في الوقت الذي تتساقط فيه القنابل على غزة، لا يملك المرء إلا أن يتساءل إلى أين تتجه إسرائيل من وجهة نظر مؤسسة صناعة القرار في أمريكا، وخاصة أن هذه المؤسسة تمنح دعماً مالياً وعسكرياً غير مشروط لإسرائيل مهما بدر منها.
كصحفي أمريكي مقيم في الدوحة تتاح لي الفرصة من حين لآخر للسفر إلى إسرائيل، وإلى المناطق الفلسطينية المحتلة، وإلى معظم أقطار المنطقة، يبدو لي مما أراه من موقعي هذا أن النتيجة التي نقترب منها شيئاً فشيئاً هي “اللادولة”.
بموجب ما نراه من توجهات، لا جرم أن إسرائيل باتت “منطقة خضراء”، هل بإمكان أحد ممن هبطوا في مطار بن غوريون أو قطع جسر اللنبي أو نفذ من خلال جدار العزل أن يدعي غير ذلك؟ ولكن هذه مرحلة قصيرة جداً. الأغلب أن الحالة ستتطور إلى ما يمكن تسميته كناية “الموقع العسكري إسرائيل”.
وحتى هذا التصنيف سيكون لحظياً أيضاً. فكما أن معظم المواقع العسكرية يتم إخلاؤها والتخلي عنها بعد الحرب أو تتعرض للتدمير أثناء الصراع، وأخذاً بعين الاعتبار الظروف الحالية، فأنا أعتقد أن نفس المصير ينتظر ما يطلق عليه اليوم اسم دولة إسرائيل.
تعج المنطقة الآن بالفوضى العنيفة وبدعاوى “الخلافة” ذات التطلعات والطموحات، ويتنافس المقاتلون السنة على الأرض التي باتت عصية على الحكم بسبب ما عاث فيها الطغاة الذين أطيح بهم أو الذين حلوا في مواقعهم.
بعض هؤلاء يحمل اسم داعش أو جبهة النصرة، بينما تتصدر عناوين الصحافة والإعلام أسماء تشكيلات أخرى متنوعة كلها فروع للقاعدة مثل القاعدة في المغرب الإسلامي والقاعدة في جزيرة العرب والشباب.
بالإضافة إلى ذلك تشعر أغلبيات السنة والشيعة بالاغتراب عن قياداتها السياسية وتتطلع إلى إيجاد طريق أفضل، صحيح أنهم في الوقت الراهن يركزون على قتل بعضهم البعض بسبب خلافاتهم الدينية ذات الجذور العميقة، وصحيح أيضاً أن الولايات المتحدة وإسرائيل فيما يبدو يرضيهما تركهم فيما هم فيه من اقتتال، ربما ظناً منهما أن ذلك سيشغلهم عنهما أو على الأقل سيرهقهم.
بدأت هذه الثورات العربية بشكل محلي، وذلك أن الخطوة الأولى الضرورية هي تحقيق الحرية والاستقلال، ولكنها ستمضي في طريقها لتقلب أو تطيح بتلك الأنظمة “المعتدلة” التي يكيل لها الغرب المديح، والتي أبرمت تحالفات في المنطقة يراها الناس جائرة، وخاصة تلك التحالفات التي أبرمت مع إسرائيل.
وأكثر هذه الأنظمة عرضة هي المملكة السعودية والمملكة الأردنية، فالمملكة السعودية بملكها الذي بلغت منه الشيخوخة مبلغاً، وبالبطالة بين شبابها، وبعدم رغبتها في توزيع الثروة على الناس بشكل عادل، والمملكة الأردنية بانعدام النفط فيها، وبتولي أمرها من قبل ملك شاب فاقد للشعبية بشكل متزايد، ذلك الرجل الذي يقدح فيها المرة تلو الأخرى بسبب قربه من الولايات المتحدة ومن إسرائيل، أضف إلى ذلك ابتلاؤها بطوفان اللاجئين الذي أوجدته حروب أنشأها نفس أولئك الأصدقاء. الولايات المتحدة وإسرائيل.
أما مصر تحت قيادة الجنرال السيسي ومحاولته إعادة إحياء نمط الحكم الدكتاتوري الذي ساد المنطقة العربية في ستينيات القرن الماضي فهي عرضة أيضاً وتنتظرها انقلابات وانقلابات، والسؤال هنا: ما الذي سيواجهه “الموقع العسكري إسرائيل” حينما تصل هذه الفوضى عتبة بابه؟
ستضطر إسرائيل ومؤسستها العسكرية إلى إعلان حالة الطوارئ على مدار العام، وسوف يطلقون النار كل حين، وغالباً بشكل عشوائي وفي كل الاتجاهات كما أثبتت التجربة، لن يستهدفوا فقط المراهقين الذين يشعلون النار في الإطارات في الضفة الغربية ولا فقط تلك الصواريخ البدائية التي تأتيهم من قطاع غزة.
بدلاً عن ذلك، سيجد الجيش الإسرائيلي نفسه وجهاً لوجه أمام ثوار مرسوا على القتال يفدون عليه من كل حدب وصوب حيث لا نظام ولا قانون، من الشمال سيأتي الهجوم من سوريا بهدف استعادة الجولان المحتل والمناطق المتنازع عليها مع لبنان، ومن الشرق ستهاجم المرافق العسكرية الإسرائيلية على امتداد الحدود الأردنية مع الضفة الغربية وربما أيضاً من خلال المستوطنات اليهودية المكشوفة، ومن الجنوب، حيث صحراء شبه جزيرة سيناء، سيتدفق المقاتلون الزاحفون من أقاصي الأرض مثل الجزائر عابرين بسهولة من خلال ليبيا ثم مصر وصولاً إلى الهدف.
لن يلبس هؤلاء المقاتلون زياً عسكرياً ولن يضعوا على أذرعهم شرائط تدل على مكانتهم، ولكنهم سيكونون من الذين خاضوا تجارب قتالية في أفغانستان والباكستان والعراق ومصر والصومال وليبيا وسوريا وأتقنوا في الطريق فن الهجمات الانتحارية الأسود، وصناعة العبوات المتفجرة وغير ذلك من المهارات والتقنيات.
هل تعتقد بأن إسرائيل ستكسب الجولة؟ قبل أن تجيب تذكر نتيجة صراعهم مع جماعة واحدة، حزب الله، خلال 34 يوماً من الصراع في عام 2006، كيف ستتعامل تلك الدولة التي تبدو عصية على القهر مع هذا الوضع؟ أتصور أن معظم شبابها ومواطنيها الطموحين العاملين في قطاع التقنية العالية سيفرون إلى أوروبا أو إلى أماكن أخرى أكثر أمناً مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا. ولن تتمكن أي كمية من المساعدات الخارجية من إسعاف الاقتصاد الإسرائيلي، وسيلحق الضرر بالغاز الذي اكتشف مؤخراً وبما يتعلق به من مرافق. على الأغلب سوف يأتي المتطوعون اليهود من مختلف الاتجاهات ولكنهم سيكونون أقل فائدة من الإسرائيليين الموجودين على الأرض.
بالنسبة لإسرائيل، لن ينفعها أفضل ما لديها من سلاح (بما في ذلك السلاح النووي) ولن تغني عنها أجهزتها الاستخباراتية شيئاً. صحيح أن إسرائيل لديها تفوق في قوة المشاه، ولكن تذكروا المقابر التي فتحت للقوى العظمى في الجزائر وفيتنام والعراق وأفغانستان.
أفضل ما يمكن أن تأمله إسرائيل، وهو الأمر الذي ستسخر منه نفس الإدارة التي ستضمن هذه النتيجة، هو وصول قوة من طرف ثالث لتشكل منطقة عازلة بينما تنسحب إسرائيل إلى حدود عام 1967 المعترف بها دولياً.
هذه الحالة بالضبط أثيرت عام 2008 حينما اقترح الجنرال بحري جيمز جون، الذي أصبح فيما بعد مستشاراً للرئيس أوباما لشؤون الأمن القومي، فكرة نشر قوات الناتو في الضفة الغربية، وقيل حينها إن الناتو يمكن أن يشكل منطقة عازلة هناك ليس فقط لضمان أمن إسرائيل بينما تتخلى عن الأرض الفلسطينية التي حولتها إلى مستوطنات ولكن أيضاً حماية الفلسطينيين من اعتداءات المستوطنين اليهود والجنود الإسرائيليين.
قد تكون ثمة فرصة الآن أمام خيار الناتو لينجح، ولكن ذلك لن يحدث لعدة أسباب. أولاً، لم يبد نتنياهو نية كافية تجاه تخلي إسرائيل عن الاحتلال. ثانياً، لن تسعى قوة غربية أو تحالف غربي لفرض حل ما. وأخيراً، إذا ما أخذنا في الاعتبار رفض المؤسسة الإسرائيلية لمقترحات جونز في ذلك الوقت، لا يوجد سياسي واحد يمكن أن يخطر بباله إثارة الموضوع للنقاش الآن.
قد يقول كثيرون إن هذا غير منطقي. ولكن طوال هذا الصراع كان هناك انعدام في الرؤية، وما نراه اليوم لا يمكن بحال وصفه بأنه خيال. إنها مأساة اقترفتها بشكل أساسي أيدي الإسرائيليين والأمريكان، ولا ينبغي أن يستغرب أحد حينما تحل بنا.
المصدر: هافنتون بوست
ترجمة عربي 21
