مثلت الضربة الأخيرة للحرس الثوري الإيراني، الثلاثاء الماضي، في قصف الكيان الصهيوني، عنوانًا مهمًا لخاتمة الحرب (حتى حينه) التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وخلافاً لتصريحات واشنطن، جاءت تصريحات طهران بأنها هي المنتصر في الحرب الصهيونية والمواجهة مع أمريكا، في حين مثّل إعلان ترامب، الذي سمّاه بشرى السلام العالمي، حسماً لمشروع البيت الأبيض الجديد، الذي يُنهي حسب روايته تهديدات المشروع النووي الإيراني.
في ذات السياق، شكر الرئيس الأمريكي طهران على إبلاغها الأطراف ذات العلاقة بتوقيت الضربة وسياقها على قاعدة العديد، وهو ما اعتُبر ضمن سياق التسوية النهائية وتأكيدًا على نجاح مفاوضات مسقط.
في حين سجّلت الدوحة موقفًا مزدوجًا لرفض انتهاك سيادتها الوطنية، لكنها أبقت، حسب إجابة الدكتور ماجد الأنصاري الناطق الرسمي للخارجية القطرية، على شخصية الدولة الوسيط ذات الموقف المتوازن في الاستمرار بجهودها الدبلوماسية بين طهران وواشنطن، مع التأكيد على حماية أرضها بغضّ النظر عن الموقف الأمريكي وقاعدته في العديد.
بعد أن حظيت قطر بتضامن شامل من دول مجلس التعاون الخليجي وغيرها من الدول الصديقة لقطر، فإن التحليل السياسي المهني لا يُغفلنا عن الدعاء والارتياح بنجاة قطر الدولة والشعب، فالحمد لله على سلامتهم، مواطنين ومقيمين وبنية دولة.
وقبل الخوض في المركز العميق لهذا المقال، نشير إلى أن صفقة الاتفاق الذي أعلنه ترامب لم تُغطِّ مذبح غزة، ولا قصة الألم الدامي التاريخي لأكبر مذبحة شهدتها الدول العربية منذ تشكّلها القطري، وأكبر إبادة منذ بدأت عملية الاحتلال والاضطهاد الذي مارسته المركزية الغربية على فلسطين المحتلة، بيدها أو بذراعها الصهيوني الإرهابي القذر.
ورغم أننا نستذكر الإرث السياسي والعسكري والأمني والإرهابي السيئ الذي مارسته إيران على الأرض العربية، إلا أن توازنات الردع ضد الكيان الصهيوني كان مهمًا أن يتحقق لصالح إيران، أو على الأقل زيادة التكلفة على القوة الصهيونية التي كانت تستعد للبطش بدول أخرى. سوريا الجديدة هي من أهم المناطق المرشحة للخطة المركزية الإسرائيلية، فضلًا عن إيماننا بأن المشروع الطائفي الاستعماري للنظام في طهران لا يغيّر معنى علاقة الشعب الإيراني بالشرق المسلم ورابطتنا معه.
أين نسب هذا التفوق والنصر؟
لسنا في وارد تحديده اليوم، فهو يحتاج إلى إعادة تقييم مستقلة دقيقة، لكن المروع أن غزة تُركت ثانية منذ إلقائها في مشروع وحدة الساحات الإيرانية، وعادت إلى الدورة التي لم تخرج منها من القتل والتجويع. كل ذلك نستحضره في المشهد الدراماتيكي الدموي للمنطقة وأثر حجم الفراغ العربي فيه.
أما الملف الآخر المهم الذي لم يُطرح في فضاءات الجدل السياسي الإقليمي، فهو: أين هو هذا النصر الإيراني المعلن في الداخل الإيراني؟ كيف نظرت طهران إلى جدولة الحرب وكيف رتبت الختام بناء عليه، دون أن يشغلها إحراز تقدم تاريخي في تمكين الآلة العسكرية من الهجوم على منشآتها النووية؟ وأن كل شواهد المواجهة تعني أن إيران قبل المواجهة ليست هي إيران بعدها!
ولذلك استُخدم قصف القواعد الأمريكية في الخليج لهذا الغرض، وهنا نستذكر أن المصادر الإيرانية وإعلان ما سُمّي بشائر الفتح، صرّح باستهداف عدة قواعد، وإن كانت صواريخ القصف وصلت إلى العديد فقط، التي فُرّغت من المفارز الأمريكية منها بناء على إخطارات طهران، كما أكّد ذلك الجانب الأمريكي والقطري معًا.
إن هناك صورة متخيلة في الوجدان العربي حول إيران الثورة والجمهورية الدينية، لا تزال طهران تحرز تقدمًا فيها، وخاصة بعد إعلان جماعات ونخب ثقافية سنية التشيع السياسي وموالاة المشروع الإيراني، بناء على أنه قوة مواجهة مع الكيان الصهيوني، ونُسجت سردية يُبشَّر بها اليوم لشيطنة الثورة السورية ذاتها، بحكم أنها نقضت حكم الأسد الإرهابي والدعم الإيراني الضخم له، ودوره في إعادة تشكيل الجغرافيا والهوية العربية في المنطقة.
هذه الصورة لا تزال مهمة للجمهورية الإيرانية، ولا يزال استثمار الدعم اللوجستي الخارجي في الأرض العربية يمثل قدرات دعم للمقدمات الفكرية للهيمنة الخارجية في الجسم الشيعي العربي أو في غيره، وهذا البعد له تاريخ ممتد في التجارب الإنسانية.
فالصراع السياسي الشرس كان قائمًا بين النازية وبين الفكرة الليبرالية الأوروبية قبل الحرب وخلالها، والصراع مع الفكرة الشيوعية احتدمت معاركه قبل الحرب الباردة وأثناءها في قلب أوروبا، حين اخترقت الفكرة اليسارية البلشفية العالم الغربي، وأُسست طلائع الفكر اليساري الثوري، لكن الغرب القديم والجديد بين أوروبا وأمريكا لم يتسامح مع الفكرتين، وسحقهما بكل قسوة وشرّع لهما أبارتايد، قبل أن تتمكنا من العمق السياسي للدول الأوروبية، وارتُكبت فظائع ضد نخبها وحراكها الطلابي.
في إيران والأرض العربية، هناك حكاية أخرى سمحت لطهران بهذا التمكّن، لكن هذا التمكن لم يكن منسجمًا مع ثورات الضمير الإيراني داخل الجمهورية، من الشارع الشيعي وليس فقط من الأقليات. فأين هو موقف الشعب الإيراني ذاته من كل هذا الاحتفال؟ وما هي حقيقة الولاء المطلق الذي يتصوره البعض لنظام الولي الفقيه في طهران؟ نعود لحكايته في مقالة قادمة بعون الله.