في أقصى الجنوب العراقي، وعلى ضفاف شط العرب، تقف البصرة اليوم شاهدة على مأساة تتفاقم بصمت مؤلم، حيث بات “العطش” واقعًا مريرًا يقاسيه السكان، فالمحافظة الغنية بالنفط والمياه سابقًا، تعاني الآن من أزمة مياه خانقة، تتداخل فيها عوامل الطبيعة القاسية مع إخفاقات الإدارة وتراكمات الإهمال.
تواجه البصرة اليوم أزمة مركبة من مياه مالحة ملوثة، أدت إلى تلف أراضٍ زراعية ونفوق المواشي، وبات السكان يشترون المياه كما لو كانت سلعة نادرة.
تدهور مائي
لم تولد أزمة مياه البصرة فجأة، بل هي حصيلة عوامل متشابكة بدأت بالظهور تدريجيًا، حتى وصلت إلى مستويات تهدد الحياة اليومية في المدينة.
تتصدر ملوحة المياه واجهة الأزمة، خصوصًا مع بداية فصل الصيف، حيث تراجعت الإطلاقات المائية القادمة من دجلة، وامتد اللسان الملحي عبر شط العرب ليصل إلى قلب المدينة.
في شمال البصرة، كانت البداية، حيث سُجّلت أولى علامات الكارثة، محاصيل زراعية أتلفها ارتفاع الملوحة، ومواشٍ نفقت بعد شرب مياه ملوثة امتزجت بمخلفات المجاري والنفط.
ووفقًا لشهادات محلية، فإن المياه التي تصل إلى البيوت لا تصلح للاستخدام البشري ولا الحيواني، وقد تسببت في أمراض جلدية ومعوية عديدة بين السكان.
يقول كبير خبراء السياسات المائية، الدكتور رمضان حمزة، إن مسؤولية أزمة العطش في البصرة تقع على عاتق الطبيعة وسوء الإدارة، فعوامل مثل تغير المناخ، وتحكم دول المنبع، تركيا وإيران، بتدفق المياه نحو العراق، أسهمت في تقليص مناسيب دجلة والفرات، ما زاد من الملوحة والضغط على شط العرب.

لكن حمزة يحمّل، خلال حديثه مع موقع “نون بوست”، العامل الإداري المسؤولية الأثقل، نتيجة ضعف إدارة الموارد المتوفرة، وغياب الرؤية في تطوير البنية التحتية أو تنفيذ مشاريع التحلية الضرورية.
ويوضح خبير المياه أن “التقاعس الإداري، وعدم وجود تنسيق فعّال بين الوزارات والحكومات المحلية، جعل الأزمة تتفاقم عامًا بعد عام، حتى باتت تهدد الحياة في المدينة بشكل مباشر.”
تقرير شعبة زراعة قضاء الإمام الصادق بالمحافظة، كشف في 12 يونيو/ حزيران الجاري، عن نفوق عشرات الأبقار بسبب التسمم الناتج عن شرب مياه نهر الفرات الملوثة، في حين أكدت الفحوص البيطرية احتمال ارتفاع عدد الهلاكات، ما ينذر بخطر يتجاوز الضرر البيئي إلى تهديد مباشر للأمن الغذائي المحلي.
وفي مركز المدينة، لم يكن الوضع أفضل، حيث ارتفعت التراكيز الملحية في القنوات المغذية لمناطق مثل المعقل والجبيلة والعشار، حتى تجاوزت في بعض المناطق 19 ألف TDS، بحسب دائرة ماء البصرة.
المياه، بلونها الأصفر ورائحتها الكريهة، لم تعد آمنة حتى لغسل الأواني، ما اضطر العائلات لشراء الماء بأسعار مرتفعة لجميع احتياجاتها اليومية.
الحياة تحت التهديد
لم يعد العطش في البصرة مجرد معاناة موسمية، بل تحول إلى خطر يومي يهدد صحة السكان، ولقمة عيشهم، وكرامتهم المعيشية، فمع تفاقم ملوحة المياه وتلوثها، باتت الاحتياجات الأساسية – من شرب وطبخ وغسيل – رهينة “تناكر الماء” التي تُباع بأسعار باهظة، تُثقل كاهل العائلات محدودة الدخل.
من جانبها، كشفت دائرة ماء البصرة عن ارتفاع مقلق في نسب التراكيز الملحية، إذ صرّح هيثم جار الله، معاون مدير الدائرة، أن “قلة الإطلاقات المائية الواصلة إلى حوض شط العرب كانت السبب المباشر في زيادة ملوحة المياه، حيث وصلت التراكيز إلى 3500 TDS في كتيبان، وتجاوزت 19500 TDS في منطقة سيحان بسبب غلق نهر الكارون”.
أما من زاوية الصحة العامة، فقد دق ناقوس الخطر مدير مكتب مفوضية حقوق الإنسان في البصرة، مهدي التميمي، محذرًا من تبعات كارثية: “رُصدت حالات تسمم معوي حادة نتيجة استخدام مياه ملوثة كيميائيًا وجرثوميًا، تصل إلى المنازل دون تعقيم أو معالجة، والمناطق الشمالية باتت فعليًا مناطق منكوبة”.
ويضيف التميمي، بأن “غياب حالة الطوارئ، وعدم نشر لجان استجابة ميدانية، يعكس تقصيرًا رسميًا خطيرًا، وإذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة، فإن ما ينتظر البصرة سيكون أسوأ من كارثة عام 2018”.
من جانبه، يؤكد حمزة أن “الوضع البيئي في البصرة تجاوز مرحلة الخطر وأصبح يندرج ضمن توصيف (النكبة البيئية)”. ويشرح أن المياه الملوثة والمالحة تسببت في موجات تسمم، ونفوق واسع للمواشي، وتدمير مساحات زراعية كبيرة، مشيرًا إلى أن “البنية البيئية في البصرة تُستنزف من ثلاث جبهات: المياه، والانبعاثات النفطية، ومواقع الطمر غير المنظمة، ما يُشكل بيئة غير صالحة للعيش البشري أو الحيواني”.
ويحذر حمزة من خسائر متراكمة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، قد تكون آثارها طويلة الأمد في حال غياب التدخل العاجل.
في ظل هذه التصريحات، تتضح صورة أزمة المياه الملوثة التي تدمر الزراعة، وتقتل الماشية، وتنشر الأمراض، وتفرض عبئًا ماليًا على السكان، وسط ضعف حكومي ملحوظ في الاستجابة، وغياب الخطط الاستباقية.
غضب شعبي
مع تفاقم أزمة المياه، لم يجد أهالي البصرة خيارًا سوى النزول إلى الشارع، حيث خرجوا في احتجاجات غاضبة، خصوصًا في شمال المحافظة، مطالبين بحلول حقيقية لمشكلة العطش، لكن بدلًا من الاستجابة، يقول ناشطون إنّ الحكومة المحلية قابلتهم بالتجاهل، وأحيانًا بالملاحقات القضائية.
من جانبه، وجّه النائب في البرلمان العراقي، عدي عواد، انتقادات حادة لوزارة الموارد المائية، متهمًا إياها بالتقصير، وقال إن الوزارة كان عليها أن تتوقع هذه الأزمة وتتخذ إجراءات مبكرة، بدلًا من انتظار الكارثة.
وأشار في تصريحه، في 12 يونيو/ حزيران، إلى أن الحديث عن نقص التخصيصات المالية ليس عذرًا مقبولًا، مضيفًا: “لو اضطررنا لجمع تبرعات من أهالي البصرة، لكان أهون من أن تموت المدينة عطشًا”.
كما وصف النائب مفاوضات الحكومة مع دول الجوار حول المياه بأنها “كلام فارغ”، مؤكدًا ضعف الاستعداد الرسمي، واعدًا بحمل احتياجات البصرة إلى وزارتي الموارد المائية والمالية.
خارطة الحل
بعد سنوات من تفاقم الأزمة وتراكم آثارها، لم يعد الحديث عن “أزمة مياه البصرة” مجرد توصيف لحالة طارئة، بل ضرورة ملحّة تتطلب خطة إنقاذ شاملة، تبدأ من الإقرار بالأخطاء وتحديد الأولويات، وصولًا إلى تنفيذ حلول واقعية قابلة للتطبيق.
ويقترح الخبير رمضان حمزة خارطة طريق للتعامل مع الكارثة، تنقسم إلى خطوات عاجلة ومتوسطة المدى:
-
على المدى القصير، يجب توفير مياه شرب آمنة عبر وحدات تحلية متنقلة، وتكثيف الرقابة على جودة المياه، وإطلاق حملات توعية للمواطنين.
-
أما على المدى المتوسط، فيتوجب استكمال المشاريع الكبرى لتحلية المياه، وتحسين البنية التحتية، وتفعيل التنسيق مع دول المنبع لضمان إطلاقات مائية عادلة، بالإضافة إلى دعم الزراعة بتقنيات مقاومة للملوحة.
وفي معرض تحليله لجذور الأزمة، يرى الخبير حمزة أن الجغرافيا القاسية، مثل امتداد اللسان الملحي من الخليج العربي إلى عمق شط العرب، تشكل عائقًا حقيقيًا، لكنه يوضح أن سبب هذه المشكلة هو غياب الإطلاقات المائية من دجلة والفرات، وهو ما يحدث نتيجة عوامل إدارية وسياسية.
ويضيف أن “المشكلة ليست فقط في الطبيعة، بل في إدارة الأزمة، وفشل السلطات العراقية في تأمين حصص مائية كافية، أو مواجهة التجاوزات الداخلية والخارجية على المياه، ما جعل المشكلة في جوهرها إدارية – وإن اتخذت شكلًا جغرافيًا”. ويختم قائلًا: “ما لم تكن هناك استجابة استراتيجية، فإن ظمأ البصرة سيتحول إلى تهديد دائم، والتلوث سيُحكم قبضته على مستقبل المحافظة”.