ترجمة وتحرير: نون بوست
على خلاف التوقعات، لم تؤدِ الاضطرابات الجيوسياسية الأخيرة في الشرق الأوسط – وخاصة أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 والتصعيد بين إسرائيل وإيران – إلى توجيه ضربة قاسية لأسواق الطاقة العالمية. فعلى عكس ما حدث في أزمات إقليمية سابقة أو صدمات عالمية كبرى مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كان الأثر هذه المرة ضعيفًا بشكل مفاجئ. وقد يُشير هذا العجز الظاهر للدول النفطية في الشرق الأوسط عن استخدام قوتها البترولية كسلاح سياسي إلى بداية تحوّل أعمق في الديناميكيات العالمية، تحوّل قد يمنح الدول المتحالفة مع الغرب مزيدًا من الجرأة في السعي نحو تغييرات سياسية واقتصادية في المنطقة.
لطالما شكّل النفط على مدى عقود حجر الأساس لقوة حكّام الشرق الأوسط؛ حيث مثّل أداة إستراتيجية لضمان السيطرة الداخلية وكسب الدعم الدولي. لكن مع تراجع وزنه السياسي على الساحة العالمية، قد يدفع تآكل الدعم من القوى الكبرى هؤلاء القادة إلى إعادة النظر في أسلوبهم في التمسك بالسلطة. وكمحاولة للتكيف، قد يتجهون نحو الداخل، معتمدين على إصلاحات تهدف إلى تعزيز الحوكمة السياسية والاقتصادية، ليس من خلال الثروة النفطية وحدها، بل عبر قيادة أكثر استدامة وخضوعًا للمساءلة.
الأهمية التاريخية للنفط بالنسبة للدول المصدّرة
منذ سبعينيات القرن الماضي، شكّلت الثروة النفطية العمود الفقري لقوة دول الشرق الأوسط، وأسهمت في تشكيل اقتصاداتها ونفوذها السياسي على حد سواء. ومن خلال دورها المحوري في منظمة “أوبك” وقدرتها على التأثير في توازن الطاقة العالمي، اكتسبت هذه الدول نفوذًا لا يُنكر في الشؤون الدولية. وقد فتحت شراكاتها الإستراتيجية مع كبرى شركات النفط – من عمليات الاستكشاف والإنتاج وصولًا إلى التجارة العالمية – قنوات اتصال مباشرة مع أقوى الحكومات في العالم. وبفضل الثروات المستمدة من الموارد، أقدم العديد من حكام المنطقة على تحديث دولهم، وتعزيز حكمهم الاستبدادي، وتأمين دعم خارجي، رغم أن أنظمتهم كانت في كثير من الأحيان على طرف نقيض مع القيم الغربية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وفي معظم دول الشرق الأوسط المصدّرة للنفط، تشكّل عائدات البترول أكثر من 70 بالمائة من دخل الحكومات ونحو ثلث الناتج المحلي الإجمالي، بل إن بعض الدول مثل العراق والكويت تتجاوز هذه النسب. وعلى الرغم من التغيرات السياسية التي شهدتها بعض الدول، كالعراق مثلًا بعد تغيير نظام الحكم، لا تزال حكومات المنطقة تعتمد بشكل كبير على قطاع النفط باعتباره ركيزة أساسية للاستقرار الاقتصادي، وأداةً للحفاظ على السلطة وبسط النفوذ داخل أراضيها.
صدمات أسعار النفط التاريخية التي استفاد منها مُصدّرو النفط في الشرق الأوسط
يمكن إرجاع الاستخدام السياسي للنفط إلى سنة 1960، حين تحالفت الدول الغنية بالنفط في الشرق الأوسط مع فنزويلا لتأسيس منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك). إلا أن أول استخدام فعلي وكبير للنفط كسلاح سياسي وقع خلال حرب أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1973 بين العرب وإسرائيل، حين فرضت الدول العربية حظرًا نفطيًا أدى إلى أزمة طاقة تاريخية، وارتفعت على إثره أسعار النفط من نحو 3 دولارات إلى ما يقارب 12 دولارًا للبرميل خلال خمسة أشهر فقط، أي ما يعادل أربعة أضعاف.
أما الصدمة الثانية الكبرى، فقد جاءت في سنة 1979 مع اندلاع الثورة الإيرانية، التي أدّت إلى تراجع حاد في صادرات النفط الإيرانية، مما تسبب في ارتفاع حاد في الأسعار العالمية؛ حيث تضاعفت تقريبًا، وأثار اضطرابًا واسعًا في الأسواق الدولية. وبعد سنة واحدة فقط، اندلعت الحرب بين العراق وإيران في سنة 1980، مما زاد من المخاوف بشأن تعطل الإمدادات النفطية في المنطقة، ودفع الأسعار إلى الارتفاع مجددًا لتصل إلى نحو 40 دولارًا للبرميل مع بداية تلك السنة.
وبعد عقد من الزمن، وتحديدًا في سنة 1990، أدى غزو العراق للكويت، وهي دولة أخرى غنية بالنفط في الخليج، إلى ارتفاع أسعار النفط من 17 دولارًا إلى 36 دولارًا للبرميل. وقد دفعت هذه الأزمة الدول الغربية إلى الإفراج عن احتياطياتها الإستراتيجية من النفط بهدف الحد من ارتفاع الأسعار واحتواء الأزمة.
وأدى الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 إلى اضطراب فوري في الأسواق، وإلى حالة من عدم اليقين طويلة الأمد. وقد ساهم هذا الاضطراب الجيوسياسي في دفع أسعار النفط من نطاق 26–30 دولارًا في أوائل العقد الأول من الألفية إلى ما يزيد عن 31 دولارًا في سنة 2003، مستمرًا في اتجاه تصاعدي حاد بلغ 66 دولارًا بحلول سنة 2006.
وعلى عكس معظم الأزمات الاقتصادية العالمية، مثل الأزمة المالية في 2008–2009 التي أدت إلى تراجع الطلب على النفط وهبوط أسعاره، فقد تسببت النزاعات في الشرق الأوسط تاريخيًا في ارتفاع حاد في الأسعار. وجاءت القفزة الكبرى التالية في سنة 2011 خلال أحداث “الربيع العربي”؛ حيث دفع الاضطراب الإقليمي الأسعار من نحو 90 دولارًا في نهاية سنة 2010 إلى 120 دولارًا في أوائل سنة 2011. وقد أدت الحرب الأهلية في ليبيا إلى تعطّل تدفق النفط نحو أوروبا، وزادت المخاوف من تهديدات محتملة لأمن قناة السويس من حدة القلق العالمي بشأن الإمدادات.
وتعرّضت الأسواق لهزة جديدة في سنة 2019 عندما استهدفت ضربة بطائرات مسيّرة منشأتَي بقيق وخريص التابعتين لشركة أرامكو السعودية، ما أدى إلى توقف إنتاج نحو 5.7 ملايين برميل يوميًا، أي ما يعادل 5 بالمائة من الإمدادات العالمية. وتسبّب هذا الحدث في قفزة حادة بأسعار النفط بنسبة 19.5 بالمائة في يوم واحد فقط، إذ ارتفع السعر من 60 إلى 72 دولارًا للبرميل، مسجّلًا بذلك أكبر زيادة مئوية في يوم واحد منذ حرب الخليج سنة 1991.
وجاء حدث نادر من خارج منطقة الشرق الأوسط في سنة 2022، عندما غزت روسيا أوكرانيا، ما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط إلى أكثر من 120 دولارًا للبرميل في مارس/آذار، بزيادة بلغت 15 بالمائة مقارنة بمستويات ما قبل الحرب. وقد أكد هذا التطور مدى حساسية السوق العالمية تجاه الاضطرابات الجيوسياسية الكبرى.
ومع ذلك، كانت ردود الفعل على الصراعات الأحدث في الشرق الأوسط بعد سنة 2023، والتي دارت بمعظمها حول ما يُعرف بـ”محور المقاومة”، ضعيفة بشكل ملحوظ. ففي 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شنّت حركة حماس هجومًا مفاجئًا على إسرائيل، ما أدى في البداية إلى ارتفاع أسعار النفط من نحو 80 إلى 90 دولارًا للبرميل خلال أسبوع. إلا أن هذا الاتجاه التصاعدي انعكس سريعًا؛ حيث تراجعت الأسعار إلى 74 دولارًا للبرميل بحلول الأسبوع الثالث. وعلى الرغم من أن منطقة النزاع لم تكن مركزية في إنتاج النفط العالمي أو نقله؛ فإن المخاوف من احتمال اتساع رقعة التصعيد لتشمل إيران أو لبنان أو فصائل عراقية أثارت بعض القلق، غير أن هذه المخاوف كانت قصيرة الأمد، واستقرت الأسواق بسرعة.
وسُجّل اتجاه مشابه بعد الضربة الإسرائيلية على إيران؛ حيث ارتفعت أسعار النفط بشكل طفيف، بنسبة 7 بالمائة فقط في الأسبوع الأول، قبل أن تعاود الانخفاض في الأسبوع التالي. وقد جاءت هذه الاستجابة المحدودة رغم المكانة البارزة لإيران كأحد أكبر حاملي احتياطيات النفط في العالم (الرابع عالميًا)، ومن كبار المنتجين، وثاني أكبر دولة من حيث احتياطيات الغاز الطبيعي، وواحدة من أكبر خمس دول منتجة له عالميًا. وتُضفي الأهمية الجيوسياسية لإيران، بوصفها دولة مجاورة لمضيق هرمز، أهم ممر لعبور النفط في العالم، مزيدًا من الدهشة على مرونة سوق الطاقة العالمية. فحتى بعد أن شنّت الولايات المتحدة هجمات على مواقع نووية إيرانية، وردّت إيران عليها، استوعبت الأسواق الصدمة بسرعة، وعادت الأسعار إلى مستويات ما قبل التصعيد خلال ساعات قليلة.
وتشير هذه الاستجابات الأخيرة إلى تحوّل في درجة حساسية سوق الطاقة العالمية تجاه التوترات في الشرق الأوسط، وهو ما قد يعكس تغيّرات في تنوّع مصادر الإمداد العالمية، وزيادة الاعتماد على الاحتياطيات الإستراتيجية، بالإضافة إلى إعادة تموضع سياسي من جانب كبار المستهلكين والمنتجين في سوق الطاقة الدولية.
تحليل ردود فعل سوق النفط على الصراعات في الشرق الأوسط
وفي حين أن النزاعات في الشرق الأوسط كانت تاريخيًا تُفضي إلى صدمات حادة وطويلة الأمد في أسعار النفط، فإن استجابة السوق للأزمات الإقليمية الأخيرة تعكس تحولًا ملحوظًا، سواء من حيث حجم الزيادات في الأسعار أو مدة تأثيرها. وحتى عندما تكون دولة كبرى ومؤثرة في سوق النفط مثل إيران طرفًا مباشرًا في الصراع، أظهرت السوق قدرًا لافتًا من التماسك، مع تقلبات قصيرة الأمد بدلًا من اضطرابات مستمرة وطويلة المدى.
منذ سنة 2001، قلّصت الولايات المتحدة بشكل كبير اعتمادها على النفط القادم من الشرق الأوسط، في حين سعت أوروبا إلى تنويع مصادر طاقتها بنشاط، لا سيما كرد فعل على نفوذ روسيا في قطاع الغاز وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية. ونتيجة لذلك، باتت التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط اليوم تُثير ردود فعل أضعف بكثير في سوق النفط العالمية، خصوصًا عندما لا يتأثر المصدّرون المتحالفون مع الغرب بشكل مباشر.
وبرز هذا التحوّل بوضوح عند مقارنة ردّ الفعل الحاد للأسواق على هجوم سنة 2019 الذي استهدف منشآت أرامكو السعودية، مع الاستجابة الأكثر تحفظًا بكثير تجاه صراع حماس وإسرائيل في 2023 والضربة الإسرائيلية على إيران. وتشير هذه الأنماط إلى أن سوق الطاقة العالمية باتت أكثر تنظيمًا واستقرارًا بفضل الدور الذي تلعبه الدول المنتجة المتحالفة مع الغرب، وعلى رأسها السعودية. فعندما لا تكون السعودية، القائد الفعلي لأوبك وأوبك+، طرفًا مباشرًا في الأزمة أو عندما لا تكون بنيتها التحتية مهددة، تظل الأسواق واثقة من استمرارية الإمدادات. ومع ذلك، فإن أي تهديد لمنشآت المملكة لا يزال يُطلق ردود فعل فورية ومشحونة في الأسواق العالمية.
ولا يُبرز هذا التحوّل نجاح الإستراتيجيات الغربية في تنويع مصادر الطاقة فحسب، بل يشير أيضًا إلى بروز حقبة جديدة في إدارة سوق النفط، تقودها أوبك+ وتدعمها آليات الاستقرار الإستراتيجي. ونتيجة لذلك، قد تُدرَس النزاعات الإقليمية المستقبلية في الشرق الأوسط بشكل متزايد بمعزل عن صدمات أسعار النفط. وهذا الفصل بين السياسة والطاقة قد يمنح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مساحة أكبر لتشكيل ردود فعل سياسية أكثر مرونة، وإعادة تقييم علاقاتهما مع حكومات الشرق الأوسط، من دون أن تقيّدهما اعتبارات أمن الطاقة كما في الماضي.
المصدر: أويل برايس