يذكر وزير الإعلام في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، محمد فايق، في مذكراته “مسيرة تحرر”، وقائع حادثة البيان الكاذب الذي أذاعته “صوت العرب” عن الإنجازات التي يحققها الجيش المصري في إسقاط طائرات العدو على الجبهة في حرب الـ1967، وهو البيان الذي نفاه بيان آخر أعقبه في أيام معدودة بإعلان الخسائر التي يتلقاها الجيش المصري تحت نيران عدوه الإسرائيلي.
لقد ظلت سيرة الإعلامي أحمد سعيد مكللة بالعار حتى وفاته في ذكرى الهزيمة عام 2018، وتتناوله مؤسسة إعلامية كبرى مثل قناة الجزيرة وإذاعة صوت العرب بأوصاف شنيعة مثل “مؤسس مدرسة الكذب على الهواء” و”عرّاب النكسة”، رغم أن الرجل لم يفعل أكثر من قراءة بيانات وردته من قيادة القوات المسلحة، كما يوضح “فايق” في مذكراته، في زمن كانت فيه المعلومات شحيحة، ناهيك عن صعوبة التحقق منها.
فايق، الذي كان على علم بتغطية الإذاعات الغربية كما يذكر، حاول أن يجادل وزير الحربية شمس بدران قبل إذاعة بيان الإنجازات، لكن بدران رد عليه قائلًا: “إنها دعاية سوداء لا تعكس الحقيقة على الجبهة”.
وهكذا أُسقط في يده، وأوكل إلى سعيد إذاعة البيان الذي سيتحوّل بمرور العقود إلى محطّ سخرية وتشنيع من الجماهير على الإعلام الكاذب، والذي سيُختزل فيه عبد الناصر وتجربة “صوت العرب” وإعلام عبد الناصر عند الكثيرين.
لم تخلُ السنون والعقود الماضية من مواجهات بين العرب و”إسرائيل”، وبالتالي من تغطيات إعلامية مليئة بالجدل والتزوير، حتى أصبح التزوير والكذب عادة، لكن وصولًا إلى الحرب الحالية التي بدأت بعملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023، وبلغت ذروتها في المواجهة غير المسبوقة بين إيران و”إسرائيل” فجر الجمعة 13 يونيو/حزيران، بعد عقود من حرب باردة ذات قواعد اشتباك محددة، لم تكن تلك الأيام لتدور دورتها كي تنتصر لأحمد سعيد وبيانه الكاذب، بل كي تواجه الوعي العربي المكويّ والمهزوم بسؤال: “هل انتظرنا أحمد سعيد ليخدعنا، أم أننا خدّاعون أنفسنا ومخدوعوها؟”
أبراج مدمرة وحطام طائرة
لماذا نبدأ من تلك الحرب؟ ليس فقط لراهنيتها، بل لأنها عكست كثيرًا من التحولات في عملية التغطية الإخبارية، التي بدأت تتغير فعليًا منذ ظهور الهاتف المحمول المزود بكاميرا، لا سيما في ثورات “الربيع العربي” وما تلاها، حيث تحوّل المواطن العربي من مستهلك للتغطيات إلى مشارك، بل أحيانًا إلى صانع لها.
في السنوات الماضية، ظهرت بالفعل العديد من منصات الإعلام البديل، خارجة عن سيطرة الإعلام الفضائي الرسمي أو الخاص، محطّمة بذلك احتكار الخبر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وبما أن الإعلام التقليدي لم يعد يحتكر الخبر، فلم يعد أيضًا يحتكر تزويره، وقد أثبتت صحافة الهاتف المحمول، التي يقدمها المواطن، حضورًا حقيقيًا، حتى أصبحت فرعًا يُدرّس في كليات الإعلام، وفي برامج التحقق الصحفي، لما تتعرّض له من محاولات تلاعب.
لكن كاميرا الموبايل، رغم كل شيء، كانت تحتاج إلى “فضاء عام” لتغطيه، قد يُزوّر في مكوناته أو تسلسله (sequence and settings)، لكنه يبقى قائمًا، أما مع ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي المتاحة مجانًا أو بأسعار زهيدة، لم نعد بحاجة حتى إلى ذلك الفضاء، إذ بات بالإمكان توليده بكلمة (Prompt) فقط، ومع سعي الكيان الصهيوني للتعتيم الإعلامي وتجريم من يصوّر آثار الدمار، غذّت غريزة “الممنوع” رواج فيديوهات مزيفة، تداولها الجمهور تحت شعار: “العدو يحاول التعتيم”.
كل تلك العوامل دفعت تقريرًا تحققيًا من “بي بي سي” إلى وصف هذه الحرب بأنها “أكبر حرب مضللة شارك فيها الذكاء الاصطناعي”، سواء من الجانب الإيراني أو الإسرائيلي، لكننا في هذا المقال سنركز على جانب التضليل العربي لأننا غالبًا نستنكر أن نُضلل، أو يُكذب علينا!
تجلّى ذلك بوضوح في التغطية المزيّفة للحرب، وأبرزها فيديو مزعوم يُظهر دمار برج في تل أبيب، تم إنتاجه باستخدام تقنية Veo التي أطلقتها “غوغل” قبل أسابيع قليلة من الحرب، إذ نشر الفيديو حساب حديث، لا يعود تاريخه لأكثر من أسبوعين، يصف نفسه بأنه حساب احتياطي، ولا يتابعه سوى 40 صديقًا.
ورغم هذا، وصل الفيديو إلى 9 ملايين مشاهدة، و26 ألف مشاركة، و14 ألف تفاعل، لم يكن من بينهم سوى 1500 تفاعل ساخر (ضحك)، وربما ليس جميعهم يضحك لأنه كشف التزييف، بل ربما شماتة في “إسرائيل”.
اللافت أن شعار تقنية Veo كان ظاهرًا أسفل الفيديو، لكن وسط ضجيج الطبول، من سيملك صوتًا أعلى ليُفصح عن الزيف؟ في أوقات الحماسة والتعبئة، يُتهم المتشكك بسهولة بالتثبيط وربما بالخيانة والانحياز للصهاينة.
الفيديو، على الأرجح من شخص مصري، ليس حالة فردية، بل نموذج عن كيف صار الجمهور العربي صانعًا للخبر، لا مستهلكًا فقط، وهناك نماذج أخرى كشفتها مؤسسات تحقق مثل “بي بي سي”. إذ تبيّن أن ثلاثة من أكثر الفيديوهات المصنوعة بالذكاء الاصطناعي دعمت رواية الضربات الإيرانية، ووصلت مجتمعة إلى أكثر من 100 مليون مشاهدة، أبرزها فيديو “إسقاط طائرة إف-35” الذي حصد 21 مليون مشاهدة على تيك توك قبل حذفه، واتضح أنه مقطع من لعبة محاكاة الطيران DCS.
في نفس الوقت، أعلنت وكالة “فارس” إسقاط 5 طائرات إف-35، لكن لم تُعرض صور، ولا أدلة، ولا حتى اعترافات الطيارين الإيرانيين الذين قيل إنهم أسروا وسيُعرضون لاحقًا… والموعد ما زال “قريبًا”، وربما يبقى كذلك!
أما صورة “الطيارة” المنتشرة، فهي تعود لضابطة تشيلية تُدعى دانييلا فيغيرو شولتز، وليست سارة أحرونوت كما زعمت مواقع عربية نقلت الخبر عن بعضها البعض، حتى وصل إلى 51 موقعًا مختلفًا.
كذلك انتشرت صور مدمّرة لما قيل إنه “تل أبيب”، وتبيّن أنها مولّدة بالذكاء الاصطناعي، وفي أحد الفيديوهات الذي حصد مليوني مشاهدة على “إكس”، ظهر ما قيل إنه “مخزن أسلحة إسرائيلي احترق بالكامل”، لكن التحقيق أظهر أنه يعود لانفجار في الصين عام 2015، أسفر عن مقتل 153 شخصًا.
“إيران بالعربية”
اقتربت الحرب، إن استمرّت، من دخول أسبوعها الثاني، ورغم أن شركة “ميتا” تتيح مبدأً يُعرف بـ”الشفافية” (Transparency) الخاص بالصفحات المُنشأة على “فيسبوك” والذي يوضح تاريخ الصفحة، وأغراضها، وعدد مرّات تغيير اسمها وأهدافها، إلا أن القليلين فقط بادروا بتتبع تاريخ واحدة من أبرز الصفحات التي روّجت أخبارًا عن الحرب منذ بدايتها: صفحة “إيران بالعربية”.
تأسست الصفحة في 5 فبراير/شباط 2021، ثم غيّرت اسمها في أبريل/نيسان من العام نفسه إلى “إيران دراما”، قبل أن تعود في أكتوبر/تشرين الأول 2024 إلى اسم “إيران بالعربية”، الذي بات منذ بداية الحرب يناطح أسماء المؤسسات الإخبارية الرسمية.
ويُفترض أن تمثل هذه الصفحة مؤسسة “إيران بالعربية” التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإيرانية، إلا أن لا علاقة لها بها فعليًا، ورغم ذلك، جرى التعامل معها عربيًا كمصدر رسمي للأخبار والفيديوهات.
نجحت صفحة “إيران بالعربية” في تحقيق هذا الانتشار عبر عاملين أساسيين: أولهما، الكسل أو الجهل العام بالمصادر الفارسية الرسمية لدى الجمهور العربي؛ وثانيهما، استخدامها للهجة العامية المصرية التي تتيح وصولًا أوسع وانتشارًا أسرع، كما اتبعت الصفحة أسلوبًا بعيدًا عن الجدية والرسميات، مستفيدةً من النكات والميمز كوسيلة للتواصل مع قطاع واسع من المتابعين.
أما من حيث الأخبار المضللة التي رددتها الصفحة إلى جانب غيرها من الصفحات خلال الأيام الأخيرة، فقد تمكّن مجتمع التحقق العربي من تدقيق عدد من الصور والفيديوهات المتداولة، من بينها صورة شهيرة تُظهر ما قيل إنهم “جواسيس إسرائيليون مقيّدون إلى صاروخ إيراني”، والتي تبيّن أنها مجرّد صورة ساخرة يعود تاريخ نشرها الأصلي إلى عام 2018.
كذلك، انتشر فيديو للمرشد الإيراني علي خامنئي وهو يقوم بتشجير إحدى الحدائق، وقد جرى تداوله بكثافة على أنه دليل على برودة الأعصاب والجلَد في ظل المواجهة الحربية، في حين أن الفيديو يعود في الحقيقة إلى عام 2020.
كما راجت إشاعة واسعة على “فيسبوك” تدّعي وفاة أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية، وأن مقاطع الفيديو التي يظهر فيها مؤخرًا مُعدّلة بواسطة الذكاء الاصطناعي، رغم ظهوره اليومي المتكرر في فيديوهات حية ومتنوعة.
وفُنّدت كذلك صور متعددة لجثث قيل إنها لجنود ومستوطنين إسرائيليين قُتلوا خلال الحرب الأخيرة، وتبيّن أن بعضها يعود لحوادث قديمة لا علاقة لها بالصراع الجاري.
حسنًا، إذا كانت مجموعة من الصفحات والأشخاص المؤثرين تستغل هذه الأخبار المضللة وتعيد تدويرها لانتشارها كحقائق، فهم يحققون أرباحًا من وراء ذلك، سواء عبر شركات مثل “ميتا” و”إكس” و”يوتيوب” و”تيك توك” التي تُكافئ التفاعل والمشاهدات بالدولارات.
لكن السؤال الأخطر: لماذا، في ظل وفرة أدوات التحقق وسهولة الوصول إلى المعلومات الدقيقة، ننقاد طوعًا إلى الزيف؟ لماذا نُعيد إنتاج خديعة 1967 التي لا نكفّ عن استنكارها في ذكراها السنوية، فيما نُكرّر طوعًا الدور الذي لعنّا من أدّاه؟
هزيمتنا.. أكاذيبنا أمانينا
في أحد مقاطع “فيسبوك”، الذي لم يحظَ بتفاعل كبير كالذي ناله الخبر المزيّف الذي قام بتفنيده، تظهر قناة “العربي” وهي تفنّد شائعة مقتل قائد البحرية الإسرائيلي، والتي انتشرت على نطاق واسع باعتبارها “ضربة نوعية” إيرانية، غير أن التعليقات على الفيديو تكشف عن حالة من الإنكار الجماعي؛ إذ امتلأت باتهامات للمذيع والقناة مثل: “أكيد تكذبون لأنهم أخوانكم” أو “التلفزيون العبري”، وهي نفسها الاتهامات التي طالت صفحة “تفنيد” حين نفت القصة ذاتها، رغم وضوح الأدلة التي قدّمتها.
ما يدعو للدهشة في هذه الظاهرة، هو السؤال التالي: لماذا، حتى بعد ظهور الحقيقة أو أقرب ما يكون لها، نرفض تصديقها ونتمسك بأوهامنا الخاصة؟
لقد نجحت 50 سنة من العربدة الإسرائيلية والبلطجة الأميركية في كيّ الوعي العربي، وأصابت أكثر من 300 مليون عقل عربي بحالة من الصدمة النفسية الجماعية، وربما يكون هذا ما أسماه المؤرخ الألماني “فولفجانج شفيلبوش” في كتابه “ثقافة الهزيمة”، حيث أشار إلى أن الصدمة الجماعية تجعل من الصعب الاعتراف بالحقيقة الكاملة للهزيمة.
لذلك، لطالما بالغنا في تعظيم الشعارات وتماهينا معها، حتى كانت الشعارات وحدها -في الماضي- كافية لمنح “الشفاعة” لأنظمة ديكتاتورية تشدقت بالقضية الفلسطينية، مثل نظام البعث في العراق ومثيله في سوريا، فقد شكّلت شعارات “الممانعة” و”مناهضة الإمبريالية” مظلة لتجاهل الحروب القذرة التي خاضتها تلك الأنظمة ضد شعوبها، وهنا، على حدّ وصف شفيلبوش، يبدأ العقل الجمعي في إنتاج روايات تعويضية، وتنتشر الأساطير التطهيرية والبطولية بوصفها آليات دفاع جماعية ضد الألم والهزيمة.
لا نقول إن إيران قد هُزمت في تلك الحرب، ولا أن ما يحدث من التهليل لها هو مجرد حالة من الهذيان الجماعي التي شرحها إلياس كانيتي في كتابه “الجماهير والسلطة”، حين تدخل الجماهير في نوبة من الهذيان التعويضي، تُنكر الهزيمة الحقيقية وتستبدلها بصيحات “نحن ننتصر”.
ما نقوله ببساطة، هو أن إيران لم تحقق كل تلك الانتصارات التي يُروّج لها، فما زالت أقدامها عالقة، وما زال ما يسمى “محور الممانعة” في حالة من الصدمة والتقهقر على كل الجبهات، منذ عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، التي قوبلت عربيًا هي الأخرى بمبالغة في التقدير والاستقبال، فبدأت كأنها فتح مبين ونصر قريب وصلاة على الأعتاب، وانتهت إلى بكاء ورثاء عاجز لأرواح الفلسطينيين الذين يموتون قتلًا وجوعًا وحصارًا، دون أن تُحرّك أي حكومة عربية ولا شعوبها ساكنًا.
تلك الهزيمة العميقة، المقترنة بعجز تام عن الفعل على مدار عامين من الحرب الإسرائيلية المفتوحة على غزة واليمن وسوريا ولبنان، دفعت المشاهد العربي إلى التعاطي مع الحرب وكأنها مباراة كرة قدم، لا حرب حقيقية دامية لها تبعات وجودية.
وعندما جاء الردّ الإيراني، الذي حقق ضربات فعلية لم يكن يتصور أحد وقوعها في قلب تل أبيب، جرى تضخيمها إلى حدّ الخيال، بل وابتُكرت لها نتائج وهمية عبر الذكاء الاصطناعي، في مشهد يعكس ما سماه جان بودريار بـ”الواقع المفرط”، حيث تُستبدل الحقيقة بالصور والمحاكاة، حتى تغدو التمثيلات أكثر واقعية من الواقع نفسه.
نحن الآن عالقون في حالة من “الكذب النبيل الجمعي” على حدّ وصف سلافوي جيجيك، حيث يعرف الناس في لا وعيهم أن كثيرًا مما يُعرض غير حقيقي، لكنهم يرغبون في تصديقه لأنه يحفظ كرامتهم وتماسكهم النفسي، والمشكلة أن هذا الكذب المشترك، وإن كان يُستخدم كآلية بقاء، إلا أنه ليس كافيًا ليجعل فلسطين حرة، أو يبدأ تحريرها، أو يجعل من إيران منتصرة بالفعل.