بينما تشتد الاشتباكات الصاروخية بين “إسرائيل” وإيران، لم تنتظر الأسواق الإسرائيلية إعلان الحرب الرسمي لتبدأ ردّ فعلها، فالاقتصاد الإسرائيلي الذي بالكاد تماسك أمام تبعات حرب غزة الممتدة لقرابة العامين، بدأ ينزف من جديد تحت وقع الاستهداف الإيراني.
فيما تتحول التداعيات الاقتصادية لهذا التوتر الإقليمي أكثر وضوحًا بالداخل الإسرائيلي، متمثلة في إنفاق عسكري طارئ يستهلك ميزانية الدولة، وتقليصات حادة في قطاعات مدنية مختلفة من بينها الأسواق والعقارات.
تأتي هذه الأعباء في ظل إرث ثقيل من الخسائر التي خلفتها الحرب على غزة، حيث قُدّرت الكلفة الإجمالية لها بنحو 250 مليار شيكل (أي ما يعادل 67.5 مليار دولار أمريكي) حتى نهاية عام 2024، وفقًا لتقديرات بنك “إسرائيل” ووزارة المالية.
وخفض التصنيفات الائتمانية لـ”إسرائيل” من قِبل وكالات التصنيف الكبرى؛ حيث خفّضت كل من S&P و Fitch التصنيف إلى “A” مع تقييم سلبي، ما يعكس تساؤلات متجددة حول كيف ستؤثر كلفة الردع العسكري الجديد على ميزانية الدولة؟ وما حجم الإرباك الذي بدأت تشهده الأسواق في ظل هذه المعادلة المتفجرة؟
كلفة الردع العسكري الإسرائيلي
تشير التقديرات الأولية إلى أن كلفة الردع العسكري الإسرائيلي في مواجهة إيران بدأت ترتفع بوتيرة غير مسبوقة، ففي تقرير نشرته صحيفة “واي نت نيوز” في 15 يونيو/حزيران، نُقل عن مستشار مالي سابق لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي أن اليومين الأولين من القتال مع إيران وحدهما كلّفا 5.5 مليار شيكل (نحو 1.45 مليار دولار). وبالمعدل الحالي، فإن استمرار العمليات العسكرية بهذا الزخم قد يجعل “إسرائيل” تتجاوز مجمل نفقات حرب غزة – حتى الآن – في غضون سبعة أسابيع فقط.
وقد بدت هذه الوتيرة المتسارعة في الإنفاق منعكسة بوضوح على الموازنة العامة، فقد صرّح وزير المالية الإسرائيلي بيتسلئيل سموتريتش أن حكومة الاحتلال الإسرائيلية أنفقت حتى الآن 18.8 مليار شيكل (قرابة 5 مليارات دولار) على المجهود العسكري، منها تسعة مليارات شيكل خُصصت لتعويض الشركات الصغيرة والمتناهية الصغر عن الخسائر غير المباشرة الناتجة عن الحرب، ورغم هذا الضخ المالي الكبير، أقرّ الوزير بالحاجة إلى توسيع ميزانية الحرب، في ظل احتمال اتساع رقعة المواجهة.
اللافت أن تخصيص الموارد لهذه المواجهة لم يكن طارئًا بالكامل؛ إذ اعترف سموتريتش بأن ميزانية 2025 قد أُعدت مسبقًا على أساس توقع صراع محتمل مع إيران. ووفقًا له، فقد جرى رصد مخصصات استثنائية لمكتب رئيس الوزراء، وجرى تزويد المؤسسة العسكرية بما وصفه بـ”الحد الأدنى الضروري” للاستعداد لهذا السيناريو، وإن بقيت بعض التفاصيل محصورة ضمن دائرة ضيقة من المسؤولين الأمنيين.
مع ذلك، فإن الأصوات الاقتصادية المحذّرة تتزايد، فبينما تؤكد بعض الأوساط السياسية أن إزالة “التهديد الإيراني” قد يُفضي إلى تحسين تصنيف الديون وزيادة الاستثمارات، يرى محللون اقتصاديون عكس ذلك. إذ حذّر أدريان بايلوت، المحرر الاقتصادي في مجلة “كالكاليست”، من الدخول في حرب استنزاف شاملة في وقت لا تزال فيه “إسرائيل” منخرطة في عدوان طويل الأمد على غزة. ووفقًا له، فإن هذا المسار قد يدفع الدولة نحو أزمة مالية عميقة ما لم تُجرَ تقديرات دقيقة لمسار الصراع وتكلفته.
خفض أعمق في الإنفاق المدني
بدورها، بدأت ملامح الانكماش في الإنفاق المدني الإسرائيلي تتضح أكثر من أي وقت مضى، فبينما تُضخ عشرات المليارات في ميزانية الدفاع، تتقلص الموارد المتاحة للقطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والنقل والخدمات الاجتماعية، في عملية إعادة ترتيب للأولويات.
الخبير الاقتصادي شلومو تيتلباوم حذّر قبل أيام من أن ميزانيتي عامي 2025 و 2026 ستكونان مرتهنتين لتكاليف الحرب مع إيران، فإلى جانب الإنفاق العسكري المتسارع، تُضاف تعويضات مباشرة وغير مباشرة عن أضرار الجبهة الداخلية، بالتزامن مع تراجع عائدات الضرائب وتباطؤ النمو الاقتصادي.
في موازاة ذلك، تظهر مؤشرات إضافية على ضغط الإنفاق المدني، فقد أفادت قناة “كان” العبرية بأن الحكومة قررت صرف مبلغ 500 شيكل (نحو 145 دولارًا) كتعويض لكل مواطن تضرّر منزله في الهجمات الإيرانية، من دون أن تشمل هذه الخطوة أصحاب المصالح التجارية الذين تضرروا بدورهم من الإغلاق أو الدمار.
الصحفية الاقتصادية الإسرائيلية لئال كيزر كشفت أن نحو 1500 وحدة سكنية تعرّضت لأضرار خلال أربعة أيام فقط من التصعيد، بينما تتوقع تقديرات أولية أن تصل كلفة الأضرار في المرحلة الأولى من المواجهة إلى نحو 10 مليارات شيكل، دون احتساب خسائر محتملة في منشآت البنية التحتية أو مواقع استراتيجية.
الأخطر، بحسب كيزر، أن صندوق ضريبة الأملاك الذي يُفترض أن يموّل تعويضات الأضرار يحتوي فقط على 9.5 مليارات شيكل، ويُظهر مؤشرات واضحة على تآكل الاحتياطي. ومع استمرار التصعيد، عجز هذا الصندوق قد يتحوّل إلى قنبلة مالية مؤجلة، تضرب قدرة الدولة على تلبية الحد الأدنى من التزاماتها الاجتماعية.
الأسواق بين الإرباك والجمود
الأسواق الإسرائيلية تعيش حالة شلل شبه كامل بفضل الإغلاقات الأمنية التي طالت مراكز التسوق الكبرى منذ اللحظات الأولى لبدء الهجمات، مما أحدث خللًا واسع النطاق في النشاط التجاري في تل أبيب خصيصًا، وسط مشهد من المتاجر المغلقة، وسلاسل التوريد المعطّلة.
الرؤساء التنفيذيون لشركات توزيع المواد الغذائية التي تدير مراكز مثل “كيريون”، “رمات أفيف مول”، و”غراند مول” في بتاح تكفا، توجّهوا قبل أيام بنداء عاجل لوزير الاقتصاد نير بركات، مطالبين بالسماح للمتاجر بإعادة فتح أبوابها رغم التعليمات الأمنية.
وبرّروا طلبهم بأن هذه المراكز تخدم ما يزيد عن نصف مليون نسمة، وأن الجمهور بحاجة ماسّة للتزوّد بالسلع الأساسية، لكن غياب الحماية الأمنية حول هذه المراكز إلى أماكن مهجورة.
البيانات الرقمية تعزّز هذا التبرير. فقد كشفت شركة “شيبا” المسؤولة عن نظام الدفع ببطاقات الخصم في “إسرائيل”، عن انخفاض بنسبة 11.9% في الإنفاق عبر بطاقات الائتمان خلال الأيام الأولى من التصعيد مع إيران، أي ما يعادل تراجعًا بقيمة 1.319 مليار شيكل (نحو 400 مليون دولار).
كما سجلت المنصات التجارية تراجعًا ملحوظًا في الطلبات عبر الإنترنت، لا سيما من الخارج، بسبب توقف الرحلات الجوية، وإغلاق المجال الجوي، وتعطّل معظم خدمات البريد.
هذا المزيج من الجمود في الحركة، والتراجع في الإنفاق، والانقطاع في التوريد، يكشف عن هشاشة البنية الاقتصادية اليومية للاحتلال في ظل الحروب، و يجعل من فكرة صمود أسواقه لفترة طويلة موضع شك كبير.
انهيار سوق العقارات
بالتزامن مع ذلك كله، كشفت الصواريخ الإيرانية الدقيقة في الأيام الأولى من الهجوم، عن واحدة من أضعف حلقات الاقتصاد الإسرائيلي ألا وهو قطاع العقارات، فقد تعرضت أبراج سكنية حديثة في مستوطنات تل أبيب وضواحيها مثل بات يام وريشون ليتسيون ورحوفوت وبيتاح تكفا ورامات غان وبني براك لأضرار كبيرة، رغم أنها من المفترض أن تكون محصّنة، ما أثار ذعرًا واسعًا بين السكان والمستثمرين على حد سواء.
هذا القلق لم يتوقف عند حدود الأبراج الحديثة، بل تضاعف إعلاميًا عندما تبيّن أن أكثر من نصف شقق “إسرائيل” غير محمية. إذ أشار بيان جمعية المقاولين والبنّائين الإسرائيليين إلى أن 1.67 مليون شقة من أصل 2.96 مليون تفتقر للحماية اللازمة، بنسبة تصل إلى 56%.
أما ييغال غوفرين، رئيس جمعية مهندسي الإنشاءات المدنية، فاعتبر أن ما يجري يُعيد أزمة السلامة الإنشائية إلى الواجهة، وأكد أن الأبراج الشاهقة لم تعد بمنأى عن التهديد، فكيف الحال مع المباني القديمة المتداعية؟ “لكنه تحدٍ لا يبدو أن الحكومة مستعدة له حاليًا” حسب وصفه.
في نهاية المطاف، يبدو أن “إسرائيل” تراهن على الحسم العسكري مع إيران لإعادة الاستقرار على المدى البعيد، لكن الأرقام والمؤشرات تُظهر أن جبهتها الداخلية تنهار بصمت، فكل يوم يمر عليهم يُراكم خسائر لا تُقاس بالمادة فقط، بل بتآكل قدرة الدولة على الصمود المجتمعي والاقتصادي، لذا فإن تكلفة ردعها العسكري اليوم قد تتحول إلى عبء وجودي غدًا.