تُعدّ التجربة العراقية الحديثة – الممتدة منذ غزو 2003 وحتى اليوم – أحد أقوى المختبرات البشرية حول تحوّل المجتمعات عقب انهيار الحكومات والشمولية، وما أعقب ذلك من انسدادٍ سياسي وأمني، ودخول حلفاء سابقين في هوّة الصراعات الأهلية والطائفية، وصولًا إلى انفجار داعش ثم تفرّق البؤر الإرهابية.
هذه التجربة الثمينة، التي دفعت فيها الشعوب العراقية دماءً كثيرة، تحمل اليوم دروسًا جوهرية لأية دولةٍ تجتاز مفترق دروب واضطرابات مشابهة.
ولا يشكّل ما وقع بالأمس من تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق نموذجًا صارخًا لواقع مشابه بامتياز، يشبّه إلى حد كبير تفجيرات العراق للمفخّخات التي راجت بين 2004–2010، والتي لم تنتصر فيها طائفة على أخرى، بل جرّت فواجع لكل مكونات الدولة والمجتمع.
سأستعرض في هذا المقال، دوافع ضرورة دراسة التجربة العراقية من قِبل السوريين، مع تقديم ما يساهم في استخلاص الدروس، بعيدًا عن السجالات العقيمة.
مدنيّة التجربة العراقية: خزان دروس شامل
عندما انهار النظام البعثي في العراق عام 2003، دخل البلد مرحلة انتقالية غير مقصودة: تحول من سلطة مركزية قوية، إلى فوضى مؤسساتية أعادت رسم خارطة السلطة بطريقة طائفية وانتهت بإعادة إنتاج العنف. هذه التجربة تجسيد حي للأزمات التي تحدث إذا لم تُدار عملية الانتقال برؤية متكاملة.
1. انهيار مؤسسات الدولة وبدء الفوضى
خلال أشهر معدودة بعد الغزو، انهارت مؤسسات الدولة؛ فُقد التنسيق الإداري، وحُيد الأمن، وتراجعت قدرة الوزارات على تقديم الخدمات. نتيجة قلة التخطيط، تم الاستعانة بخطط قصيرة الأمد، وبدأت أعمال النهب والتدمير للعقارات الحكومية والمستشفيات. أدى ذلك إلى فقدان الثقة بالمؤسسة الوطنية، وظهور الفراغ كعامل محفّز للفوضى الشاملة.
2. سياسة إزالة البعث وانتقائية الإقصاء
إزالة البعث وتطبيقها الانتقائي ضمنها توظيف واسع للسلطة الطائفية، حيث استُبعد عشرات الآلاف من الموظفين – من الضباط إلى المعلمين – بسبب انتماءات حزبية. ونتج عن ذلك:
- إضعاف الأجهزة الأمنية: اختفى أخيرة من يدير الشرطة والجيش والمدارس، ففقدت الدولة أدواتها الحيوية.
- تفجير موجة من السخط: إذ تحوّل الموظفون المطرودون، ولم يكن أمامهم مصدر دخل، إلى أدوات انفجار اجتماعي وربما انضمام إلى المقاومة أو التنظيمات المسلحة.
3. انغماس طائفي في مؤسسات الدولة
استغل شيوخ الطائفية الفراغ لصالحهم، فشكلت النخب الشيعية، ولاحقًا تحت حكم المالكي، أذرعًا أمنية ومؤسسات مستفيدة من التهميش السني، فأُديرت الدولة بمنطق ديناميكي طائفي واضح، ما زاد التوتر الاجتماعي، وزاد المشهد النزاعي.
4. الحرب الأهلية 2006–2008 ونشوء منابر الموت
هذا الغياب الوطني قاد إلى حرب أهلية طائفية امتدت من 2006 إلى 2008، واستُخدمت محطة بغداد لتوثيق خسائر تجاوزت 4,000 مدني شهريًا إلى 2007. نشأت ميليشيات طائفية، وأفلحت في السيطرة على أجزاء من البلد مشعلة مشهدًا مرعبًا من القتل المتبادل والفتنة.
5. تجربة داعش: الفوضى تنسج دولةً داخل الدولة
وسط هذه الفراغات، ظهرت داعش – ليس مجرد تنظيم إرهابي، بل كدولة كاملة (وفق منطقها)، تستغل الجهل والمظلومية، وتبني سلطتها على الفراغ الإداري والطائفي. اجتذبت مساحات من الضعف وبدأت الاستيلاء على الأراضي .
6. تخريب البنى الاقتصادية وفساد ما بعد الحرب
بعد سنوات الحرب، لم تتعاف المؤسسات. فقدت هيبتها، واستمر الفساد في السيطرة على المناقصات والموارد، وتلك القلة القوية باتت تتقاسم الثروات، مما أعاق إعادة بناء الدولة الحقيقية، وجعل الاقتصاد أداة طائفية أخرى.
تشكّل المعالم السابقة إطارًا واضحًا لدراسة وتحليل تجارب الانتقال السياسي الناجحة، ويقدم العراق نموذجًا تعليمًا تحذيريًا: دون إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتعزيز المشاركة الحقيقية، ومكافحة الفساد، وطمس الهوية الوطنية، فإن أي مسار نحو الفوضى المنظّمة سيعيد إنتاج التجربة ذاتها.
التفجير الأخير في دمشق: نسخة معاصرة من نموذج عراق الاضطراب
في 22 حزيران/يونيو 2025، تعرّضت كنيسة مار إلياس في ضاحية الدويلعة بدمشق لهجوم، راح ضحيته 25 قتيلًا و63 جريحًاK هذا الانفجار يأتي في سياق تغيّر السلطة، ويشكل:
- مؤشرًا على انطلاق خلايا نائمة من داعش وأشباهها، وجدت في البيئة المهدّمة ملاذًا لتنفيذ التفجيرات.
- رسالة واضحة أن استهداف الأقليات بما فيها المسيحية بالدم، يُوقظ رواسب الطائفية، ويعيد تجربة الدم والعنف التي تركتها عراق 2004–2008.
- إثباتًا أن “المظلومية” ليست حماية، بل بوابة يسهل دخول عناصر الإرهاب واستغلالها المستمر للألم.
إذن، ما وقع في دمشق ليس حادثًا عابرًا، بل نقطة ارتكازٍ لفهم كيفية “عصر الخطر” أو تفكيكه مبكرًا.
لماذا يجب على السوريين دراسة التجربة العراقية؟
-
أولاً: لفهم مراحل تشكّل التطرف والإرهاب
مرّ العراق بسلسلة من التحولات المنطقية التي تقود – إذا تُركت دون تدخل – إلى التطرف الدموي. بدأت هذه المراحل من الإقصاء السياسي الممنهج، لا سيما عبر سياسة اجتثاث البعث، وما تبعها من تهميش للمكوّن السني وتفكيك مؤسسات الدولة، مما حوّل طيفًا واسعًا من المجتمع العراقي إلى “أقلية منبوذة” على المستوى السياسي والإداري.
ثم تصاعدت التوترات حتى بلغت ذروتها في الحرب الأهلية بين عامي 2006 و2008، حيث تفككت الروابط الاجتماعية، ونشأت ميليشيات طائفية، وتحوّلت الجغرافيا إلى خطوط تماس دموية. وفي ظل هذا التفكك، وغياب خطاب وطني جامع، نشأت بيئة حاضنة مثالية لتنظيم الدولة (داعش)، الذي قدّم نفسه بوصفه منتقمًا للهامشيين والمقصيين.
اليوم، في سوريا، نرصد مؤشرات مشابهة: مجموعات واسعة مهمشة سياسيًا أو جغرافيًا، تعاني من فقر الخدمات، وانعدام التمثيل، وغياب العدالة. وإذا ما تُرك هذا الواقع بلا معالجة شاملة، فإن هذه البيئات قد تتحول إلى خزانات غضب، قابلة لأن تُستثمر من قبل مشاريع العنف تحت لافتات الانتقام أو “استعادة الحقوق”.
-
ثانيًا: استيعاب حدود العلاج الأمني البحت
أثبت النموذج العراقي أن الاعتماد المفرط على المعالجة الأمنية وحدها لا يقضي على الإرهاب، بل قد يسهم في إعادة إنتاجه. فبعد تفجّر العنف الطائفي، لجأت السلطات العراقية إلى “حل أمني” منفصل عن أي إصلاح سياسي حقيقي. نتج عن ذلك ممارسات قمعية، واعتقالات جماعية، ومقابر جماعية، كان بعضها مدفوعًا بدوافع انتقامية، مما عمّق الفجوة بين الدولة ومكوّناتها.
الأسوأ من ذلك، أن تنظيم داعش استغل هذه الانتهاكات لاحقًا كأدلة بصرية وإعلامية لتسويق روايته المتطرفة، وعرض نفسه كـ”مدافع” عن المظلومين، مما عزّز قدرته على التجنيد والانتشار.
في الحالة السورية، لا بد من تفادي الوقوع في الخطأ نفسه. فمكافحة الإرهاب لا تُختصر في رفع منسوب القوة الأمنية، بل تتطلب رؤية متكاملة تعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، عبر عدالة انتقالية حقيقية، ومراجعة شاملة لمفهوم المواطنة، تضمن الحماية القانونية والسياسية لكل المكونات، وتمنع أن يتحوّل الإقصاء إلى ذريعة للعنف.
-
ثالثًا: التخطيط المبكر لمواجهة المنابر الأيديولوجية المتطرفة
نشوء داعش لم يكن لحظة مفاجئة، بل كان نتاج فراغ أيديولوجي واجتماعي وأمني تراكم عبر سنوات. فبينما كانت الدولة العراقية منشغلة بإعادة ترتيب الولاءات الطائفية داخل مؤسساتها، تمّ تهميش النخب الفكرية والدينية المعتدلة، وترك الحقل الديني والإعلامي دون رقابة أو استراتيجية واضحة. بذلك، تشكّلت منابر ظلال أنتجت جيلًا جديدًا من الشباب الذين لم يجدوا لهم مكانًا في الدولة، ولا صوتًا في الإعلام، ولا أملًا في السياسة.
في سوريا اليوم، ثمة حاجة عاجلة لإنتاج خطاب وطني جامع، لا يُقصي أحدًا، ولا يُكرّس التفوق الطائفي أو السياسي. المطلوب هو خطاب يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن على أساس الشراكة، ويُنشئ مؤسسات ثقافية وإعلامية تكون منابر للتعبير البنّاء، لا صدى للشكوى الصامتة التي تتحوّل لاحقًا إلى عنف.
فقط من خلال استباق هذا الفراغ، وبناء بدائل فكرية قوية، يمكن تحصين المجتمع من عودة الجماعات المتطرفة تحت لافتات “المظلومية العادلة” التي تسوّق للدم والتفجير.
-
رابعًا: تأمين الأقليات قبل أن تتحوّل إلى ضحايا للصراع
إن التفجير الذي استهدف كنيسة مار إلياس في دمشق لم يكن حدثًا عابرًا، بل هو جرس إنذار شديد اللهجة. لقد بيّنت التجربة العراقية أن تأخر الدولة في تأمين الأقليات – لا من خلال الحماية العسكرية فقط، بل عبر دمجهم في المشروع الوطني – يؤدي إلى نتائج كارثية.
في العراق، شكّلت الأقليات هدفًا مباشرًا للجماعات المتطرفة، حيث اختُطفت العشرات من العائلات، وهُجّرت مجتمعات كاملة من الموصل وسهل نينوى، في ظل عجز حكومي مخيف. وقد أدّى هذا الفراغ إلى تدمير نسيج اجتماعي ظلّ متماسكًا لعقود.
في سوريا، تقع على عاتق الدولة والقوى المجتمعية مسؤولية مزدوجة: أولًا، تأمين الأقليات عبر خطط استباقية حقيقية، تشمل إعادة الإعمار، وفرض الأمن، وتمكين التمثيل السياسي؛ وثانيًا، الإقرار بأن هذه المكونات ليست “أقليات رقمية”، بل شركاء حقيقيون في الهوية الوطنية، وأن حمايتهم تُعدّ مقياسًا حقيقيًا لعدالة الدولة وقوتها.
الخاتمة: من قراءة الماضي إلى بناء المستقبل
إن استخلاص العبر من التجارب السابقة لا يعني مجرد الاستماع إلى المآسي، ولا التفاعل العاطفي مع ما جرى من آلام، بل يتطلب إرادة جادة لبناء منظومة وطنية شاملة، تمتلك أدوات القراءة الاستباقية، وتستثمر التاريخ كمرآة تعكس مآلات السياسات إذا ما تُركت بلا إصلاح أو محاسبة.
تواجه سوريا اليوم لحظة فارقة، لا تقل أهمية عن مفترق الطرق الذي واجهه العراق بعد 2003. وهذه اللحظة تحمل في طيّاتها فرصة تاريخية، إذا أُحسن إدارتها، للانتقال من منطق رد الفعل إلى منطق الفعل المؤسِّس. وفي هذا السياق، هناك أربع أولويات استراتيجية ينبغي العمل عليها دون تأخير:
- معالجة الجروح القديمة قبل أن تتحوّل إلى هوية مأزومة
إن تراكم المظلومية، دون مقاربة عادلة وشاملة، ينتج أجيالًا تُعرّف ذاتها بوصفها ضحية فقط، لا مواطنين شركاء في بناء الدولة. لذلك، فإن المصارحة مع الذات والمصالحة بين المكوّنات تمثل مدخلاً لا غنى عنه نحو بناء هوية وطنية متماسكة. - منع الإرهاب من إعادة فتح ملفات الدم
لا بد من مقاربة أمنية–اجتماعية مزدوجة تتعامل مع خطر التنظيمات المتطرفة، ليس باعتبارها مجرد خلايا مسلحة، بل كأفكار تجد لها تربة خصبة في بيئات التهميش. قطع الطريق على داعش وأخواتها يبدأ بتجفيف مستنقعات الظلم، لا فقط بملاحقة المسلحين. - تحويل الإرادة السياسية إلى فعل مؤسسي جامع
لا يكفي أن تُعبّر الأطراف السياسية عن رغبتها في التغيير، ما لم تُترجم هذه الرغبة إلى برامج تنفيذية تُشرك الجميع: النخب، والقوى الاجتماعية، والطبقات الشعبية، ضمن معادلة حكم جديدة تقطع مع الفساد وتعيد الاعتبار للعدالة والمساءلة والشفافية. - بناء دولة القانون والمؤسسات كخط الدفاع الأهم
وحدها الدولة القوية بمؤسساتها، والعادلة في سياساتها، والقادرة على فرض القانون على الجميع دون استثناء، تستطيع أن تحصّن المجتمع من الارتكاس إلى الهويات الجزئية والانفجارات الدموية.
وعلى ضوء هذه الرؤية، لا تعود التجربة العراقية مجرد سردية حزينة، بل تتحوّل إلى مرآة تاريخية تعلّم الآخرين كيف يتجنّبون السير نحو الجحيم نفسه. إنها تجربة تقول للسوريين: لا داعي لزيارة المريخ إذا درست تضاريسه جيدًا. فالعراق، الذي دُفع فيه ثمن الدم والتقسيم والإرهاب باهظًا، يمكن أن يصبح حجر الأساس لنموذج وطني بديل في سوريا، قائم على الشراكة لا الهيمنة، وعلى العدالة لا الانتقام، وعلى بناء المستقبل لا اجترار الماضي.
بهذا الوعي، وحده، يمكن لسوريا أن تنهض من بين الركام لا كدولة ممزقة بفعل الفوضى المنظمة، بل كنموذج لإرادة وطنية تُحول المأساة إلى فرصة، وتحوّل الألم إلى أمل، وتبني من بقايا الحرب مشروع وطن جامع، آمن، وعادل.