ترجمة وتحرير: نون بوست
يعتبر الهجوم واسع النطاق الذي شنّته إسرائيل على إيران أحدث جولة في حملتها للقضاء على أو إضعاف جميع خصومها الإقليميين. فبعد هجوم حماس في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شنت إسرائيل حملة وحشية لتدمير الشعب الفلسطيني كقوة سياسية فاعلة، وهي حملة وصفتها منظمات حقوقية رائدة وعدد كبير من الخبراء الأكاديميين بالإبادة الجماعية.
كما دمّرت إسرائيل قيادة حزب الله في لبنان من خلال الضربات الجوية والهواتف المفخخة ووسائل أخرى، وهاجمت الحوثيين في اليمن، وقصفت سوريا ما بعد الأسد لتدمير مخازن الأسلحة ومنع القوى التي تعتبرها إسرائيل خطيرة من ممارسة نفوذ سياسي هناك.
وتهدف الهجمات الأخيرة على إيران إلى ما هو أبعد من مجرد إلحاق الضرر ببنيتها التحتية النووية. فعلى أقل تقدير، تسعى إسرائيل إلى إنهاء المفاوضات بشأن برنامج إيران النووي، وشلّ قدرة طهران على الرد من خلال اغتيال كبار قادتها السياسيين والعسكريين والدبلوماسيين والعلماء، وربما جرّ الولايات المتحدة إلى حرب أعمق. على أقصى تقدير، تأمل إسرائيل في إضعاف النظام الإيراني إلى درجة الانهيار.
بالنظر إلى أن كل واحدة من هذه العمليات الإسرائيلية حققت نجاحًا جزئيًا على الأقل – على المدى القصير – هل ينبغي لنا الآن اعتبار إسرائيل قوة مهيمنة في المنطقة؟ إذا كنا نعرّف الدولة المهيمنة بأنها “القوة العظمى الوحيدة في منطقة معينة”، بحيث “لا تستطيع أي دولة أخرى (أو حتى مجموعة من الدول) أن تشكّل دفاعًا جادًا في حال اندلاع مواجهة عسكرية شاملة”، فهل ينطبق هذا التعريف الآن على إسرائيل؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل ينبغي أيضًا أن نتوقع من جيرانها أن يتصرفوا كما فعل الآخرون عند مواجهة قوى مهيمنة: أي أن “يعترفوا بتفوّقها العسكري ويخضعوا لها في القضايا التي تمثّل مصالح حيوية لتلك القوة المهيمنة”؟.
للوهلة الأولى، تبدو هذه الإمكانية بعيدة المنال. فكيف لدولة لا يتجاوز عدد سكانها 10 ملايين نسمة (حوالي 75 بالمئة منهم فقط من اليهود) أن تهيمن على منطقة شاسعة تضم مئات الملايين من العرب المسلمين، بالإضافة إلى أكثر من 90 مليون فارسي؟
مع ذلك، تبدو هذه الفكرة أكثر منطقية عند النظر إلى المزايا العديدة التي تتمتع بها إسرائيل مقارنة بجيرانها. فمواطنوها أكثر تعليمًا، ويمتازون بدرجة عالية من الوطنية، وغالبًا ما كانت تقودهم نخب سياسية أكثر كفاءة من تلك التي عرفها العالم العربي.
وتحظى إسرائيل بدعم سخي وثابت من جالية يهودية ثرية وذات نفوذ سياسي واسع حول العالم، كما تلقت في الماضي مساعدات لا تقدَّر بثمن من قوى كبرى مثل بريطانيا وفرنسا. وقد عانى معظم خصومها العرب من انقسامات داخلية واضطرابات سياسية وانقلابات، إلى جانب انقساماتهم بسبب الخصومات العربية الداخلية.
علاوة على ذلك، تعتمد القوة العسكرية الحديثة بشكل متزايد على التفوق التكنولوجي والتدريب العالي والقيادة المحترفة أكثر من اعتمادها على التفوّق العددي، الأمر الذي جعل الجيش الإسرائيلي يتمتع دائمًا بقدرات تفوق بكثير تلك التي امتلكها خصومه.
وقد ازداد هذا التفوق مع تطور طبيعة الحروب التي باتت تعتمد بشكل متزايد على أسلحة باهظة الثمن ومتقدمة تقنيًا. ورغم ازدياد قدرة حزب الله وحماس بمرور الوقت، فإن أيًا منهما لم يتمكن من تهديد وجود إسرائيل فعليًا أو من مضاهاة حجم الدمار الذي تستطيع إسرائيل إلحاقه به. كما عزّزت الترسانة النووية الكبيرة لإسرائيل، إلى جانب قدراتها الاستخباراتية المشهودة، مكانتها الإقليمية بشكل إضافي.
والأهم من كل ذلك أن إسرائيل تحظى بدعم هائل، وغالبًا غير مشروط، من الولايات المتحدة التي تساندها بغض النظر عمّا تفعله، وهي ملتزمة رسميًا بالحفاظ على “التفوق العسكري النوعي” الإسرائيلي. فلو لم يكن هذا الدعم الأمريكي موجودًا، لكان بإمكان الإسرائيليين الذين يبلغ عددهم نحو 10 ملايين، الدفاع عن أراضيهم – لا ننسى أنهم يمتلكون أسلحة نووية – لكن من غير المرجح أن يتمكنوا من بسط هيمنتهم على المنطقة المحيطة بهم.
وبناءً على ما سبق، فإن فكرة هيمنة إسرائيل على الشرق الأوسط الأوسع لم تعد بالقدر نفسه من السخف كما قد تبدو للوهلة الأولى. لكن سيكون من الخطأ اعتبار إسرائيل قوة مهيمنة حقيقية في المنطقة. أولاً، القوة المهيمنة إقليميًا قوية جدًا مقارنة بجيرانها لدرجة لا تواجه أي تهديدات أمنية جدية من جانبهم، ولا تقلق من ظهور خصم حقيقي في المستقبل المنظور.
وهذا هو الوضع الذي وصلت إليه الولايات المتحدة مع مطلع القرن العشرين، حين انسحبت القوى العظمى الأخرى من نصف الكرة الغربي، ولم تعد هناك أي دولة – أو تحالف دول – قادرة على مجاراة مزيج القوة الاقتصادية والقدرة العسكرية الأمريكية.
باستثناء أزمة الصواريخ الكوبية، التي انطوت على تدخل قوة خارجية (الاتحاد السوفيتي) بإرسال صواريخ نووية إلى المنطقة، لم تواجه الولايات المتحدة منذ أواخر القرن التاسع عشر أي تهديد عسكري كبير من داخل نصف الكرة الغربي. وهذا الموقع المتميّز أتاح لواشنطن أن تركّز سياساتها الخارجية والدفاعية على أوراسيا، بهدف منع أي قوة أخرى من تحقيق موقع مهيمن مماثل في أي منطقة ذات أهمية استراتيجية.
لا ترقى إسرائيل اليوم إلى هذا المستوى من الهيمنة. فعلى سبيل المثال، لا يزال الحوثيون في موقف تحدٍّ، كما أن الجيش الإسرائيلي لا يزال غارقًا في غزة رغم الدمار الهائل الذي ألحقه بسكانها. صحيح أن إسرائيل أضعفت بشكل كبير كلاً من حزب الله وحماس، لكن هذين الفاعلين غير الدولتيْن لم يشكلا يومًا تهديدًا وجوديًا حقيقيًا لها.
ولا توجد دولة عربية – أو تحالف عربي – قادر حاليًا على مواجهة إسرائيل عسكريًا، لكن كلًّا من تركيا وإيران تمتلكان قوات عسكرية كبيرة وسكانًا أكثر عددًا بكثير، ويمكن لكل منهما أن يخوض حربًا شاملة بدفاع ذي مصداقية، حتى لو انتهى الأمر بهزيمتهما.
هذا يعني أن إسرائيل لا تستطيع تجاهلهما أو الافتراض بأن هاتين الدولتين ستخضعان لها. وتؤكد مقاومة إيران المستمرة هذا الواقع، فمع أن ردودها الانتقامية على الهجمات الإسرائيلية الأخيرة كانت أقل حجمًا من الخسائر التي تكبدتها، إلا أنها لم تكن هامشية ولا تزال المواجهة مفتوحة. ولا توجد مؤشرات على أن طهران ستقبل طوعًا بخضوع مصالحها لإسرائيل حتى لو خرجت خاسرة من الجولة الأخيرة. لهذا السبب وحده، لا يمكن اعتبار إسرائيل قوة مهيمنة إقليميًا.
علاوة على ذلك، فإن المبرر الكامل لهذه الهجمات الأخيرة كان الخوف من احتمال امتلاك إيران للأسلحة النووية في يوم من الأيام. ولا يكمن الخطر في استخدام إيران لقنبلة نووية للهجوم على إسرائيل – وهو أمر انتحاري – بل في أن وجود قنبلة إيرانية سيحد من قدرة إسرائيل على استخدام القوة في المنطقة دون حساب أو عقاب. ويرى قادة إسرائيل في احتمال اضطرارهم للتصرف بقيود أكبر خطرًا يُظهر أنهم لا يتمتعون بنوع “الأمن الحر” الذي طالما تمتعت به الولايات المتحدة – القوة الحقيقية الوحيدة في المنطقة.
كما أن النجاحات الأخيرة لإسرائيل على أرض المعركة لم تحل المشكلة الأعمق المتعلقة بالفلسطينيين الذين يشكلون نحو نصف سكان الأراضي التي تسيطر عليها. لم تمنع القدرات العسكرية والاستخباراتية المتفوقة لإسرائيل حركة حماس من قتل مئات الإسرائيليين في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ولم تقترب إسرائيل بقتلها أكثر من 55,000 فلسطيني كرد فعل من الوصول إلى حل سياسي لهذا الصراع. بل على العكس، لقد شوه ذلك صورة إسرائيل على الصعيد العالمي بشكل كبير وأضعف الدعم حتى بين الحلفاء التقليديين لها.
والأهم من ذلك كله أن إسرائيل لا تزال تعتمد اعتمادًا حاسمًا على راعيها الأمريكي الذي يزودها بمعظم الطائرات والقنابل والصواريخ اللازمة لمهاجمة جيرانها إلى جانب الحماية الدبلوماسية المستمرة. فالهيمنة الإقليمية الحقيقية لا تتطلب الاعتماد على الآخرين للسيطرة على محيطها، لكن إسرائيل تعتمد على ذلك.
وقد ظل الدعم الأمريكي قويًا لعقود بسبب تأثير جماعة مصالح محلية قوية، إلا أن العلاقة أظهرت علامات توتر في السنوات الأخيرة، ومن المرجح أن تصبح أكثر صعوبة في الاستمرار مع تراجع مكانة الولايات المتحدة على الساحة العالمية. وإذا ما أدخلت جولة القتال الأخيرة الولايات المتحدة في النزاع، فسيدرك المزيد من الأمريكيين، بمن فيهم أنصار ماغا الذين اعتقدوا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيحافظ على السلام، الثمن الكبير الذي يدفعه الأمريكيون من أجل “العلاقة الخاصة” بين البلدين.
أخيرًا، تتطلب الهيمنة الإقليمية الدائمة قبول الدول المجاورة (وفي بعض الحالات ترحيبها) بالمكانة المهيمنة للبلد المهيمن وإلا فإن البلد المهيمن سيظل قلقًا باستمرار من تجدد المعارضة وسيُجبر على اتخاذ إجراءات متكررة لمنعها من الظهور.
لجعل مكانته المميزة مقبولة لدى الآخرين، يجب على المهيمن الدائم أن يتصرف بدرجة من التسامح وضبط النفس، كما فعل الرئيس الأمريكي السابق فرانكلين د. روزفلت من خلال تبنيه سياسة “حسن الجوار” تجاه أمريكا اللاتينية. ومن الجدير بالذكر أن المهيمنين الإقليميين المحتملين مثل فرنسا النابليونية وألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية حققوا مكانة مهيمنة مؤقتة، لكنهم لم يتمكنوا من ترسيخ مكاسبهم الأولية وانتهى بهم الأمر إلى الخضوع لتحالفات معارضة أقوى.
لكن التعامل مع الجيران بتسامح وضبط نفس ليس من سمات إسرائيل، كما أن النفوذ المتزايد لقوى اليمين والمتطرفين الدينيين في البلاد يجعل ذلك أقل احتمالاً. وعند جمع كل هذه العوامل، يتضح أن إسرائيل بعيدة كل البعد عن أن تكون مهيمنة إقليمية.
ولا شك أن قادتها قد يرغبون في تحقيق هذا الوضع – فلماذا لا؟ – لكنه سيظل بعيد المنال إلى الأبد. وهذا يعني أن الأمن طويل الأمد لإسرائيل يعتمد في النهاية على التوصل إلى تسوية سياسية دائمة مع جيرانها بما في ذلك الفلسطينيين، وهذا تذكير آخر بأن الأمن الدائم يعتمد في النهاية على السياسة وليس على القوة وحدها.
المصدر: فورين بوليسي