يُصرّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على البقاء دومًا في مربعات الجدل، مصطدمًا تارةً بالأعراف، وأخرى بالأخلاقيات، وثالثة بالإنسانية، ورابعة بالمبادئ، مصدّرًا صورة الرجل الذي لا يمكن التنبؤ به، وفي الوقت ذاته شخصية تبدو “سهلة القراءة” منذ النظرة الأولى، وهو، في ما يبدو، يعتقد أن هذا هو المسار الأقصر للبقاء تحت دائرة الضوء وعدسات التفخيم والتضخيم الإعلامي.
ترامب، الذي أوهم الجميع قبل أسابيع قليلة بوجود صدام مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واتساع الفجوة بينهما في الرؤى والمواقف إزاء العديد من الملفات، إلى حدٍّ دفع البعض للحديث عن “طلاق سياسي بائن بين الحميمين”، يعود اليوم لينصّب نفسه محاميًا عنه، وحليفًا وفيًا، مستعدًا لبذل كل ما في وسعه لإنقاذ نتنياهو، مهما كلفه ذلك.
وفي منشور له على منصته “تروث سوشيال”، وصف الرئيس الأمريكي محاكمة نتنياهو واستئناف جلسات الاستجواب له بعد انتهاء الحرب مع إيران بأنها “حملة شعواء سخيفة ضد رئيس وزراء إسرائيل العظيم في زمن الحرب”، مضيفًا أنهما “عبرا الجحيم معًا، في مواجهة عدو قديم وقوي وذكي لإسرائيل، إيران”، مؤكدًا أن “بيبي لم يكن يومًا أكثر ذكاءً أو قوة أو حبًا للأرض المقدسة كما هو الآن”.
ووصف ترامب نتنياهو بـ”المحارب التاريخي” الذي نجح في القضاء على أحد أكبر وأقوى برامج الأسلحة النووية في العالم، من أجل ضمان بقاء “إسرائيل”، مواصلًا مديحه بالقول: “لا يوجد في تاريخ إسرائيل من قاتل بقوة أو كفاءة أكثر من بيبي نتنياهو”، كما اتهم القضايا المرفوعة ضده بأنها ذات دوافع سياسية، مشيرًا إلى أنه تعرّض لما أسماه “عرض رعب” منذ بدء محاكمته في عام 2020.
هذا الدفاع المستميت من ترامب عن نتنياهو – والذي لم يصدر حتى عن أقرب المقربين من بيبي – عُدّ تدخّلًا غير مسبوق من رئيس أمريكي في شؤون النظام القضائي الإسرائيلي، وأثار الكثير من التساؤلات حول دوافعه، خاصة أنه يتعارض شكلًا ومضمونًا مع ما كان يروّج له قبل فترة قصيرة من تصاعد الخلافات بين الطرفين.
فما الذي يقف فعليًا وراء هذه العلاقة المريبة والمثيرة للشك بين الرجلين؟ وما حدود التفاهم الخفي بين ترامب ونتنياهو في هذه المرحلة الحرجة من الحرب والسياسة؟
وجهان لعملة واحدة
بات واضحًا أن نتنياهو وترامب وجهان لعملة واحدة، عقل واحد مقسّم على رأسين، شخصية واحدة في جسدين، يتشاركان الغرور والغطرسة والتعجرف، ويتقاسمان النزعة اليمينية المتطرفة، ويتشاطران جنون العظمة والرغبات الفاشية. كلاهما مولع بالأضواء والإعلام، بفلاشات الكاميرات، وبحب الظهور.
كلاهما أيضًا لا يجد حرجًا في تنصيب نفسه “نبيًا للسلام” و”رسولًا للعناية الإلهية”، والمخلّص من “الإرهاب الإسلامي”، والمنقذ للحضارة الإنسانية من “برابرة” العرب والفرس، والمدافع بالنيابة عن “نقاء الرجل الأبيض” في مواجهة “شوائب” الأجناس الملوّنة.
وفي الوقت ذاته، تجري في عروقهما دماء العنصرية والشعبوية، فكلاهما يتخذ من اليمين المتطرف حاضنةً وأرضيةً وحائط صد، ويُجيدان معًا الخطاب الديني القومي، ولكل منهما سجلّ حافل بالتضليل والكذب والمراوغة، وتزييف الوقائع، والتلاعب بالكلمات، والانتقال السريع بلا تمهيد أو منطق من مربع إلى آخر، وكأنهما يقرآن من نص واحد.
حتى لغة الجسد تشكّل قاسمًا مشتركًا بينهما؛ فهي لغة تكشف، بل وتفضح، بنيتهما المتعجرفة وروحيهما المفعمة بالتسلّط والأنانية المطلقة. لغة يسكنها التكبر والتعالي، تُغلّفها مفردات إنسانية ناعمة، لكنها تُخفي خلفها وحشية غير مسبوقة، وشيطانية سياسية تلتهم كل ما هو حقيقي.
شريكان في المجد الشخصي
يلتقي ترامب ونتنياهو عند حافة الأنوية المطلقة، المزاجية الكاملة، فكلاهما لا يفكر إلا في نفسه، باحثًا عن مجده الشخصي، ساعيًا لتخليد اسمه في سجلات العظماء، مهما كان الثمن، ولو على حساب مصالح الدولة العليا، وعبر السير عكس اتجاه القانون والدستور والمبادئ، ولو بالتغريد الشاذ عن مرتكزات الوطن والتزحزح عن قواعده الثابتة.
فمن ناحية نتنياهو فهو لا يمانع في جرجرة دولة الاحتلال إلى حرب لا طائل منها، وفتح جبهات عدة في وقت تعاني فيه الجبهة الداخلية من أزمات خانقة، فبينما يعاني جيشه في غزة إذ به يفتح جبهة جديدة في الضفة ومنها إلى لبنان ثم سوريا ومن بعدها اليمن، وصولا إلى طهران، بصرف النظر عن مآلات هذه التحركات المرفوضة داخليًا بنسبة كبيرة، المهم هو الحفاظ على الكرسي وضمان المستقبل السياسي والابتعاد ولو مؤقتا عن مصيدة الملاحقات القضائية.
تقييم لطيف لشخصية ترامب وصلته بنتنياهو من كاتب إسرائيلي معروف..
من مقال لـ"بن كسبيت" نُشر في موقع "معاريف" اليوم تعليقا على مطالبة ترامب بوقف محاكمة نتنياهو، أو بمنحه عفوا:
ترامب هو مزيج بين قطار الملاهي وإعصار تورنادو. لا يمكن التنبؤ بما سيجلبه اليوم، أو ما سيلده اللحظة، أو ما… pic.twitter.com/B875KZOtHe
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) June 26, 2025
الوضع ذاته مع ترامب، الباحث عن مجده الشخصي والرافع لشعار “أمريكا أولا” والحالم بجائزة نوبل للسلام، فإذ به يصطدم بحليفه الأوروبي قبل خصومه في المعسكر الشرقي بفرض رسوم جمركية هائلة وضعت العلاقات الأمريكية الخارجية في اختبار حساس، ثم دخل في علاقات استثنائية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، دون أي اعتبارات لحلفائه الأوروبيين، ولا حتى لمنظومة الاستخبارات الأمريكية التي كان لها تحفظها على تلك العلاقة المثيرة للريبة.
اللافت هنا أن نتنياهو هو الأخر سار على نفس درب حليفه، ودشن علاقات غامضة مع بوتين، غير أن الفارق بينهما أن علاقات رئيس الوزراء الإسرائيلي لم تلق الرفض والامتعاض والتحفظ الداخلي، في ظل إجادة بيبي للعب على كافة الأحبال، رغم التباين الشكلي بين تل أبيب وموسكو إزاء بعض الملفات، وهو التباين المُلجم بخطوط حمراء.
مشاطرة الفساد
يتشارك القائدان في الفساد والملاحقات القضائية وضبابية المصير والغموض الذي يغلق مستقبلهما السياسي في ضوء احتمالات أن يقضي كلاهما ما تبقى من حياته داخل جدران السجون.
حيث يٌحاكم نتنياهو في 3 قضايا فساد، الأولى تلك التي يُتهم فيها بالاحتيال وخيانة الأمانة فيما يتعلق باتهامات تلقيه وزوجته سارة هدايا ثمينة بشكل غير قانوني من رجل الأعمال الهوليوودي أرنون ميلتشان بقيمة نحو 700 ألف شيكل، فيما يواجه في الثانية تهم الاحتيال وخيانة الأمانة لمحاولته التوصل إلى اتفاق مع ناشر صحيفة “يديعوت أحرونوت” أرنون (نوني) موزيس، يقضي بأن تمنح الصحيفة نتنياهو تغطية إيجابية أكثر مقابل سن تشريع يضعف منافستها الرئيسية صحيفة “يسرائيل هايوم”.
أما القضية الثالثة والمعروفة أيضًا بقضية “بيزك-واللا”، فهي الأخطر، حيث يُتهم فيها بيبي بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، إذ أنه اتخذ قرارات تنظيمية أفادت مالك شركة الاتصالات العملاقة “بيزك”، شاؤول إلوفيتش، بمئات الملايين من الشواكل، وهي القضايا التي قد تزج بنتنياهو في السجن مدى الحياة.
أما ترامب فلا يقل عن حليفه في تهم الفساد التي يواجهها، فالقضية الأولى التي انطلقت محاكماتها في نيويورك في 22 أبريل/ نيسان 2024، والمعروفة إعلاميًا بقضية “المال مقابل الصمت، فيتهم فيها الرئيس الأمريكي بأنه أبرم اتفاقًا عند ترشحه للرئاسة، عبر محاميه السابق مايكل كوهن، مع ممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز، يقضي بدفع مبلغ من المال لها مقابل صمتها وكتمانها لعلاقة جنسية عابرة جمعتها مع ترامب قبل عشر سنوات من فوزه بالرئاسة.
فيما يتهم في القضية الثانية التي رفعتها ضده مدعية عامة من الحزب الديمقراطي وهي فاني والاس في مقاطعة فولتون، في ولاية جورجيا، بمحاولة التزوير في نتائج الانتخابات الرئاسية 2020، حيث استندت على حديث هاتفي بين ترامب مع أحد مسؤولي حزبه الكبار في الولاية قبل إعلان النتائج في تلك الانتخابات التي فاز فيها جو بايدن عليه بفارق صغير في جورجيا، حيث طلب ترامب من ذلك المسؤول “إيجاد” عدد محدد من الأصوات يجعله يتغلب على منافسه الديمقراطي.
هذا بخلاف القضايا المرفوعة ضده أثناء ولايته الأولى، منها الاشتباه بدوره في اجتياح أنصاره لمبنى الكونغرس في يوم السادس من يناير/ كانون الثاني عام 2021، يوم تصديق الكونغرس رسمياً على نتائج الانتخابات التي خسرها أمام بايدن، كذلك الاتهامات بالاحتفاظ في منزله بوثائق سرية تعود لفترة رئاسته، ولم يسلمها للأرشيف الوطني كما تنص القوانين والتعليمات.
وكان ترامب قد واجه اتهامات أخرى تتعلق بالتحرش الجنسي والتشهير كانت قد رفعتها ضده الكاتبة الأمريكية “جيل كارول” التي اتهمته بالتحرش بها جنسياً في تسعينيات القرن الماضي، وبالفعل أدين في تلك المحاكمة وتم تغريمه مبلغ خمسة ملايين دولار ثم تغريمه مبلغاً أكبر هو 83 مليون دولار بعد أن خسر دعوى تشهير أخرى رفعتها كارول في نفس السياق.
ومن الصدف العجيبة على تشارك الرجلين في الفساد وحجم التشابه بينهما، أنه في ذات الأسبوع، في فبراير/شباط 2019، الذي تعرض فيه ترامب لاتهامات من محاميه السابق مايكل كوهين الذي وصفه بالمخادع والمحتال والعنصري، واجه نتنياهو ذات الاتهامات، بعد توجيه النائب العام الإسرائيلي له تهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة.
وحين سئل ترامب، خلال مؤتمر صحفي له في هانوي، على هامش قمته مع رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، في نفس التوقيت، عن تلك الاتهامات التي يواجهها نتنياهو، قال: “إنه رجل قوي، إنه رجل ذكي، إنه دفاعي للغاية، تم بناء جيشه بشكل كبير”، ليوجه له رئيس الوزراء الإسرائيلي التحية مثمنا تلك الإشادة قائلا “إن العلاقة الفريدة مع قادة القوى العالمية ليست مسألة تافهة. ليست بشيء بديهي، أنا أعمل على بناءها منذ سنوات عديدة، ولقد ساعدتني على ضمان أمننا ومستنقبلنا. لقد ساعدتني على حماية بلدنا”.
ورقة سياسية بأيدي ترامب
مع شخصية براغماتية مثل دونالد ترامب، فإن الاكتفاء بالعلاقات الشخصية وحدها كمؤشر أحادي لتحديد بوصلة الاتجاهات يُعد أمرًا غير موضوعي على الإطلاق، إذ سرعان ما تتعرّض هذه العلاقات لهزة عنيفة عند أول اختبار يضع المصالح والمكاسب في مواجهة الأهواء الشخصية، ويتضح ذلك من خلال مؤشرات عدّة، أبرزها خسارة ترامب لعدد كبير من المقربين منه وحلفائه السابقين، بسبب تعارض المصالح، وصدامه المتكرر مع حلفاء “القارة العجوز” للأسباب ذاتها.
وعليه، فإن ترامب، إن لم يجد في نتنياهو فائدة عملية مباشرة أو خدمة فعليّة لأجندته، فلن تكون العلاقة بينهما طويلة الأمد، ولن يصمد ما يبدو “تحالفًا خاصًا” في وجه تقلبات المصالح.
لطالما مثّل نتنياهو ورقة سياسية ثمينة بيد ترامب؛ فوجوده إلى جانبه عزز من دعم القاعدة الجمهورية له، رغم التحفظات العديدة على شخصيته، كما ساعد في إبعاد كبار المتبرعين المؤيدين لـ”إسرائيل” عن الحزب الديمقراطي، وقد استخدم ترامب تلك الورقة للمناورة السياسية داخليًا، وهو ما ساهم بشكل مباشر في ترسيخ موقعه خلال ولايتيه الرئاسيتين، الأولى والثانية.
المحلل المخضرم في شؤون الشرق الأوسط، آرون ديفيد ميلر، في تحليل له في مجلة “بوليتيكو” قال إن “نتنياهو – وهو شخص يتمتع بشخصية كاريزيمية والانجليزية هي لغته الأم والذي يحظى باحترام اليمين الأمريكي بسبب معارضته الشديد لباراك أوباما واتفاقه النووي مع إيران – على استعداد تام ليكون رصيدا سياسيا لترامب، وجعل الحزب الجمهوري مناصرا لإسرائيل، لا سيما بسبب الانقسامات في صفوف الديمقراطيين، هذه سياسة ذكية”.
شريك مثالي في الحلبة السياسية
من خلال ما سبق، وفي ظل تقاسم الطرفين لكل تلك الصفات المشتركة، أصبح كلٌّ منهما الشريك المثالي للآخر في الحلبة السياسية، فقد وجد ترامب في نتنياهو الجسر الأقصر والأقوى لتحقيق حلمه في الشرق الأوسط، واستعادة نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة بعد حالة التراجع والانكفاء التي رافقت إدارة جو بايدن، وعودة مناكفة الخصوم في المعسكر الشرقي بعد أن تُرك لهم الملعب لفترة وجيزة.
وتحوّل بيبي إلى أداة طيّعة بين يدي ترامب، التلميذ النجيب المطيع لأستاذه، والعازف الملتزم بإشارات قائد الأوركسترا، وحين أراد ترامب تدشين معادلة تموضع جديدة في الشرق الأوسط، لم يجد أفضل من نتنياهو لأداء هذا الدور بإخلاص شديد؛ فبدأت القفزات الاستراتيجية نحو سوريا ولبنان، ثم نحو طهران واليمن، في سلسلة مناورات مدروسة لتوسيع هامش الهيمنة الأمريكية عبر الذراع الإسرائيلية.
وعلى الجانب الآخر، يرى نتنياهو في ترامب حائط الصد الأقوى أمام أي محاولات لاستهدافه شخصيًا، والضمانة الأكبر لمستقبله السياسي، فقد وفّر له ترامب مظلة حماية سياسية وعسكرية واقتصادية، في وقت كانت فيه “إسرائيل” تخوض معركة متعددة الجبهات، كما مثّل له الدرع الكافي في وجه أي ملاحقات دولية محتملة على طاولات الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والمنظمات القضائية التابعة لهما.
كلاهما يفهم الآخر جيدًا؛ فهناك مساحة واسعة من الارتياح الشخصي في التعامل بينهما، بحكم تقارب السمات النفسية والشخصية إلى حدّ التطابق، وهذا ما يضفي على العلاقة بينهما طابعًا استثنائيًا يتجاوز حدود البروتوكول والدبلوماسية الرسمية المعتادة بين قادة الدول، لتأخذ شكلًا أكثر حميمية واتساقًا في الأهداف والسلوك.
وهذا البُعد الشخصي يظهر بوضوح من حين إلى آخر، سواء في اللقاءات المشتركة بينهما، أو في أحاديثهما المتبادلة، التي لا تخلو من مديح متبادل يتجاوز المجاملة السياسية إلى ما يُشبه التقدير الشخصي العميق، بل والإعجاب المتبادل.
أوهام الخلاف.. تبادل أدوار لا صدام
يرى علماء النفس الاجتماعي أن التشابه في الصفات المشتركة حتى حدّ التطابق بين الأطراف، وإن كان عامل جذب وتلاحم وتقارب، إلا أنه في الوقت ذاته قد يكون عامل تنافر وتباعد، غير أن هذا التنافر يكون مُلجمًا بالمصالح المتبادلة، ومُقيَّدًا باعتبارات شخصانية، لا يستطيع الخروج عن الخطوط الحمراء المرسومة مسبقًا.
وقد نجح ترامب، خلال الأشهر الماضية، في تصدير صورة وهمية ومخادعة للرأي العام عن تصاعد الخلافات بينه وبين نتنياهو، نتيجة تباين الرؤى حول عدد من الملفات وطريقة إدارة الحكومة الإسرائيلية لها، بما أوحى بتصدّع جدران الثقة بينهما، لكن ما تبيّن لاحقًا أن الأمر لم يتجاوز كونه تبادل أدوار لتحقيق الأجندة ذاتها، وأن الخلاف لم يكن على الأهداف، بل على سُبل تنفيذها واستراتيجيات الوصول إليها.
بينما أوهم الرئيس الأمريكي الجميع بالدخول في مفاوضات غير مباشرة مع الإيرانيين – وهو ما اعتُبر حينها تصعيدًا في الخلاف مع نتنياهو – كان في الواقع يُمارس أقصى درجات التنسيق والتفاهم مع حليفه بيبي لشن ضربة استباقية خاطفة ضد طهران، ألحقت بها خسائر فادحة، في واحدة من أكثر خطط الخداع الاستراتيجي تطابقًا بين المشروعين الصهيوني والأمريكي.
الأمر نفسه تكرر في ملف غزة؛ ففي الوقت الذي دخلت فيه الإدارة الأمريكية في مباحثات مباشرة مع حركة حماس – على خلاف الموقف الإسرائيلي – كان ترامب يمنح الجيش الإسرائيلي ما يحتاجه من وقت ودعم لتكثيف عملياته العسكرية في القطاع، ومساعدة نتنياهو على تحقيق “إنجازات” ميدانية ورمزية، خاصة في ملف الأسرى، يراها رئيس الوزراء فرصة لتحسين صورته المهشمة بعد عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وبعيدًا عن هذه المقاربات التكتيكية، هناك دوافع شخصية أيضًا تدفع ترامب للدفاع المستميت عن نتنياهو؛ فالتشابه البنيوي بينهما يصل إلى حدّ التطابق، ما يجعل من بيبي مرآة ترامب العاكسة، وامتدادًا رمزيًا له في المشهد السياسي، فنتنياهو هو “الفنجان” الذي يقرأ فيه ترامب ملامح مستقبله، و”الصورة المصغرة” لما قد يواجهه، فإن كان مصير بيبي هو السقوط والسجن، فذلك ليس مستبعدًا عن ترامب الذي يواجه هو الآخر ملاحقات قانونية وفضائح قضائية قد تضعه في موقف مشابه.
في النهاية، بات من الواضح أن ما جرى لم يكن صدامًا حقيقيًا كما روّجت له وسائل الإعلام، بل خدعة محكمة سقط فيها الكثير من المحللين. تبيّن لاحقًا أن ما حدث لم يكن سوى تنسيق مدروس وتبادل متقن للأدوار، سار فيه كل طرف في مساره الخاص، ليعود ويلتقي في نقطة الهدف المشترك، ومع ذلك فإن الطلاق السياسي بين الطرفين يظل احتمالًا قائمًا، متى ما تعارضت المصالح وتحوّلت العلاقة البراغماتية البحتة إلى عبء ثقيل، لم يعد أيٌّ منهما قادرًا على احتماله.