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية أو تخطي نسب التخصيب المسموح بها.
رابعًا: ميوعة مواقف الحلفاء: في مواجهة التحشيد الدولي المضاد لم تحظ بطهران بالدعم المأمول من حلفاءها، إذ جاءت المواقف أكثر ميوعة مما كان يتخيل البعض، وسط مقاربات وحسابات سياسية تخشى استثارة غضب واشنطن، حيث اكتفت كل من موسكو وبكين ببيانات إدانة دبلوماسية لا تمثل حاضنة قوية لحماية الجمهورية الإيرانية، فيما جاءت المواقف الدعمة ضئيلة للغاية سواء من باكستان أو أفغانستان، وهي المواقف التي لا تضاهي بطبيعة الحال المواقف الدولية الداعمة لإسرائيل في تلك المواجهة.
دبلوماسية الفرصة الأخيرة.. هل ترضخ طهران؟
بذات الوتيرة التي تستهدف بها إسرائيل الداخل الإيراني وحجم الخسائر المتلاحقة، والتي تجاوزت السقف المسموح به تقليديًا، إذ امتدت لتشمل أهدافًا مدنية ولوجستية ونفطية، بعضها يمس السيادة الوطنية مثل استهداف مبنى التلفاز، وفي ظل سلاسل الإمداد التي لا تتوقف لدعم القدرات الإسرائيلية في مقابل استنزاف القدرات الإيرانية، فإن الوقت لم يعد في صالح طهران، وهو ما يعزف عليه الإسرائيليون والأمريكان معًا، حيث تكثيف الضربات والإيغال في حجم الخسائر وإبقاء نزيف الأضرار دون توقف.
ورغم ما حققته الضربات الإيرانية من نجاحات استثنائية قياسًا بالجولات السابقة، وقدرتها على كسر معادلة الردع الإسرائيلية، إلا أنه وبمنطق برغماتي وفي ظل مخزون الإمكانيات وحجم الإمداد ومستوى الدعم هنا وهناك، فإن إطالة أمد المعركة سيحولها إلى حرب تكسير عظام ستتحمل طهران كلفتها الأكبر.. وهنا يجد النظام الإيراني نفسه بين خيارين لا ثالث لهما:
الأول: الذهاب إلى طاولة المفاوضات.. ففي حال قبلت طهران ذلك، وهو ما يعني ميلها نحو الخيار الأقل كلفة، فليس أمامها سوى الرضوخ للشروط الأمريكية وإبداء المزيد من المرونة لإبرام اتفاق على المقاس الصهيوأمريكي، وهو الخيار الذي قد يٌبقي على النظام الإيراني على قيد الحياة، حتى وإن تخلى مؤقتًا عن حلم الإيرانيين النووي، إلا أنه في المقابل سيضع سمعته على المحك، ويطيح بسردية المقاومة التي عززت من شعبيته، داخليًا وخارجيًا، لعقود طويلة.
الثاني: المواجهة حتى النهاية.. قد يختار النظام الإيراني الانتصار لسرديته ككيان مقاوم للهيمنة الأمريكية، ويواصل الحرب حتى أخر صاروخ ورصاصة، مهما كانت التبعات، إلا أن هذا الخيار ربما يكون أقرب للمقامرة، خاصة إذا ما دخلت واشنطن على خط المواجهة، فقد يسقط النظام وتسقط الدولة بأكملها وتفقد كافة مواردها وتعود عقود طويلة للوراء، ليواجه الملالي سيناريو أذرعه في المنطقة، في لبنان وسوريا والعراق.
في الأخير هي معركة عض أصابع في المقام الأول، تحتاج إلى نفس طويل، فأمريكا لن تقبل بأقل من إنهاء المشروع النووي، مهما طال أمد المواجهة وتعاظمت كلفتها، فيما تمارس إدارة ترامب دبلوماسيتها الخشنة مع طهران على وقع التهديدات التي تتصاعد يومًا تلو الأخر، الأمر الذي يضع الإيرانيين في مأزق تاريخي، إما الرضوخ وإبداء المرونة أو الانتحار.
مفاضلة كان لابد وأن تكون على رادار النظام الإيراني حين ارتأى دخول تلك المعركة، إلا أنه وفي ظل المستجدات الأخيرة، وبعد مطالبة ترامب بإذعان إيراني كامل، فالأمر بات غاية في الصعوبة، مالم يكن هناك تدخلا إقليميًا ودوليًا من الوسطاء يٌسدل الستار على تلك المواجهة ويمنح السلطة الإيرانية قبلة الحياة للخروج من هذا المأزق بصورة غير مهينة حتى وإن كان المقابل تنازلات ضمنية من تحت الطاولة، أو أن يفجر الإيرانيون مفاجأة من العيار الثقيل بالإعلان عن امتلاكهم القنبلة الذرية، وهذا حدث، رغم صعوبته، سيكون له حديث أخر.