منذ تأسيسها على أرض أبادت شعبها وهجرّتهم وارتكبت أبشع المجازر بحقهم وهي تجيد ترديد مسوّغات لجرائمها، فاعتبروا عمليات التطهير العرقي حق مشروع ودفاعًا عن “وجودهم” ضد الفلسطينيين أصحاب الأرض، لاحقًا استمرت بذات النهج ولكن بلغة تبرير مختلفة، حيث شنت هجمات وارتكبت مجازر بدعوى “الحرب على الإرهاب” و“الضرورات الأمنية”، كالإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة منذ أكثر من عام ونصف.
اعتمدت “إسرائيل” هذا الأسلوب في احتلالها لأراض عربية في نكسة حزيران 1967 حتى احتفى الغرب بذلك على أنها أعمال “بطولية في سبيل الدفاع عن النفس”.
واليوم تلعب على الوتر ذاته في الهجمات المتبادلة بينها وبين إيران، فوصفت العملية التي شنتها ضد طهران في 13 يونيو الماضي بأنها “ضربة وقائية” تحميها من “التهديد الوجودي الذي يمثله البرنامج النووي الإيراني”.
نظريًا، تسعى “إسرائيل” إلى تصدير نفسها كـ “بطل يدافع عن العالم” ضد خطر نووي مُفترض، ويساعدها في ذلك تواطؤ غربي يكرر روايتها، لكن في الحقيقة هذه الهجمات نفسها قد تُشعل حربًا إقليمية كارثية.
الترويج للمشاهد الإنسانية
لتبرئة نفسها كـ”دولة” تشعل الحروب في المنطقة لحماية وجودها وتدمير أعداءها، تحاول “إسرائيل” في معركتها ضد إيران اللعب على الوتر الإنساني بهدف كسب التعاطف الدولي وحشد التأييد لهجماتها ضد طهران، حيث تركزت التغطية الإعلامية الإسرائيلية على آثار القصف الإيراني على “المنشآت المدنية” وحجم أضرارها.
استثمرت وسائل الإعلام الإسرائيلية في مشاهد الزجاج المحطّم، وأسِرّة المستشفيات، لتجعل من نفسها ضحية، فبعد سقوط صاروخ إيراني على مستشفى سوروكا في بئر السبع، تحوّلت هذه الحادثة إلى مركز للسردية الإسرائيلية الجديدة، ووسيلة أخرى لإسباغ بُعدٍ أخلاقي على العمليات العسكرية الإسرائيلية وتوصيف القصف الإيراني كـ”جريمة حرب”.
وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثناء زيارته إلى المستشفى، “نحن نضرب أهدافًا نووية، وهم يضربون المستشفيات”، فيما ردّد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ذات الرواية، حيث وصف الهجوم الإسرائيلي على إيران بـ”أعدل حملة خاضتها إسرائيل في تاريخها”، مؤكدًا أن “لو كان لدى طهران سلاح نووي، لاستخدموه ضد الأطفال في سوروكا”.
هؤلاء المسؤولين الإسرائيليين ذاتهم يُعَدّون من المسؤولين المباشرين عن استمرار الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، والتي شملت تدمير معظم مستشفيات القطاع فوق رؤوس المرضى والكوادر الطبية، بعد شهور من الحصار والتجويع المتعمّد.
وفي السياق ذاته، حاولت وسائل الإعلام الإسرائيلية تصوير القصف الإيراني لمعهد وايزمان للعلوم على أنه “اعتداء على العلم والإنسانية”، وأظهرت أسفًا على “خسارة أبحاث تخدم البشرية”، متجاهلة حقيقة أن هذا المعهد يلعب دورًا رئيسيًا في دعم المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، من خلال تقديم أبحاث متقدمة في تحليل البيانات الاستخباراتية، وتوجيه الطائرات المسيّرة، وتطوير الأسلحة الذاتية أو شبه الذاتية، بالإضافة إلى تقنيات التتبع والتوجيه الدقيقة التي تُستخدم في العدوان على غزة.
الرقابة العسكرية “أداة إسرائيل” لبناء سردية مزيفة
الرقابة العسكرية تعتبر أداة “إسرائيل” المفضلة لبناء سردية مزيفة وتصدير حقائق مغلوطة، فبحسب إحصائية نشرتها مجلة “+972” منع الرقيب العسكري عام 2024 نشر 1635 مقالة بشكل كامل، وفرض قيودًا جزئية على 6265 مقالة أخرى، ما يعني أن الجمهور الإسرائيلي يرى غالباً الرواية الرسمية فقط، مع حذف أو تهميش التفاصيل المخالفة.
وفي حالة الهجمات الإيرانية، لا تظهر “إسرائيل” الصورة الكاملة للقصف، فبينما تتعمّد ترويج الآثار “الإنسانية”، تسعى إلى التعتيم على استهداف الصواريخ الإيرانية مواقع عسكرية حساسة لتخفي إخفاق دفاعاتها الجوية في التصدي لهذه الهجمات، وتساعدها في ذلك الرقابة العسكرية من خلال تحكّمها بسيرورة النشر حول الضربات الإيرانية.
وحذر رئيس الرقابة العسكرية الإسرائيلية،كوبي مندلبليت، باتخاذ إجراءات ضد الأشخاص أو وسائل الإعلام التي تنشر أو توزّع مواد تتعلق بضربات الصواريخ الإيرانية أو مواقع سقوطها، قبل الحصول على موافقة من الرقابة بنشرها، وحتى مواقع التواصل لم تسلم من ذلك، كما وُجّهت تحذيرات صريحة للإسرائيليين بعدم نشر أي معلومات حول أماكن سقوط الصواريخ أو الأهداف المصابة.
فبينما أكدت تقارير أميركية بأن القصف الإيراني أصاب مجمع وزارة الدفاع الإسرائيلية (الكرياه) وسط تل أبيب، إلا أن إذاعة الجيش الإسرائيلي تحدثت عن اندلاع حرائق قرب المبنى، كما تداول إسرائيليون مقطعا لمراسل “فوكس نيوز” في شارع “مناحيم بيغن” مؤكدًا إصابة المبنى، قبل أن تقطعه الشرطة الإسرائيلية.
وأفادت وكالة الأنباء الإيرانية بتدمير مبنى “غاف يام 4” الاستخباراتي بمدينة بئر السبع جنوب إسرائيل إثر استهدافه صباح الجمعة بصاروخ باليستي، وهو منشأة رئيسية داخل مجمع “سايبر سبارك” التي تضم البنية التحتية السيبرانية والاستخباراتية الإسرائيلية، الأمر الذي لم تعلق عليه “إسرائيل” حتى الآن.
كما كشفت صور أقمار صناعية سقوط عدد من الصواريخ الإيرانية داخل قاعدة تدريب تابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان”، تقع ضمن حدود قاعدة غليلوت وعلى مقربة من مقر الموساد في منطقة رامات هشارون بتل أبيب.
وتحققت وكالة “سند” التابعة للجزيرة من وقوع انفجارين على طرفي جسر رحبعام زئيفي (غاندي)، إلى جانب انفجارين إضافيين بالقرب من مركز التسوق “بيغ فاشن غليلوت” وسط تل أبيب، كما بيّنت المقاطع المصوّرة – التي نُشرت لفترة وجيزة على منصات إسرائيلية قبل أن تُحذف – أن منشأةً لوجستية تابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية “أمان” تعرّضت لأضرار بالغة، حيث تُظهر اللقطات احتراق المنشأة بالكامل بفعل القصف الإيراني.
لم تعترف الحكومة الإسرائيلية بأحد هذه الاستهدافات المذكورة بينما لم تأتِ وسائل الإعلام الإسرائيلية على ذكرها بسبب الحجب المفروض على موادها.
لا تريد السلطات الإسرائيلية أن تتحكّم بالمواد المنشورة عن الاستهدافات العسكرية فحسب، بل تُبقي الصورة الإنسانية أيضًا تحت سيطرتها لتتمكن من التحكم بتوجيه السردية حسب تطور الأحداث، إذ أوقفت الشرطة الإسرائيلية بث العديد من وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الأجنبية من المواقع التي سقطت فيها الصواريخ الإيرانية صباح 19 يونيو، بعد القصف الإيراني على مستشفى سوروكا.
برّر ذلك وزير الأمن القومي، ايتمار بن غفير، بأن “البث الذي يُظهر بدقة أماكن سقوط الصواريخ يُشكل خطرًا على أمن الدولة”، وأن “من يفعل ذلك سيُعامل كمُسيء لأمن الدولة”.
صناعة “الضحية” بدعم غربي
منذ بدء الرد الإيراني على الهجمات الإسرائيلية، تحرّكت ماكينة الإعلام الغربي وحكوماتها بصفٍّ واحد: عناوين عاجلة تصرخ “اعتداء على المدنيين”، بيانات رسمية تشدّد على “حقّ تل أبيب في الدفاع عن نفسها”، فيما اختفت من المشهد حقيقة أنّ إسرائيل هي من أشعلت الفتيل بغاراتٍ استباقية.
هذا التناسق في اللغة والمواقف ليس صدفة؛ بل يُجسّد منهجًا لطالما اتّبعه الغرب في كل مرة تشعل “إسرائيل” حربًا في المنطقة ويمنحها تفويضًا أخلاقيًا مفتوحًا لمواصلة التصعيد بلا مساءلة.
عملت وسائل الإعلام الغربية على استخدام لغة تلقي اللوم على إيران وتُبرئ “إسرائيل” أثناء التحدث عن القصف الإيراني على مواقع إسرائيلية، فبعد استهداف مستشفى سوروكا، عنونت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، بـ”صاروخ إيراني يصيب مستشفى، ما دفع إسرائيل إلى التهديد بالرد”.
أما قناة “سي بي إس” نيوز، عنونت بـ”إسرائيل تتعهد بمحاسبة زعيم إيران على جرائم الحرب بعد سقوط صاروخ إيراني على مستشفى”، مع تكثيف نشر صور الأطفال والنساء والمرضى إلى جانب صور الزجاج المحطمة التي تظهر الجانب الإنساني لآثار القصف وتجاهلت 600 قتيل استهدفتهم الصواريخ الإسرائيلية في إيران.
اللافت أن هذا النمط الإعلامي لا يختلف عمّا جرى في تغطية العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث لعبت وسائل الإعلام الغربية دورًا مركزيًا في تسويق الرواية الإسرائيلية، من خلال التركيز على مشاهد الصواريخ المنطلقة من القطاع وتجاهل مشاهد الدمار واسع النطاق في أحياء غزة المحاصرة.
كما تم تهميش المجازر الجماعية واستهداف المستشفيات والمدارس، مقابل الترويج الدائم لعبارات مثل “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”، حتى في ظل الإبادة الجماعية التي طالت آلاف المدنيين الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال، تحت أنقاض منازلهم المحاصرة بالجوع والنار.
الحكومات الغربية سارت على الدرب ذاته، فجاء بيان مجموعة الدول السبع ليكرّس رواية “الضحية”، وأكدت في بيان لها، على”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” ووصفت إيران بأنها مصدر عدم استقرار في الشرق الأوسط، و”لا يمكن أن تمتلك سلاحا نوويا أبدًا”، كما اعتبر المستشار الألماني فريدريش ميرتس أن “إسرائيل” تقوم بـ”العمل القذر نيابة عن الغرب بأكمله، مشيرًا إلى أنه ممتن للإجراءات الإسرائيلية ضد إيران.
في ضوء ما سبق، يتّضح أن “إسرائيل” لا تزال تتقن لعب دور “الضحية” أمام المجتمع الدولي، مستثمرةً في الرواية الإنسانية والإعلامية لبناء شرعية زائفة لعدوانها المتكرر.
وبينما تُشنّ الحروب وتُزهق الأرواح باسم “الدفاع عن النفس”، تُطمَس الحقائق ويُحجَب صوت الضحايا الحقيقيين، من غزة إلى طهران. وفي ظل هذا الانحياز الغربي الصريح والتواطؤ الإعلامي الممنهج، تظل معاناة الشعوب المحاصرة والمستهدفة هي الثمن المدفوع لحروبٍ تُدار على وقع السرديات المُضلِّلة، لا على وقائع الميدان.