ترجمة وتحرير: نون بوست
بدأ الرفض العالمي للإبادة الجماعية في غزة يشق طريقه إلى دوائر صنع القرار السياسي في “الغرب” الذي لطالما تمتعت فيه إسرائيل بالإفلات من العقاب. فرضت خمس دول -المملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا والنرويج- عقوبات على إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهما الوزيران الإسرائيليان الأكثر تصريحًا عن نوايا الإبادة.
أعلنت إسبانيا من جانبها تعليق مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل، وكانت فرنسا تستعد لعقد مؤتمر دولي للاعتراف بدولة فلسطين ضمن حل الدولتين. لم تخفف أي من هذه الجهود معاناة أطفال غزة، لكنها أوضحت أن العالم بدأ يرى معاناة الفلسطينيين.
ثم هاجمت إسرائيل إيران.
كان من الطبيعي أن تتراجع غزة إلى المرتبة الثانية في نشرات الأخبار، إذ إن الحرب الإقليمية التي كان الجميع يخشون اندلاعها باتت على الأبواب. لكن ما كان لافتًا، وإن لم يكن مفاجئًا، هو سرعة ارتداد الدول الغربية إلى موقفها التقليدي القائم على الدعم غير المشروط لإسرائيل.
بعد 19 شهرًا من التحريض الممنهج الذي مارسته إسرائيل لإشعال صراعات جديدة في المنطقة، حتى لا تتوقف إبادة غزة، كان من المفترض أن يكون حلفاؤها أكثر حذرًا. لكن الطريقة التي عبّرت بها كل من ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا عن دعمها لما تقوم به إسرائيل في إيران كانت شبه غريزية. وبلغ الأمر بفرنسا حد تعليق المؤتمر الدولي الذي كانت قد تجهز له دعمًا لحل الدولتين.
بصفتي فلسطينيًا، لم أستطع إلا أن أتساءل إن كان كل ذلك “القلق” الذي عبّرت عنه هذه الدول بشأن الوضع الإنساني في غزة حقيقيًا، ولم أتمكن من التوقف عن التفكير في حجم الدعم الهائل الذي حظيت به إسرائيل فور وقوع هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
حتى عندما هدّد المسؤولون الإسرائيليون علنًا بفتح أبواب “الجحيم” على غزة، وقطع المياه والكهرباء والطعام والوقود عن أكثر من مليوني إنسان، جاء التضامن مع إسرائيل سريعًا وغير مشروط. ولم يكن ذلك موجّهًا ضد حماس فحسب، بل ضد غزة نفسها، وضد الفلسطينيين كشعب.
وفي تلك اللحظة، أصبحت عملية تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم سياسة رسمية في معظم دول ما يُسمى بـ”الغرب”. تم محو تاريخ معاناة الشعب الفلسطيني، واستُخدمت هجمات السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ذريعة لتعميق معاناة شعب محاصر.
يمكن للمبررات الجيوسياسية التي تحاول إثبات أن إيران تُشكّل تهديدًا، أو أن إسرائيل لم يكن أمامها خيار سوى المبادرة بالهجوم، أن تثير جدلاً لا ينتهي. ولكن خلف هذه السجالات، هناك مسألة غالبًا ما يُغفل عنها: العوامل الثقافية والأيديولوجية، بل والمعرفية أيضًا، التي تُشكّل أساس الدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل.
سنة 1978، قدّم الفيلسوف الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد قراءته للاستشراق من منظور جديد يستند إلى المفهوم القديم. لم تكن قراءته تركّز على إسرائيل تحديدًا، بل على الأيديولوجيا الراسخة في المؤسسات السياسية والأكاديمية والإعلامية الغربية.
لقد جادل سعيد بأن شعوب ما أطلقت عليه أوروبا اسم “الشرق” أو “المشرق”، قد تم على مدى سنوات طويلة تصويرها ووصفها وتصنيفها على أنها مختلفة إلى حد كبير، وغامضة وغريبة وعدائية. وقد أصبحت هذه الصورة هي الفكرة النمطية السائدة عن شعوب “الشرق”.
وعندما قدّم صمويل هنتنغتون نظريته حول صراع الحضارات في أوائل تسعينيات القرن الماضي، حوّل الاستشراق إلى عقيدة سياسية تُستخدم كدليل إرشادي للحكومة الأمريكية التي بدأت تعتبر نفسها حينذاك القائد الأوحد للعالم. تلك العقيدة التي تُصوّر العرب والمسلمين، ومعهم الصينيون، كمجموعات بشرية معادية لـ”الغرب المستنير”، لم تغادر أذهان الساسة الأمريكيين والأوروبيين قط.
الحضارة واستثاءاتها
قبل عدة أشهر، دار نقاش بيني وبين صحفي أوروبي يعمل مراسلًا في فلسطين منذ سنوات طويلة، وقد أخبرني بمدى رفضه لما يقوله الفلسطينيون بأن المسيح كان فلسطينيًا أيضًا. أجبت بأن أرضنا تُعرف باسم “فلسطين” منذ أربعة آلاف عام، وهو ما يشمل الحقبة التي عاش فيها يسوع في قرانا ومدننا. وقلت إن الثقافة التي عاش في ظلها واستلهم منها هي الثقافة ذاتها التي ننتمي إليها نحن اليوم.
لكن زميلي الأوروبي، وهو كاثوليكي ملتزم، قال إن هناك سببًا وجيهًا لرفض وصف المسيح بأنه فلسطيني. وأضاف: “عندما تقولون إنه كان فلسطينيًا، فإنكم تتجاهلون أنه كان يهوديًا”.
عندما قلت له إنه قبل ظهور الصهيونية، كان من الممكن أن تكون يهوديًا وفلسطينيًا في آنٍ واحد، تمامًا مثلما يمكنك أن تكون مسلمًا أو مسيحيًا وفلسطينيًا، أجابني قائلاً إن بإمكاننا نحن الفلسطينيين أن ننتسب إلى الكنعانيين واليبوسيين، وكل الثقافات القديمة الأخرى التي عاشت في هذه الأرض، لكن لا يحق لنا أن نعتبر اليهودية جزءًا من تاريخنا أو إرثنا، ولا ينبغي لنا أن نفعل ذلك.
وكان السؤال البديهي الذي طرحته: ما الفرق بين الكنعانيين والعبرانيين القدماء الذي يجعل من غير المقبول اعتبار العبرانيين جزءًا من التراث الفلسطيني؟ رغم أن الاعتراف بذلك قد يكون غير مريح، إلا أن هذا الفرق لا علاقة له فعليًا بالشعوب التي عاشت على هذه الأرض منذ آلاف السنين، بل يتعلق بعقلية أولئك الذين يتخيّلون تلك الشعوب اليوم.
الكنعانيون لا علاقة لهم بالطريقة التي ينظر بها الأوروبي تقليديا إلى نفسه. هم لا يُثيرون الاهتمام إلا كمادة للدراسة الأنثروبولوجية. أما بالنسبة لليهودية والمسيح، فالأمر مختلف تمامًا ـ هما جزء من هوية حضارية يُنظر إليها على أنها مكوّن جوهري في وعي الكاثوليك الأوروبيين أو الإنجيليين الأمريكيين.
الادعاء بأن المسيح والعبرانيين القدماء جزء من إرثي كفلسطيني يجعلني متشابهًا إلى حد كبير مع زميلي الأوروبي. لكن ذلك يُربك رؤيته للعالم، وهي رؤية تقوم على أننا ننحدر من “حضارات” مختلفة ومتباينة. وفق هذه الرؤية، تُعد إسرائيل تكفيرا عن الذنب التاريخي الذي يشعر به زميلي حيال قرون من معاداة السامية في أوروبا، والتي بلغت ذروتها خلال المحرقة.
لكن صور المعاناة الإنسانية القادمة من غزة منذ قرابة عامين بات من الصعب تجاهلها، حتى ضمن هذه الرؤية للعالم. لقد شاهد الغرب الكثير من الأطفال يُقتلون، وأصبح من الصعب الاستمرار في النظرة الاستشراقية القديمة.
لكن هذا لا يعني أن تلك النظرة قد تلاشت إلى الأبد، بل يعني فقط أن صنّاع القرار في الغرب باتوا بحاجة إلى “شرير مثالي” جديد يأخذ مكان العائلات المشردة والجائعة المتكدسة على شاطئ خان يونس.
وبالنسبة للعقل المشحون أيديولوجيًا، لا يوجد شرير مثالي أكثر من “ثيوقراطية إسلامية” تمتلك صواريخ باليستية ولا تعترف بإسرائيل وتصف الولايات المتحدة بـ”الشيطان الأكبر”. لقد أنقذت الحرب الإسرائيلية الجديدة على إيران القادة الغربيين من إنسانيتهم، وأعادت إلى ضمائرهم الراحة في مساندة حملة عسكرية جديدة باسم “الحضارة” الغربية.
لكن الواقع مختلف تمامًا. لا يوجد “شرق” أو “غرب”، لأن الأرض مستديرة. هناك حضارة إنسانية واحدة فقط، ساهمت فيها جميع الشعوب، وأضافت كل منها إلى ما أنجزته شعوب أخرى قبلها. يعتبر العرب والمسلمون جزءا أساسيا من هذه الحضارة البشرية الواحدة، لأنهم بشر، والبشر خُلقوا جميعًا من جوهر واحد، من اليابان إلى فلسطين، ومن كندا إلى إيران.
لا يمكن للحرب الإسرائيلية الجديدة على إيران أن تغيّر حقيقة أن الإبادة الجماعية في غزة لا تزال مستمرة.
الشيء الوحيد الذي يمكن أن نأمله الآن هو ألّا يتطلّب الأمر سقوط آلاف الضحايا الجدد أمام عدسات الكاميرا كي تبدأ الحكومات الغربية في الشعور مجددا بتأنيب الضمير.
المصدر: موندويس