خلال الفترة الماضية، سلطتْ أذرع إعلامية محسوبة على النظام المصري ألسنتها بالتخوين سواء لـ”قافلةِ الصمود” التي كانت في ليبيا قادمة من تونس متجهة إلى مصر، تحديدًا للاستقرار عند معبر رفح، وذلك بالتوازي مع “المسيرة العالمية من أجل غزة” التي كانت من المفترض أن تنطلق من القاهرة.
انتقدت الأذرع الإعلامية تلك الحملات ومحاولة دخولها مصر، وبررت اعتراضها وقمعها، متحججة أن تلك الحملات وغيرها تحاول النيل من الأمن القومي المصري، فكيف يتلاعب النظام المصري، منذ عام 2013 بمفهوم الأمن القومي المصري الذي يغيّره حسب الظرف السياسي الراهن، بهدف قمع أي أصوات تخالف سرديته وسياساته؟
مؤامرات أهل الشر
في الدول الاستبدادية، توجّه السُلطويات السياسة نظر الجماهير نحو خطر ما سوف يدمّر البلاد والعباد. خطر داخلي وآخر خارجي، حسب ما يتناسب مع سردياتها والأحداث التي تمر بها البلد أو الإقليم أو العالم.
في مصر، بعد عام 2013، أي بعد صعود السيسي إلى الحكم وبدء عصر استبدادي جديد ومتفرّد في إدارة الحياة العامة، بدأت خطاباته، ومن ورائه الأجهزة الإعلامية التي سيطر عليها، في ترديد سردية أن البلاد تمر بحالة “استثناء”، أي حالة طوارئ، ومن خلالها تتعرض البلاد للمخاطر من “أهل الشرّ” الذين يريدون التخريب والمساس بالأمن القومي المصري.
كان السيسي وسُلطويته يقصدون بأهل الشر جماعة الإخوان المسلمين، بما أنها كانت المعارضة الأبرز لسُلطته، والتي حُظرت قانونيًا وصنفت كجماعة إرهابية داخل مصر، وبدأت كل الفضاءات الثقافية والإعلامية، بعدما سيطرت عليها أجهزة الأمن، في ترديد سردية الخوف على الأمن القومي من الإرهاب ومموليه ومُنفذيه.
بسبب هذه السردية، قُتل واعتقل واختفى عشرات الآلاف من المصريين، وانتهك النظام كافة الحقوق الإنسانية للمواطنين، بحجج وتهم كلّها تخص الأمن القومي للبلاد.
ساعد السيسي وسُلطويته في تثبيت هذه السردية، بعد بدء تنفيذ عمليات مسلحة داخل مصر، لا سيما في شمال سيناء من قبل تنظيمات إسلامية، كان أبرزها تنظيم ولاية سيناء التابع لتنظيم الدولة، داعش، كما عمليات مسلحة في محافظات مصرية أُخرى، وهو ما رسّخ خطاب الدولة الرسمي في مواجهة الإرهاب لدى الوجدان الجمعي المصري، كما رسَّخ حالة من القمع والاستثناء غير عادية لا زالت مستمرة حتى وقتنا الحالي.
المؤامرة الكونية على مصر
ظلَّ هذا الخطاب مُكرَّس حتى طوفان الأقصى، ليخفت قليلا ويصعد خطاب آخر، بسردية اُخرى، ومن بعد السابع من أكتوبر، لم تمر سوى أيام معدودة على حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، إلَّا وقد تحدّث الإسرائيليون بكل علانية عن خططهم في إفراغ القطاع وتهجير الغزيين إلى سيناء.
من هنا، بدأ السيسي في إعلان سردية الأمن القومي الجديدة، وهى رفض تهجير الفلسطينيين، والتي أعلنها لأول مرة علانية في المؤتمر الصحفي خلال زيارة المستشار الألماني إلى القاهرة يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023، من أجل بحث مسارات الحرب في غزة.
من بعد إعلان سردية الأمن القومي الجديدة للنظام، بدأت أيضًا ممارسات القمع تطال الجميع، حتى أولئك الذين يمارسون أي فعاليات لرفض هذا التهجير، كما هي سردية النظام، مثل القبض على المتظاهرين الذين يطالبون بوقف الحرب، وإدخال المساعدات، ورفض التهجير، فهناك المئات في السجون المصرية بتهم “التضامن مع فلسطين”، وتهم أخرى مثل “زعزعة أمن البلاد” وغيرها من التهم التي تصب في خانة “المساس بالأمن القومي”.
أيضًا، كان الإعلام المصري الذي تُحرّكه الأجهزة الأمنية يتغنّى دائمًا بالأمن القومي المصري؛ فتارة يهاجم حركة حماس على عملية السابع من أكتوبر، وتارة يمدحها، وأخرى يهجو “إسرائيل” ووحشيتها علنًا، ويرفض خطتها للتهجير، وكانت كل هذه التخبّطات تجري حسب الحاجة الأمنية، لتبرير القمع، وتشكيل الخطاب السياسي الذي تريد السلطة توصيله للمصريين أو للولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها “إسرائيل”.
لا صوت فوق سرديته الرسمية
تجلّت سردية المساس بالأمن القومي بشكل واضح، خلال الأسابيع الماضية، حين كانت تتحرك قافلة الصمود في ليبيا قادمة من تونس متجهة إلى مصر، للاعتصام أمام معبر رفح، وقبل أن يتم منعها من دخول مدينة بنغازي ومن ثم اعتقال بعض ناشطيها في ليبيا وعودتها مرة أُخرى إلى تونس، إذ قام الإعلام المصري وشخصيات سياسية أُخرى محسوبة على النظام بالهجوم على القافلة وتخوينها واتهامها باتباع مخططات تخريبية للمساس بأمن مصر.
كانت الحُجج والسيناريوهات الذي قدمها الإعلام المصري، أن القافلة تضم آلاف الناس، وكي تدخل مصر فهي تحتاج إلى التصاريح الأمنية والتأشيرات القانونية لدخول البلاد، وقد أصدر مجلس الوزراء بيانًا مقتضبًا يوضح فيه أنه غير مسموح لدخول مصر دون إجراءات قانونية متبعة.
وقد ردت تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين وهى الجهة المُنظمة للقافلة، بأنها أرسلت إلى السلطات المصرية كافة الإجراءات التي يجب اتباعها، لكم السلطات المصرية لم تستجب ولم ترد عليهم بأي رد سواء إيجابي أو سلبي، ما يعني أن الجهات المصرية تتعمد تعطيل كافة الإجراءات القانونية لدخول القافلة مصر.
الأمر الآخر، هو تكرار سردية المخاطر التي تهدد الأمن الداخلي في مصر، في حال دخول آلاف الأشخاص من دول مختلفة، ما يزيد بحسب الخطاب الرسمي من احتمالية حدوث انفلات أمني، إذ قد يكون من بينهم “مخرّبون” أو “عملاء لجهات خارجية”، يمكن أن يشعلوا الفتنة داخل الأراضي المصرية، خصوصًا أن وجهتهم ستكون معبر رفح، حيث المواجهة المباشرة مع قوات الاحتلال الإسرائيلية التي تسيطر على المعبر من الجهة الفلسطينية.
كل هذه السرديات التي واظبت أبواق محسوبة على النظام المصري على ترديدها، مهّدت لممارسات قمعية تجاه من تمكنوا فعليًا من دخول مصر، إذ وصل ناشطون من دول عدة عبر مطار القاهرة، سواء للمشاركة في “قافلة الصمود” أو “المسيرة العالمية من أجل غزة”.
لكن ما حدث هو أن السلطات المصرية احتجزت العشرات منهم، ورحّلتهم بطرق مهينة، بعضها موثق بالصوت والصورة، دون إبداء أي أسباب، أما من تمكنوا من دخول البلاد وسافروا نحو معبر رفح، فقد تم توقيفهم عند مدخل محافظة الإسماعيلية على يد حواجز أمنية، ثم احتُجزوا وطُوّقوا أمنيًا في الشوارع تمهيدًا للتحقيق معهم، قبل أن يُرحَّلوا إلى بلدانهم.
كما قامت قوات الأمن في القاهرة بمداهمة الفنادق والشقق التي كان يقيم فيها الناشطون، واعتقال العشرات منهم على خلفية مشاركتهم في المسيرة والقافلة، ومحاولة التوجه إلى معبر رفح، ليتم لاحقًا ترحيلهم إلى بلدانهم، كذلك اعتُقل المتحدث الرسمي باسم “المسيرة العالمية من أجل غزة”، سيف أبو كشك، قبل أن يُفرج عنه بعد يومين من الاعتقال.
هكذا، عاشت مصر خلال شهر يونيو أجواء أمنية شديدة القمع، شملت الملاحقة والاعتقال والترحيل لكل من جاء دعمًا لغزة، أو سعيًا لإدخال المساعدات الإنسانية ورفع الحصار.
في المحصلة، استطاع النظام المصري بعقليته السياسية وقبضته الأمنية أن يُجهض أي محاولة، سواء كانت داخلية عبر أحزاب أو نقابات أو مبادرات أهلية، أو خارجية من ناشطين إقليميين وعالميين، لدعم قطاع غزة في ظل الإبادة الجماعية التي يتعرض لها، متذرّعًا بمفهوم “الأمن القومي”، الذي يعيد تعريفه وفقًا لحاجته في السيطرة والهيمنة، رافضًا أي سردية تُخالفه أو تُعارض سياساته المُحبطة في ملفات كثيرة، وعلى رأسها موقفه من الحرب الإسرائيلية على غزة.