في مثل هذا اليوم من كل عام منذ 2014 كان الإعلام المصري الموالي لنظام عبد الفتاح السيسي ينصب المسارح والموالد احتفاء بذكرى تظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013 التي كانت تمهيدًا للقضاء على أول تجربة حكم مدنية في تاريخ الدولة المصرية، حين أطاحت بنظام الرئيس الراحل محمد مرسي وجاءت بالجنرالات على سدة السلطة مجددًا.
وقبيل ذلك بأيام وربما أسابيع كانت “شركة المتحدة للخدمات الإعلامية” الإمبراطور المهيمن على خارطة الإعلام المصري، والمملوك لأجهزة الدولة السيادية، تُجيّش أدواتها وفرق عملها في عشرات القنوات والمواقع والمنصات، لتمرير سيناريوهات مكتوبة سلفًا، ومعتمدة من الأجهزة المعنية، تتباهى بما حققته دولة الثالث من يوليو/تمّوز من إنجازات صنعت الجمهورية الحديثة كما يروجون.
لكن الرياح أتت بما لا يشتهي ربان السفينة، فبينما كانت الأحزاب الموالية وكتائبها المنتشرة في كل أنحاء الجمهورية تسابق الزمن لصناعة أجواء احتفالية تٌبقي على هذه الذكرى على قيد الحياة بعدما فقدت بريقها، إذ بكارثة شهيدات لقمة العيش في المنوفية، التي أودت بحياة 18 من الفراشات في عمر الزهور، وكشفت عن حجم الفساد وغياب الرقابة وإهدار المال العام وفقدان الإحساس بالمسؤولية لدى قيادات الدولة،، تفسد المشهد على الجميع، بعدما خيّم الحزن على الشارع المصري.
لكن كارثة المنوفية لم تكن وحدها المتغير الذي فرض نفسه على مشهدية إحياء الذكرى هذا العام، إذ سبقتها أجواء ضبابية وغياب لافت للزخم المعتاد، في ظل الأنين الذي لم يخفت جراء معاناة المصريين المعيشية وتضاعف الأعباء فوق الأعباء بما فاق قدراتهم الاحتمالية، ما دفع القائمين على أمور النظام للبحث عن سرديات أخرى تتماشى وتلك الظرفية، وتضع هذه المناسبة السنوية، التي تعول عليها السلطة في استمراريتها، على أجهزة التنفس الصناعي قدر الإمكان، والحيلولة دون الموت الإكلينيكي المتوقع.
من الترغيب للترهيب.. تغير السرديات
في السنوات الأولى لتلك التظاهرات اعتمدت السلطة الجديدة على استراتيجية الترهيب، حيث شيطنة النظام المُطاح به، وتصدير صورة مشوهة عن الإخوان وعام حكمهم، والحديث عن المؤامرات التي لا تتوقف والتي تستهدف أمن واستقرار الدولة، وهي السردية التي تغازل معاني الوطنية في عقول ومخيلة المصريين، وبالفعل نجحت في تحشيد الشارع لفترات.
في تلك الأجواء تم تصدير السيسي كـ “رجل المرحلة” الذي حمل أكفانه على يده حماية لهذا الوطن من الجماعة التي كانت تستهدف تقويض إمكانيته وإعادته لعصور التخلف والرجعية، وباتت “30 يونيو” مرتبطة بشكل وثيق بالسيسي، فأيما ذكر أحدهما ذكر الأخر بالتبعية.
ومع مرور الوقت تخلى النظام عن تلك السردية الشخصية التي استبدلها بأخرى، تلك التي تعظمه وترسخ أركانه، بصفته النظام الأكثر نجاحا وتحقيقًا لأحلام وطموحات المصريين، مستعينًا ببعض المشروعات القومية الكبرى التي اتضح لاحقا أن الهدف منها نفسي ومعنوي أكثر منه واقعي، كمشروع قناة السويس الجديدة والعاصمة الإدارية وغيرها من تلك المشروعات التي يغلب عليها الطابع الاستعراضي.
لكن التعويل على تلك السردية لم يحقق الهدف منه، خاصة بعدما تفاقم الوضع المعيشي ووصل المصريون إلى مستويات من التقشف لم يشهدوها في تاريخهم الحديث، ليكتشف الجميع أن ما كان يعزفه النظام من ألحان النهوض والتنمية والتطوير ليس إلا نغمات شاذة، وأحلام وهمية، ومخدر لتدجين المواطن وتسكينه، وإبقاءه في دائرة الخداع والوهم.
أيقن القائمون على أمور النظام أن التمترس خلف جدران الإنجازات وتصديرها للمشهد الجماهيري مغامرة قد تأت بنتائج عكسية، لاسيما بعد التطورات الإقليمية والدولية التي فاقمت من الأزمة وعمقت مخرجاتها ومآلاتها، وعليه كان البحث عن سرديات أخرى للتعاطي مع تلك المستجدات مسألة غاية في الأهمية قبل أن تخسر السلطة أحد أهم أوراق دعمها الشعبي.
حالة الإفلاس التي باتت عليها السلطة الحالية بعدما استنزفت كل ما لديها من استراتيجيات، دفعتها للعودة للسردية القديمة، ترهيب المصريين باستدعاء جرائم الإخوان عبر حملة ممنهجة يتشارك فيها الجميع، تلفزيون وصحافة ولجان ومنصات إلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، ووضع الشارع المصري في معادلة صفرية كالعادة، إما تحمل الظروف المعيشية الراهنة، أو السيناريو الأسوأ وهو الإخوان.
أوضاع مأساوية. حصاد 12 عامًا
بدأ السيسي عهده بخطاب عاطفي يتناغم مع رؤيته التي تغيب عنها دراسات الجدوى والاستراتيجيات العلمية المعروفة، مكتفيًا بالوعود البراقة بشأن تحسين أوضاع المصريين مبكرًا، حتى قبل توليه السلطة، فخلال حملته الانتخابية وعلى هامش لقاء متلفز له مع عدد من الإعلاميين في 6 مايو/أيار 2014 (قبيل توليه السلطة بقرابة شهرين) قال: “المواطن سوف يشعر بتحسن خلال عامين، تحسن في الاقتصاد والتعليم والصحة في حياته عامة”، دون أن يوضح الآلية والكيفية والأدوات التي يمكنه من خلالها ترجمة تلك التعهدات إلى واقع مُعاش.
في العام ذاته وبعد استلامه مقاليد الحكم، أشار السيسي إلى أن عام 2015 وهو العام الأول للحكم سيكون “عام الرخاء”، حيث يتلمس المصريون الفارق الواضح في المستوى، وقبل نهاية عام 2014 وخلال افتتاح مشروعي مطار الغردقة الدولي والميناء البحري، طالب السيسي المصريين بالصبر عليه لمدة عامين، قائلًا: “أيها المصريون البسطاء! اطمئنوا يا مصريين؛ خلال عامين سترون النتائج”
في 28 ديسمبر/كانون الأول 2016، وهو الموعد المحدد مسبقًا لتحسن الأوضاع ورؤية النتائج المبهرة، إذ بالرئيس يجدد طلب مهلة جديدة للمصريين بالصبر، لكنها هذه المرة 6 أشهر، أي في منتصف عام 2017، وفي 24 يوليو/تموز 2018، جدد السيسي الطلب مرة أخرى، حين قال: “اصبروا وسترون العجب العجاب في مصر”، لكنه لم يحدد سقفًا زمنيًا لهذا الصبر، إلا أنه وقبل نهاية العام وعد بأن مصر في 30 يونيو/حزيران 2020 ستكون “دولة ثانية” على حد قوله.
وهكذا مرّ عام الرخاء في 2015 ومن خلفه عامي النتائج المبهرة في 2016 و2017 ثم بعام العجب العجاب في 2018، وصولًا إلى “دولة تانية” في 2020، واليوم ومع الذكرى الـ 12 لتظاهرات 30 يونيو/حزيران التي كان يؤمل المصريون أنفسهم أن تكون بداية خير وبركة وتحسن في أوضاعهم المعيشية والحقوقية والسياسية التي بسببها خرجوا على النظام السابق.. فماذا وجدوا؟
- تراجعت قيمة الأجور المصرية في 2025 عما كانت عليه في 2014، فرغم رفع الحد الأدنى للأجواء نحو 6 أضعاف من 1200 إلى 7000 جنيهًا، إلا أن قيمته انخفضت بشكل كبير، من 170 دولارًا إلى 140 دولارًا في نفس الفترة ( الدولار يساوي 50 جنيهًا).
- خسرت العملة الوطنية (الجنيه) 85.7 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار منذ عام 2014 وحتى منتصف عام 2025، من (7.15 إلى 50.12 جنيها)، فيما تضاعف الدين الخارجي 4 مرات (من 43.2 مليار دولار في 2013 إلى 155.2 مليار دولار في 2025).
- ارتفعت أسعار المحروقات 11 مرة منذ تظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013 وحتى اليوم، بمعدل زيادة تجاوز 1000%، ليقفز سعر لتر بنزين 80 من 90 قرشًا في 2013، إلى 15.75 جنيها للتر، وبنزين 92 من 130 قرشًا إلى 17.25 جنيها للتر، و بنزين 95 من 275 قرشًا إلى 19 جنيها للتر.
- أسعار الدواء هي الأخرى شهدت ارتفاعات متتالية بأعوام 2015، الذي شهد رفع أسعار 800 صنف دوائي، لتقر الحكومة مطلع 2017 زيادة سعرية 15 بالمئة للأدوية المحلية و20 % للمستوردة، ثم زيادة أخرى 50 بالمئة في مايو/ أيار من نفس العام، مع زيادة أسعار 200 صنف دوائي منتصف 2024 بنسبة بين 20 و25 %، فيما يعاني أكثر من 10 مليون مريض مزمن من نقص الدواء المطلوب.
- تراجعت مصر في مؤشر مدركات الفساد من المرتبة 114 عام 2013 إلى المرتبة 130 في عام 2024، مما وضعها في قائمة الدول التي تعاني مستويات عالية من الفساد، في ظل غياب الرقابة، والتضييق على المجتمع المدني والإعلام، وغياب استقلال القضاء، والإفلات من العقاب.
- تعريض الأمن المائي المصري للخطر بعد الفشل في إدارة معركة “سد النهضة” على مدار أكثر من 11 عامًا من المفاوضات التي أعلن عنها وزير الخارجية اليوم أنها وصلت إلى طريق مسدود.
- حتى على المستوى الدولي فقد تقزم دور الدولة المصرية إقليميًا بشكل لافت، لتفقد حضورها وتأثيرها كلاعب محوري في العديد من الملفات الإقليمية التي كانت تعد محركها الأساسي، في فلسطين وليبيا والسودان وسوريا واليمن وإيران وغيرها.
- سياسيًا عانت مصر خلال العشرية الأخيرة من انسداد مطبق في أفقها السياسي، وإجهاض أحلام التعددية الحزبية، بعدما استعاد النظام تجربة الحزب الواحد، وإن كان بوجوه عدة، وغلق كافة النوافذ أمام نشوء معارضة حقيقية، ناهيك عن ترسيخ سياسة تكميم الأفواه والقضاء على ما تبقى من الحقوق والحريات، وإعلام استراتيجية الصوت الأوحد.
ومع اتساع البون الشاسع بين ما كان يؤمل به المصريون أنفسهم حين شاركوا في تظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013 وبين واقعهم المُعاش اليوم، وافتضاح حجم الخداع والوهم الذي تعرضوا له، ما عاد سرديات التفخيم والتهليل والتضخيم بشأن إنجازات دولة الثالث من يوليو/تمّوز تؤت ثمارها مع المواطن المصري المطحون، بعدما فقدت بريقها على أعتاب الواقع المرّ، وعليه ارتأى النظام أن الحل الأمثل والبديل الناجع إنما في استدعاء سرديات الترهيب مجددًا.. فهل لا تزال تحتفظ بذات البريق القديم؟