لم تكن حادثة فتيات الطريق الإقليمي بالمنوفية هي الأولى من نوعها، وللأسف لم تكن الأخيرة، فبينما كان وزير النقل والصناعة، كامل الوزير، يتفقد الطريق في أعقاب الحادثة، حدثت أخرى على الهواء مباشرة. وبعد أسبوع من تلك الجولة التفقدية التي شهدت ذروة التبجح والاستخفاف بحياة المصري في الجمهورية الجديدة، جاءت حادثة أخرى على نفس الطريق راح ضحيتها 9 مواطنين بخلاف المصابين.
أخيرًا، تدخّل رئيس الجمهورية الذي بدا وكأنه يكترث لتلك الحيوات التي تذهب سُدى، والجثث التي تُلقى على الأرصفة والأسفلت وكأنها باتت مشهدًا عاديًا على طريق الموت هذا، ووجّه بغلق الطريق في المناطق التي تشهد أعمال الصيانة ورفع الكفاءة.
يُعدّ ذلك الطريق واحدًا من الأشياء التي يحلو للرئيس أن يُباهي بها في جمهوريته الجديدة، حيث يبلغ طوله 365 كم يربط بين محافظات الدلتا والصعيد والقاهرة الكبرى، كواحد من أهم الطرق التي تخدم على البنية التحتية التي أُنفِق على سبيل تحقيقها مليارات من الدولارات أدخلت مصر في دوامة من الديون والقروض.
لكن على كل حال، يمكن المجادلة بأن حوادث الطرق ليست خصوصية مصرية، وهو أمر نسبة حدوثه واردة في أغلب دول العالم. وفي الواقع، سجلت مصر انخفاضًا في حوادث الطرق سنة 2024 بنسبة 10% عن العام الذي قبله، ولكن هناك مدلولًا آخر يختبئ وراء تلك الأرقام؛ فبين 68 ألف شخص توفوا بسبب حوادث الطرق في العقد الأخير في مصر، كانت هناك ظاهرة لافتة ودائمًا ما تتكرر: أطفال يموتون من أجل لقمة العيش، في الوقت الذي من المفترض أنهم يقضون أوقاتهم إن لم يكن في اللعب ففي الدراسة.
فما الذي دفعهم إلى الموت بدلًا من السير في دروب الحياة في المدرسة من مرحلة إلى أخرى كغيرهم من الأطفال؟ وما الذي جعل 19 فتاة في عمر الطفولة يمتن من أجل 130 جنيهًا كأجرة عن يومية عملهن؟ تلك الحفنة من الجنيهات التي لا تساوي فعليًا أكثر من ثلاثة دولارات، وبالكاد يمكنها أن تدفع ثمن حصة من حصص التقوية والدروس الخصوصية أو تشتري كتابًا خارجيًا من أجل المذاكرة والتعلم؟.
لقد كان الفقر واحدًا من الأسباب المتسببة على الدوام في مصر في التسرب من التعليم إلى العمل في سن الطفولة، أو هناك من الأطفال من يختار الكفاح أو يُفرض عليه بأن يعمل إلى جانب تعليمه.
في السنوات العشر الأخيرة، التي أصبحت فيها مصر “جمهورية جديدة” تحت حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، أُضيفت العديد من المقدمات إلى تلك الدائرة المغلقة من أسباب تؤدي إلى نتائج، لحكومته الكثير من الأيادي السوداء فيها، إذ إن نسبة الإنفاق على التعليم الحكومي الدستورية المحددة بـ6% من الموازنة العامة للدولة، لم تُستوفَ أبدًا حتى إلى نصفها، بل ظلت تنخفض سنة بعد أخرى خلال سنوات حكم الرئيس، حتى وصلت إلى 230 مليار جنيه عام 2023، في الوقت الذي كان يتوجب أن تصل فيه إلى 710 مليارات جنيه.
إلى جانب ذلك، زادت نسبة الفقر في مصر بسبب مشاكل الديون والتضخم. وبشأن هذه القضية، لم يصدر الإحصاء الرسمي للدولة أي تقرير جديد منذ عام 2020، إلا أن تقريرًا للبنك الدولي عام 2024 أشار إلى أن معدل الفقر الوطني في مصر وصل إلى 33.5% في عام 2022، والمدلول الأهم في ذلك التقرير أن 66% من الفقراء في مصر يعيشون في الريف، وهو الريف ذاته الذي تنتشر فيه عمالة الأطفال، وحوادث الطرق التي تحصد أرواحهم.
عمالة هشة وأيادي رخيصة
يُعد موقع “مزايا” أشهر مكان لبيع العطور في مصر، وقد يصل سعر أغلى قارورة عطر تُعرض هناك إلى 35 ألف جنيه، أي أكثر من 500 دولار. وفي مصر، يوجد بالفعل ملايين من المستهلكين القادرين على شراء قارورة عطر بهذا السعر، ولهذا يمتلك ذلك البراند أكثر من 25 متجرًا في أنحاء الجمهورية، وما زال يتمدد وينتشر، إلا أن وجود هؤلاء الملايين القادرين على إحياء تلك الصناعة، يقابلهم في الواقع عشرات الملايين الذين لا يحلمون بزيارة ذلك المكان من الأساس، لأن أولوياتهم لم تتخطَّ توفير قوت اليوم إلى شراء قارورة عطر.
لماذا تُعد قارورة العطر مرآة تعكس التفاوت الطبقي في الجمهورية الجديدة؟ كانت تلك الزاوية من اختيار قناة “بي بي سي”، التي أنتجت تقريرها الوثائقي عام 2024 عن عمالة الأطفال في مصر، في الريف، الذين يعملون في جمع زهرة “الياسمين” من أجل توفيرها كمادة خام لأكبر شركات العطور في العالم، وتُعد زهرة الياسمين عمومًا ذات شهرة كبيرة في مجال العطور، لأن مصريّتها دليل على جودتها وحُسنها.
يُعد العمل في جمع الياسمين موسميًا وليس دائمًا، ولا تعد ظروفه سهلة على الإطلاق، فهو يتطلب العمل في جنح الليل من أجل قطفه مبكرًا لأسباب تتعلق بنضوج الزهرة قبل تخزينها، ومن أجل تلك العملية، نرى في الفيلم أن الكثير من الأطفال يخرجون من أجل أقل من دولار واحد في اليوم لقطف الياسمين وبيعه إلى تاجر يقوم ببيعه إلى الشركات الكبرى، وكل هذا في حلٍّ من أي قانون ينظّم العمل أو يحمي هؤلاء الأطفال، بل إنها حالة كاملة من مخالفة القانون الذي يُجرّم عمل الأطفال من الأساس.
وإن كان حظ هؤلاء الفتيات الأطفال سعيدًا، فلن يمتن في حادثة أو في معدية، وربما تعيش إحداهن بمرض أو إصابة نتيجة عملية القطف، ولكن ذلك الحظ لن يحالف الجميع.
في حادثة “معدية القناطر” سنة 2022، كانت حياة الطفل آنذاك تساوي 50 جنيهًا، أقل من ثلاثة دولارات أيضًا بحساب فارق العملة بين الآن وآنذاك، وآنذاك ركزت التغطية على أن أزمة تلك الحادثة سببها عبور معبر غير قانوني قامت به سيارة “ربع نقل” تنقل 23 طفلًا، 13 صبيًا و10 فتيات، كانوا عائدين من العمل في أحد مزارع الدواجن التي تعطيهم أجرة يومية قدرها 50 جنيهًا، جراء جمعهم بيض الدجاج، وقد تعرضت السيارة للغرق في النيل، حيث مات سبعة أفراد، وظلت جثثهم مختفية في النيل ولم يظهر آخرها إلا بعد ثمانية أيام من الحادثة.
وفي أعقاب تلك الحادثة، في شهر أبريل/نيسان من نفس العام، ابتلعت قناة للريّ في محافظة البحيرة جثث ثمانية أطفال تتراوح أعمارهم بين 12 و15 عامًا ماتوا غرقًا، حين انقلبت بهم عربة “تروسيكل” داخل إحدى قنوات الريّ في طريقهم للمنزل بعد يوم عمل لتناول سحور رمضان، حيث كانوا يعملون في جمع البطاطس أيضًا من أجل 50 جنيهًا أو أقل.
وبالإضافة إلى مشكلة عمالة الأطفال في تلك القضايا المذكورة آنفًا، تتجلى مشكلة أخرى لا ينهض أي مسؤول لحلها، وهي مشكلة عمال التراحيل والعمالة غير المنتظمة في مصر بشكل عام، رغم أن المادة 76 من قانون العمل المصري الجديد تنص على أن تتولى الوزارة المختصة هذه المشكلة وحل ما علق بها، من خلال إنشاء أجهزة لإحصاء عدد العمال وتصنيفهم وتسجيلهم من أجل حل مشكلة التأمينات، وإنشاء صندوق لإعانات الطوارئ يتولى شؤونهم الاجتماعية ومشكلاتها.
الفتيات.. ضحايا اعتيادون
تنعكس مأساة تلك الحوادث على الفئة الأكثر هشاشة في المجتمع المصري، فئة الإناث، حيث نلحظ كثيرًا انتشارًا للضحايا من النساء، آخرهن ما حدث في حادثة “قرية السنابسة” في المنوفية، التي راح ضحيتها 19 فتاة في سن الدراسة ومعظمهن من الأطفال، لكن تلك الحادثة لم تكن الأولى من نوعها التي يروح ضحيتها الكثير من الإناث، بل تبدو كأنها نتاج نمط متكرر دائمًا.
في أحد أيام مايو/أيار 2024، وبعد انتهاء امتحانات الشهادة الإعدادية في مصر، خرجت مجموعة من الفتيات في سن الخامسة عشرة تقريبًا مع امرأة كبيرة في السن، في روتين يومي اعتدنه، فبعدما تنتهي الامتحانات، تستوعب شركات التصدير الزراعية الفتيات الساعيات إلى العمل في الإجازة من أجل مساعدة أهاليهن ماديًا، ومساعدة أنفسهن كذلك، وبالنسبة للشركات، تعد تلك الفئة صيدًا ثمينًا، عمالة رخيصة في ظروف هشة ودون أية التزامات تعاقدية.
ربما كان ليسير اليوم ككل يوم، في الظل بعيدًا عن أنظار الحكومة وقوانينها التي تجرّم عمالة الأطفال دون سن 14، وبعد سن 14 وفقًا لضوابط شديدة، وتواطؤها في الوقت ذاته؛ فعمالة الأطفال هي حل مؤقت لمكافحة الفقر الذي لا تني سياسات الحكومة عن التسبب في استفحاله، لكن “معدية أبو غالب” شهدت غرق ميكروباص كان يتجه بالفتيات إلى عملهن، ليحتضن النيل جثث 17 طفلة نتيجة ذلك الحادث.
في الفترة من 21 يناير/كانون الثاني حتى 23 أبريل/نيسان من عام 2025، وقع 25 حادثًا أغلبها في الصعيد والدلتا، نتج عنها 305 مصابين ومصابات، من بينهم 81 قاصرًا تحت السن القانوني، و44 حالة وفاة، ضمنهم 12 قاصرًا.
إن تلك الحادثة وثيقة أخرى تساعد في قراءة ظاهرة “الموت على الأسفلت” في السنوات الأخيرة، لكن ملابساتها وما جرياتها لها مدلول وتعبير أهم، فلقد انصرفت التغطية الإعلامية للحديث عن إهمال السائق وبلطجته، حيث تشاجر مع أحد الأشخاص تاركًا الميكروباص دون تأمين، ما أدى إلى سقوطه في النهر، كذلك محاضر التحقيقات التي يمكن الوصول إليها بسهولة من محركات البحث، ركّزت على تفاصيل تتعلق بالحادثة ومكانها وصيانة المعدية وخلافه.
هناك دائمًا مجهول معلوم لا يهتم أحد بالسؤال عنه، حيث تضم القضية 5 متهمين رئيسيين: سائق الميكروباص، وعاملا المعدية، ومالكها، ورئيس مركز ومدينة منشأة القناطر. من هو المتهم الغائب في تلك القضية؟ تصلح وزارة القوى العاملة المصرية أن تكون متهمًا في هذه القضية، وكذلك شركة التصدير الزراعية التي عملت لصالحها الفتيات، لكن لا تغطية إعلامية توجه اتهامًا إلى تلك الجهات أو تتعرض لمسألة عمالة الأطفال والعمالة الهشة غير المقننة وغير المؤمن عليها. بل لا يسأل أحد من الأساس ما الذي أجبر هؤلاء الفتيات على العمل في إجازتهن من الدراسة أصلًا؟
إن إجابة مثل هذا السؤال بإمكانها أن تدين سياسات الحكومة الممنهجة على مدار عقد من الزمن في إفقار المصريين، خاصة في أقاصي مصر في صعيدها وريفها، لذا ما تتبعه تغطيات الصحف والتلفزيون التي تتابع مثل تلك القضايا هو صرف الأنظار عن جوهر المسألة الرئيسي، ويصبح تكرارها بمثابة أخطاء بشرية لا يمكن مصادرتها، مثل تلك التي قال عنها وزير النقل والصناعة كامل الوزير في معرض دفاعه عن نفسه في حادثة فتيات المنوفية: “إن السبب في تلك الحوادث ومثيلاتها سائق يتعاطى المخدرات مثلًا، فماذا بإمكاني أن أفعل لمنع ذلك؟”.
لا تندرج تلك الحوادث، التي يروح ضحيتها أطفال يعملون في سن التعليم، تحت بند الاستثناء، فتلك الحوادث شهدت تكرارًا في السنوات الثلاث الأخيرة فقط أكثر من مرة، وبشكل فادح لا يأتي على شكل فردي، بل سيارات بأكملها كانت تنقل أنفارًا للعمل من مكان لآخر.
ووفقًا لتقرير أعدته مؤسسة “المرأة الجديدة”، في الفترة من 21 يناير/كانون الثاني حتى 23 أبريل/نيسان من عام 2025، وقع 25 حادثًا أغلبها في الصعيد والدلتا، نتج عنها 305 مصابين ومصابات، من بينهم 81 قاصرًا تحت السن القانوني، و44 حالة وفاة، ضمنهم 12 قاصرًا.
إن كانت تلك الحوادث نتيجة لنمط معين يمكن من خلاله قراءة الواقع المصري، فهذا النمط لن يكون كما تدعيه الحكومة من أخطاء بشرية تتمثل في المخدرات أو الإهمال، أو في أقصى أحوال النقد الذاتي الذي توجهه إلى نفسها: فقدان المال الكافي لصيانة الطرق المشيدة حديثًا، كما ادعى وزير النقل أنه في حاجة إلى 50 مليار جنيه من أجل تجديد طريق تكلفته فقط 5 مليارات.
إن النمط المتكرر هنا هو مأساة واحدة تتكرر بتفاصيلها، السمة الأكبر فيها أنها دومًا ما تحدث في ريف أو صعيد مصر، والسمة الثانية أن عدد الأطفال الذين يروحون ضحية لذلك النوع من الحوادث هو عدد لا يبدو مقبولًا على الإطلاق في دولة تدّعي أنها تنهض بعملية التعليم وتقضي على التسرب من الدراسة وتكافح الفقر.
والسمة الثالثة بلا شك هي الضحايا الكثيرون من النساء، في دولة كثيرًا ما تخصص عامًا للمرأة، ونظام يدّعي أن مهمته هي تمكين المرأة المصرية والانتصار لحقوقها، ويكرر ذلك باستمرار في الإعلام والصحافة والمسلسلات والأفلام.