“حالتي لا تشبه حالة أي إنسان، وأنا لا أريدها أن يشبهه، بحسب ما فهمته وما شعرت به، فأنا على الطريق الصحيح”.. هكذا وصف عبد الله أوجلان حياته في سجنه بجزيرة “إمرالي” في بحر مرمرة عام 2004، وهو إن كان محقًا بالشق الأول غير أننا لا نستطيع القول الشيء ذاته عن الشق الآخر، فهو كان المسؤول عن إزهاق آلاف الأرواح الأبرياء بحجة “إقامة دولة كردستان الكبرى”.
حلمه بتحقيق العدالة للمجتمع الكردي، الذي كان يعيش كأقلية مضطهدة، ساقه ورفاقه إلى تأسيس حزب العمال الكردستاني، الذي سرعان ما انتمى إليه طيف واسع من الأكراد الطامحين إلى الهدف ذاته، غير أن الحزب، بقيادة أوجلان، اختار مسارًا مغايرًا لسائر الحركات الكردية، إذ كان الكفاح المسلّح وسيلته الأولى لتحقيق هذه الغاية.
ولفترة طويلة، تحوَّل الحزب إلى العنوان الأبرز لإحدى أكثر المراحل دموية في تاريخ تركيا؛ إذ خاض مواجهة شرسة مع الدولة التركية، وبالرغم من اعتقال أوجلان، واصل إدارة الحزب من وراء القضبان، مُبقيًا تهديده للدولة حيًّا.
نستعيد رواية أوجلان عن ذاته، ونفكّك محطات حياته التي قادته إلى وضعه الاستثنائي، ونتتبّع أبرز تحوّلات مواقفه ورحلته في تشكيل رؤيته التي بدأت بتأسيس حزب العمال الكردستاني وانتهت بالدعوة إلى حله وتسليم سلاحه.
رحلة البحث عن الهوية
في بيئة سمتها الرئيسية الفقر، وُلد أوجلان في 4 نيسان/أبريل 1948 بقرية أومرلي التابعة لقضاء خلفتي في ولاية شانلي أورفا جنوب شرق تركيا، لأسرة مزارعة، وهو الابن الثالث لعمر أوجلان، ووالدته أوڤييش أوجلان الذين لديهما 9 أطفال.
أنهى أوجلان مرحلة الابتدائية بقرية جبين المجاورة لقريته عمرلي، وانتقل في خريف 1963 إلى المدرسة الإعدادية في منطقة نيزيب بمدينة غازي عنتاب، حيث تعيش أخته حواء مع زوجها، في أقصى جنوب تركيا، وهناك درس ثلاث سنوات.
ساهمت البيئة القاسية والحرمان الواسع الذي عاشه بطفولته في تشكيل شخصيته المكافحة، كما أسهمت والدته ذات الطبع الصدامي في صياغة نزعة الانتقام لديه؛ إذ كانت تُعرف بأنها حادة من الطراز الأولى، ويُروى أنّه نفّذ أولَ فعلٍ عنيف في طفولته بتشجيعٍ منها أثناء شجارٍ مع أقرانه.
يلخص ذلك بنفسه في هذه الأقوال: “قلت لأمي: لقد اقترفت ذنبًا عظيمًا حين أنجبتني إلى هذا العالم، إن كنت عاجزة عن أن تقدمي للطفل شيئًا، أو تربيه تربية صادقة، أو تؤمني له مالًا، أو تضمني له نموًّا سليمًا، فكيف لك أن تقفي أمامي أمًّا؟ واجهتها، واتخذتُ منذ طفولتي قرار أن أحيا وحدي، لكن حياة تُنتزع عبر نضال كبير”.

تأثر أوجلان بالضربة العسكرية عام 1960، فربط القوة بالعسكرة منذ الطفولة، ما شجعه على التقديم لامتحانات الثانوية العسكرية، لكنه لم ينجح فيها لتتحوّل إلى عقدة رافقته طوال حياته، ثم التحق في عام 1966 بالثانوية المهنية “الأناضول للسجل العقاري” في أنقرة، التي شهدت بداية تشكّل أفكاره وتشربه من إيديولوجيات مختلفة، كونها كانت انتقالًا من حياة الريف إلى المدينة، وكانت اهتماماته تتمحور حول الاشتراكية والقومية المحافظة.
ومع نهاية المرحلة الثانوية، حسم أوجلان خياره الأيديولوجي لصالح الاشتراكية، بعد قراءته لكتاب “الأبجدية الاشتراكية” لمؤلفه الصحفي الأميركي ليو هوبرمان، قائلًا: “محمّد خسر، وماركس انتصر”.
بعد تخرّجه من الثانوية، عمل في ديار بكر بوصفه فنيًا في دائرة الطابو والمساحة، بينما كان يحضر لامتحانات القبول الجامعي، وفي العام نفسه قُبل في كلية الحقوق بجامعة إسطنبول وانتقل إلى هناك، لكنه اكتشف أنّ مقاعد كلية الحقوق لا تلبي طموحه، فبعد أن نال الدرجة التي تتيح له تغيير اختصاصه، انتقل في خريف 1971 إلى جامعة أنقرة ليدرس العلوم السياسية.
اليسار التركي.. باكورة النشاط السياسي
في ذروة الاستقطاب بين اليمين واليسار في تركيا، لم يكن انحياز عبد الله أوجلان إلى اليسار مجرد ميول عابرة، بل تجلّى في انخراطه المباشر في الأنشطة اليسارية، سواء في الأوساط الكردية أو التركية.
بدأت ميول أوجلان اليسارية تتبلور خلال دراسته في كلية الحقوق بإسطنبول، حيث تأثر بأنشطة تنظيم “ديف-جنش” داخل الجامعة، وتابع في الوقت نفسه عن كثب نشاط “جمعيات الثقافة الثورية للشرق” (DDKO)، التي كانت قد انفصلت عن التيارات اليسارية التركية الرئيسية، وازداد حضورها وتأثيرها في تلك المرحلة.
تأثّر أوجلان بشدة بماهر تشايان، زعيم “جبهة حزب التحرير الشعبي في تركيا”، الذي عُرف بدعمه العلني للقضية الكردية وبمقولته الشهيرة: “لا يمكن طمس القضية الكردية”، وقد ترك مقتله في اشتباك كِزِلدره في 30 مارس/آذار 1972 أثرًا عميقًا في وجدان أوجلان، خاصة وأنه تزامن مع سلسلة من الأحداث الصادمة، أبرزها إعدام قادة حركة الشباب الاشتراكي الثلاثة دنيز غَزْمِش، ويوسف أصلان، وحسين إنان، في 6 مايو/أيار من العام نفسه.
وفي أول تحرّك ميداني له، قاد أوجلان مظاهرات احتجاجية على اغتيال تشايان، ما أسفر عن اعتقاله في 7 نيسان/أبريل، ليُزجّ به في السجن العسكري بماماك في أنقرة، حيث أمضى ستة أشهر قبل أن يُفرج عنه.
بعد خروجه من السجن، بدأت الأنظار داخل الحركة الطلابية الثورية تتجه نحو أوجلان، إذ شكّل غياب قادة تلك الحركة، بعد اغتيالهم، فراغًا قياديًا سرعان ما ملأه، غير أن أوجلان سرعان ما فقد إيمانه بقدرة هذه الحركة على النهوض مجددًا، خاصة مع استمرار اليسار التركي في تأجيل طرح القضية الكردية ومشكلات المجتمع إلى “ما بعد الثورة”.
ورغم انخراطه المبكر في الدفاع عن القضية الكردية، إلا أن أوجلان كان أقرب إلى اليسار التركي منه إلى منظمات اليسار الكردي، التي وجد أنها لم تعد تعبّر عن طموحاته، إذ انتقد توجهات “جمعيات الثقافة الثورية للشرق” (DDKO)، واعتبر أن “القومية الكردية التي كانوا يروّجونها بدت لي بلا معنى”، لكونها ذات طابع طبقي، تهيمن عليها نخب من الطبقة الحاكمة.
كما أشار إلى أن مفهومه العميق لـ”المسألة الكردية” قوبل بالتشكيك من قبل أعضاء الـDDKO، الذين اختزلوها في مطالب خدمية تتعلق بالبنى التحتية، ورأوا أن الحديث عن حق تقرير المصير سابق لأوانه، ما دفعه إلى التفكير جديًا في تأسيس تنظيم سياسي جديد يُجسّد طموحه التحرري.
أوجلان يجد ضالته.. ولادة حزب العمال الكردستاني
وُلدت فكرة تأسيس “حزب العمال الكردستاني” في نفس أوجلان بعد خروجه من السجن، لكنها احتاجت إلى مرحلة من الإعداد والتخطيط، وخلال تلك الفترة التأسيسية، بدأ أوجلان بتكوين صداقات جديدة، فتعرّف على النواة الأولى لكادر الحزب، والتقى بكل من كمال بابر وحقي قرار، اللذين أصبحا لاحقًا من أبرز المؤسسين.
ما جمع أوجلان بهؤلاء الرفاق لم تكن القضية الكردية وحدها، بل كان معظمهم يعاني من غربة داخل التنظيمات اليسارية القائمة، إما لأنهم لم يجدوا لأنفسهم مكانًا، أو عجزوا عن التعبير عن آرائهم، أو لم يستطيعوا إثبات حضورهم أمام الطلبة البارزين، وهي حالة تشبه، من حيث الجوهر، ما كان يعيشه أوجلان
ستة أشهر فقط كانت كفيلة بجمع هؤلاء المؤسسين، وعقد أول اجتماع طُرحت فيه فكرة تأسيس الحزب، في ما عُرف لاحقًا في أدبيات الحزب بمرحلة “محاولة خلق المجموعة”، وهي الفترة التي امتدت من الإفراج عن أوجلان حتى اجتماع سدّ تشوبوك في نيسان/أبريل 1973.

ولم يكن ذلك الاجتماع مجرد انطلاقة تنظيمية، بل مثّل، في نظر أوجلان، ميلاده الثاني، كما وصفه جميل بايك، أحد أبرز قيادات الحزب، بأنه “الولادة الثانية لأوجلان، التي جعلته والحزب كيانًا واحدًا منذ اللحظة الأولى”.
بعد تشكّل المجموعة وانعقاد عدد من الاجتماعات، أُعلن في عام 1975 عن مسودة برنامج الحزب، الذي تبنّى الأيديولوجية الماركسية-اللينينية كمرجعية أساسية للتحرر الوطني الكردي، وقد شكّلت هذه المسودة لاحقًا الأساس الذي بُني عليه “بيان طريق ثورة كردستان” الصادر عن حزب العمال الكردستاني عام 1978، والذي يُعد بمثابة المانيفستو الرسمي للحزب.
ورغم أن أوجلان لم يكن قد انتُخب بعد كقائد رسمي، إلا أن المجموعة التأسيسية اشتهرت باسم “الأبوجية” (Apocular)، نسبة إلى لقبه “آبو” الذي يعني “العم” بالكردية، في دلالة مبكرة على أن التنظيم تشكّل وتمحور حول شخصه منذ لحظاته الأولى.
كان أوجلان يأمل أن يتم الإعلان عن تأسيس الحزب في ظروف أكثر استقرارًا، إلا أن الواقع فرض مسارًا مغايرًا، فبين توترات داخلية واغتيال اثنين من أبرز كوادر التنظيم، حقي قرار وخليل جاوجون، عُقد المؤتمر التأسيسي الأول لحزب العمال الكردستاني (PKK) في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1978، في قرية فس التابعة لولاية ديار بكر، وانتُخب أوجلان أمينًا عامًا للحزب.
وفي كتابه “طريق ثورة كردستان – المانيفستو”، يستعرض أوجلان جملة القرارات التي أُقرّت خلال المؤتمر الأول، والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي:
- الهدف المركزي والأساسي: إقامة “كردستان مستقلّة وموحّدة”.
- تحقيق الهدف المركزي يمرّ عبر “ثورة كردستان” التي لا يمكن أن تقام إلّا بتطبيق الفكر الماركسي-اللينيني.
- اشترط الحزب تبني “دور القوة” أو ما اسماه بـ”العنف الثوري” كمنهجيّة أساسيّة لإقامة “ثورة كردستان”، وعُرّفت هذه القوّة بوصفها “عنفًا ثوريًّا تقدّميًّا”، بهدف إضفاء شرعيّة أيديولوجيّة على استخدام السلاح.
- اُعتمد الكفاح المسلّح داخل الحزب استنادًا إلى استراتيجيّة “حرب الشعب طويلة الأمد”ا لمُطبَّقة في فيتنام، الصين، أنغولا، وأميركا اللاتينيّة. وفي السياق التركي، اعتمد استراتيجيّة “الحرب العسكريّة المُسيَّسة” (PASS) التي طرحها ماهر تشايان ورفاقه.
- بُني الهيكل التنظيمي للحزب على ثلاثيّة مألوفة في الحركات اليساريّة: الحزب- الجبهة – الجيش.
على الضفة الأخرى، وبينما كان يُعلَن رسميًا عن تأسيس الحزب، كانت الشرطة التركية تشنّ حملة اعتقالات استهدفت أبرز كوادره، في وقتٍ كان الحزب يواجه فيه توترات متصاعدة مع تنظيمات كردية أخرى، إلى جانب احتكاكات مع بعض العشائر الكردية.
ورغم هذا المناخ المضطرب، لم يتردد أوجلان في الشروع بالأنشطة المسلحة التي نصّ عليها البرنامج التأسيسي، فشنّ أول هجوم ضد عشيرة “بوجاك” الكردية، لتبدأ بذلك مرحلة الصراع المفتوح بين الحزب وبعض العشائر الكردية.
لكن ما لبث أن برز مأزق أشدّ خطورة، تمثّل في اعتقال شاهين دونماز عام 1979، وهو أحد كوادر الحزب، إذ أدّت اعترافاته إلى الكشف عن معلومات حساسة ضربت بنية التنظيم في العمق، وعندها أدرك أوجلان أن البقاء داخل تركيا لم يعد ممكنًا، وأن مواصلة مشروع الحزب تتطلب الانتقال إلى خارج البلاد والانطلاق من هناك.
سوريا.. منفى أوجلان ومهد ولادة حزبه
شكّلت مغادرة أوجلان إلى سوريا قبل أيام فقط من الانقلاب العسكري الذي نفّذه الجنرال كنعان إيفرن عام 1980 ضد حكومة سليمان ديميرال، نقطة تحوّل مفصلية في مسار حزب العمال الكردستاني، فبينما توقفت معظم الحركات الكردية عن النشاط، تمكّن الحزب من مواصلة مشروعه، معتمدًا على ملاذه الجديد في سوريا.
امتدت السنوات بين 1979 و1984 لتشكّل ما يشبه “حاضنة” لعملية بناء الحزب وتشكيل قاعدته الصلبة؛ فمن جهة، ركّز الحزب على إعداد الصراع طويل الأمد عبر إنشاء برامج للتدريب المسلّح في وادي البقاع اللبناني، الخاضع حينها للنفوذ السوري، كما أولى أهمية للدعاية وتشكيل مجموعات منظمة تتسلّل إلى الداخل التركي عبر الحدود، سواء من سوريا أو العراق.
ومن جهة أخرى، بدأ الحزب في نسج علاقات خارجية وفتح قنوات اتصال مع عدد من الدول، في محاولة لتوسيع دائرة حضوره السياسي والإقليمي.

ومع انعقاد المؤتمر الثالث للحزب، ترسّخت هيمنة أوجلان على بنيته التنظيمية، وشكّل المؤتمر محطة فارقة، شهدت سلسلة من الانشقاقات والتكتلات الداخلية، إلى جانب سخط واسع في أوساط كوادر السجون من سياسات أوجلان ونزعته السلطوية، وقد وصف بعض الخبراء هذا المؤتمر بأنه كان أقرب إلى مؤتمر “للتصفية والمراجعة” داخل الحزب.
ترجم الحزب مبادئه التي اعتمدت على الكفاح المسلح، رسميًا في 15 أغسطس/ آب 1984، حيث شن هجمات مسلحة على مراكز أمنية تركية في مدينتي سيرت وهكاري، أسفرت عن مقتل عدة جنود أتراك، ردّت عليها أنقرة بحملة عسكرية واسعة دخلت معها تركيا في حرب دامية ضد حزب أوجلان.
شكلت الثمانينات والتسعينات ذروة المواجهات التي تضمنت انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، تورط فيها الطرفان على حد سواء، حيث ارتكبت عناصر حزب العمال الكردستاني مجازر في قرى وبلدات معينة جنوب شرق تركيا بهدف ترسيخ ثقافة الطاعة القائمة على الخوف.
أيقنت الحكومة التركية أنها أمام امتحان من نوع مختلف، فأنشأت ما يسمّى بـ”حراس القرى” عام 1985، بهدف التصدي لهجمات حزب العمال الكردستاني وتعزيز دفاع القرى ضد هجمات العناصر، لكنها اتُهمت لاحقًا بتنفيذ انتهاكات بحق المدنيين الأكراد المتهمين بدعم الحزب.
مرحلة المفاوضات
رغم هيمنة الخيار العسكري، شهد الصراع بين تركيا وحزب أوجلان محطات تفاوضية وسياسية مهمة، ففي ظل استنزاف التسعينيات، ظهرت بوادر أولية للحوار عندما أعلن أوجلان وقفًا أحاديًا لإطلاق النار عام 1993 تلبية لجهود الرئيس التركي آنذاك تورغوت أوزال الإصلاحية، لكن تلك المبادرة انهارت سريعًا بعد وفاة أوزال وتجدد القتال.

بعد اعتقال أوجلان والحكم عليه بالإعدام، زادت فرص السلام خاصة بعدما دخل الحزب مرحلة من الضياع والتشتت باعتقال قيادته المركزية، ليعلن أوجلان وقف إطلاق من جانب واحد عام 1999 استمر حتى 2004، انتقل خلاله العديد من مقاتلي الحزب إلى جبال شمال العراق، كما سعى التنظيم إلى إعادة تشكيل نفسه سياسيًا، فأسس ما سماه مؤتمر الشعب (كونكرا-جيل) عام 2003 كواجهة سياسية مدنية.
انهارت الهدنة بعد استئناف الحزب القتال بزعمه أن الحكومة التركية تتجاهل المطالب الكردية، لكن لم تتوقف محاولات الوصول إلى حل سياسي بين الطرفين، حيث كشفت أنقرة عن مفاوضات سرية جرت مع قيادات الحزب في أوسلو خلال 2009–2011، لكنها فشلت قبل أن تثمر عن اتفاق نهائي آنذاك.
مع ذلك، مهّد هذا المسار السري لانطلاق عملية سلام هي الأولى بينهما عام 2013 عُرفت باسم “مرحلة الحل” أو “مسيرة السلام الكردية”، وتُوّجت الجهود برسالة تاريخية من أوجلان إلى الشعب الكردي خلال احتفال نوروز في دياربكر في 21 آذار/مارس 2013، دعا فيها مقاتلي الحزب إلى وقف القتال والانسحاب من الأراضي التركية. وقال أوجلان في رسالته الشهيرة: “وصلنا إلى مرحلة يجب أن تصمت فيها البنادق وتعلو لغة الفكر والسياسة”.
جاء هذا المسار السلمي ثمرة الصدمة التي مُني بها أوجلان بعد اعتقاله، إذ أعاد النظر في رؤيته الماركسية-اللينينية وحوّل خطابه من التحريض على الكفاح المسلّح إلى تقديم العمل السياسي والمدني، وفي عام 2005 أعلن أوجلان رسميّاً التخلي عن هدف إقامة دولة كردية مستقلة، متبنيًا بدلًا منها استراتيجية “الكونفدرالية الديمقراطية” لتحقيق الحقوق الكردية.
استمرت “عملية الحل” قرابة عامين وشكّلت بارقة أمل كبيرة لإنهاء الصراع، غير أن تلك الآمال انهارت في صيف 2015 مع وقوع سلسلة أحداث مفجعة، ففي تموز/يوليو 2015 قتل تنظيم “داعش” نحو 32 ناشطًا كرديًا في تفجير انتحاري بمدينة سروج الحدودية مع سوريا واتهمت الأوساط الكردية الدولة بالتقصير في حمايتهم.
ردًّا على ذلك، قام عناصر من الحزب باغتيال ضابطي شرطة تركيين زاعمين تورطهما بتسهيل هجوم سروج، أدى هذا الحادث إلى انهيار وقف إطلاق النار الهش وإعلان استئناف العمليات العسكرية.
هكذا، ظلّ ملفُّ التفاوض مُجمّدًا حتى أواخر 2024، حين فاجأ زعيم حزب الحركة القوميّة دولت بهجلي، المعروفُ بعدائه التاريخيّ لأوجلان، الرأي العام بإعلانه أنّه قد يوافق على إتاحة الفرصة لأوجلان، ليلقي كلمة أمام البرلمان التركي، بل والنظر في إطلاق سراحه، شرط أن يُعلن عن تفكيك الحزب وحلَّ بنيته العسكريّة كليًّا.
وبالفعل استجاب أوجلان للفرصة التي يبدو أنه كان ينتظرها، وفي 27 شباط/فبراير 2025 أصدر أوجلان بيانًا رسميًا من معتقله يدعو فيه حزب العمال الكردستاني إلى إلقاء السلاح معلنًا أن الكفاح المسلح قد استنفد غايته وعفا عليه الزمن، وفي 12 أيار/مايو 2025 صدر الإعلان الرسمي بأن الحزب يعتزم حل جناحه المسلح وتنظيماته، إيذانًا بإنهاء التمرد الذي استمر أربعة عقود.
أوجلان ونظام الأسد
استغلّ أوجلان أثناء وجوده في سوريا، التوترات القائمة بين دمشق وأنقرة على خلفية ملفات حساسة مثل مياه نهر الفرات ولواء إسكندرون، ليحصل من الرئيس السوري حافظ الأسد على كافة التسهيلات المتعلقة بالإقامة والحماية، مستفيدًا من رغبة دمشق في الضغط على تركيا من خلال ورقة حزب العمال الكردستاني.
ومع ذلك، لم يلتقه أي مسؤول سياسي سوري حتى عام 1992، حين اجتمع للمرة الأولى مع نائب الرئيس السوري آنذاك عبد الحليم خدّام، الذي التقاه لاحقًا عدة مرات في محاولة لإقناعه بالسير نحو تسوية سياسية مع تركيا، ضمن وساطة كانت ترعاها دمشق وتربطها بمحادثات مع نجم الدين أربكان، غير أن تلك المساعي انتهت بالفشل.

في عام 1998، وبعد 19 عامًا من احتضان سوريا لأوجلان وأنشطته التي كانت تُصنّف إرهابية، بلغ صبر أنقرة مداه، فبدأت تحشد قواتها على الحدود وتهدد بشن عملية عسكرية واسعة إن لم تسلّم دمشق أوجلان.
في ظل هذا التصعيد، تدخّل الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك كوسيط بين الرئيس السوري حافظ الأسد ونظيره التركي سليمان ديميريل، وتم التوصل إلى اتفاق يقضي بطرد أوجلان من سوريا بدلًا من تسليمه رسميًا إلى أنقرة، في اجتماع عُرف لاحقًا باسم “اتفاقية أضنة للتعاون الأمني”.
يستذكر نائب الرئيس السوري آنذاك، عبد الحليم خدّام، في مذكّراته آخر لقاء جمعه بأوجلان، حيث أبلغه بقرار مغادرته سوريا، قائلاً: “ودّعته وكانت الدمعة في عينيه”، مضيفًا: “في الوقت نفسه، كان الألم يعتصر نفسي، لأنه ليس من السهل أن تقول لإنسان: اخرج إلى الموت. وكنت واثقًا أن هذا اللقاء سيكون الأخير معه”.
لاحقًا، نعَى الحزب حافظ الأسد باسم أوجلان، وخصّص صفحات في صحفه لمدحه، كما رحّب بتنصيب ابنه بشار الأسد رئيسًا لسوريا، رغم أن النظام الأسدي لم يعترف يومًا بوجود شعب كردي داخل سوريا، بل عمد طيلة سنوات حكمه إلى تجريد عشرات الآلاف من الأكراد السوريين من الجنسية، وملاحقة النشطاء السياسيين والثقافيين الكرد.
ومع اندلاع الثورة السورية، تقاطعت مصالح حزب العمال الكردستاني مع نظام الأسد، الذي قدّم دعمًا مباشرًا لمسلحي “ي ب ك”، الذراع السوري للحزب، في مناطق القامشلي والدرباسية والمالكية، الواقعة قرب الحدود التركية، من خلال تزويدهم بالسلاح والذخيرة، فضلًا عن منحهم حصة من عائدات حقل رميلان النفطي. وفي 22 نيسان/أبريل 2011، كتب عبد الله أوجلان رسالة إلى بشار الأسد قال فيها: “أعطونا حكمًا ذاتيًا، وسندعمكم”.
هذا الموقف المزدوج من أوجلان يظهر دعم مشروط للأسد مقابل حقوق الأكراد، مع التلويح بالانضمام للثورة إن لم تتحقق المطالب لكن مع تقدم الثورة، بدأت قيادة الحزب تميل أكثر إلى الحذر تجاه الثورة السورية، مع تصاعد الدور الإسلامي فيها وخشية الأكراد من بديل قد تقوده تيارات إسلامية.

تجلى ذلك في تصريح أوجلان أثناء لقاءه بمحاميه بتاريخ 4 أيار/مايو 2011: “إذا جاءت منظمة الإخوان المسلمين إلى السلطة، فستقوم بمذابح ضدنا. لهذا السبب سنبني وحدات دفاع ذاتي شعبية… يمكن أن يتفاوضوا ويصلوا إلى حل مع الأسد على أساس ديمقراطي”.
لكن فعليًا، اتخذ أوجلان وحزبه موقفًا أقرب للحياد الإيجابي من نظام الأسد طوال السنوات الماضية، حيث لم يكن يمانع الحوار حتى الحصول على مكاسب، فوجه عام 2019 رسالة لقوات سوريا الديمقراطية التي تعتبره قائدها الفكري ورمزها الروحي، يدعوها فيها إلى “السعي لحلول في سوريا بأساليب أخرى غير الصراع” والتعامل بحساسية مع المخاوف التركية واحترام وحدة الأراضي السورية.
أما النظام السوري فهو الآخر كان داعمًا بالخفاء لحزب العمال الكردستاني، فبعد شهرين على بدء الثورة سمح لكوادرها بالعودة إلى سوريا، وفي منتصف عام 2012 قام بتوقيع اتفاق مع حزب الاتحاد الديمقراطي يقضي بتقاسم عائدات النفط وتأمين الحماية المشتركة لحقول رميلان الاستراتيجية.
كما لم يبدِ النظام السوري أيّ موقف معارض بإعلان تشكيل الإدارة الذاتية مطلع عام 2014، في مناطق شمال شرقي سوريا بل ساهمت سياساته في تمكينها، حيث أكدت دراسة بحثية أجراها مركز جسور للدراسات، أن قوات سوريا الديمقراطية حققت مكاسب سياسية وعسكرية على الأرض، مستفيدة من الدعم الذي تلقّته منذ عام 2011، من قبل نظام الأسد البائد وإيران.
كان هناك تقاطع مصالح واضح بين النظام الذي أراد تجنب صدام مع الأكراد لضبط الجبهة الشمالية وإزعاج تركيا، والأكراد الذين أرادوا الحفاظ على مكاسبهم وإدارتهم الوليدة وتحييد خطر النظام، وقد اعترف قياديون ضمنيًا بهذا الواقع، إذ صرّح باهوز أردال، القيادي البازر في حزب العمال الكردستاني، أواخر عام 2019 أن “على النظام أن يشكر وحدات حماية الشعب فلولاهم لسقط الأسد منذ 2012”.
من سوريا إلى وراء القضبان
بعد قراره بمغادرة سوريا، اختار أوجلان التوجه إلى اليونان، دون أن يدرك حينها أنه أصبح غير مرغوب فيه من قبل جميع الدول، وأن لا أحد لديه مصلحة في استضافته. كما أنه لم يكن يعلم أن أي دولة تستقبله ستواجه ضغوطًا دبلوماسية كبيرة، حيث سيؤدي ذلك إلى توتر علاقاتها مع تركيا.
كان القرار بشأن اعتقاله قد أُخذ والتنسيقات بين وكالة الاستخبارات الأمريكية CİA والاستخبارات التركية MİT” تجري على قدم وساق، حيث حاول أوجلان اللجوء إلى عدة دول، بدءًا من اليونان، ثم روسيا، إيطاليا، ثم روسيا مرة أخرى، ومن بعدها اليونان وكينيا. ومع ذلك، نتيجةً للتنسيق بين تركيا والولايات المتحدة في تلك الفترة، لم تقبل أي دولة باستضافته.
وفي 15 فبراير شباط 1999، وأثناء توجهه من السفارة اليونانية إلى مطار نيروبي الدولي، اعتقلت الاستخبارات التركية، أوجلان في العاصمة الكينية نيروبي، وبعد وصوله إلى تركيا، سُجن في جزيرة إمرالي في بحر مرمرة.

وأقرت المحكمة 29 يونيو حزيران 1999، قرارًا يقضي بإعدامه لكن بعد واجه القرار انتقادات من محكمة حقوق الإنسان الأوروبية ونظم أنصار أوجلان مظاهرات واسعة في تركيا وأوروبا ضد القرار وعلى إثر هذه الضغوط، خففت أنقرة الحكم في 2002 إلى السجن المؤبد.
العراق.. معقل الحزب وساحة صراع رئيسية
منذ البداية، لم يكن طموح عبد الله أوجلان محصورًا في قيادة أكراد تركيا فحسب، بل كان مشروعه أوسع بكثير، إذ لم يكتفِ بمعسكرات التدريب التي أنشأها في سوريا، ففي عام 1982، التقى بمسعود بارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP)، وتوصلا إلى اتفاق يتيح لحزب العمال الكردستاني إقامة معسكرات في شمال العراق، وهي خطوة أساسية أسهمت في تعزيز القدرات العسكرية والتنظيمية للحزب.
لاحقًا، استغل أوجلان حالة الفوضى التي أعقبت حرب الخليج عام 1991، والتي أضعفت سلطة الحكومة العراقية وعزّزت نفوذ الأكراد في شمال العراق، ما أتاح لحزبه فرصة ذهبية لترسيخ وجوده في المنطقة.
وبعد طرده من سوريا، بات العراق وتحديدًا جبال قنديل الخيار الأنسب لتمركز الحزب، حيث استقرّت قيادته ونشرت قواته في تلك المنطقة الجبلية الوعرة، مستفيدة من تضاريسها التي توفّر غطاءً طبيعيًا للتمركز والتسلل، وتشكّل درعًا ضد الهجمات العسكرية.

وبينما رحّب بارزاني في البداية بتأسيس حزب العمال الكردستاني وبتعاونه مع أوجلان، إلا أن العلاقات بين الطرفين سرعان ما بدأت تتدهور، مع تزايد مخاوف بارزاني من تمدد نفوذ الحزب خارج حدوده التنظيمية وتحوّله إلى قوة موازية تهدد توازن القوى في شمال العراق، بالإضافة إلى وجود شرخ إيديولوجي واضح بين الطرفين.
في العمق، لا يبدو هذا الصراع مجرد تنافس على السيطرة الميدانية، بل يرتبط برهانات أوسع على تمثيل الكرد سياسيًا ورمزيًا، فكما يشير الكاتب السوري دارا العبدالله، فإن الطرفين “يتنازعان على تسلُّم زعامة العالم الروحي والرمزي والسياسي القوميّ للأكراد في منطقة الشرق الأوسط، وإن كانا يُعبّران عن إرادتين أهليتيَّن كرديَّتيْن واسعتين ومُتناقضتين”.
وصلت ذروة التوترات في منتصف التسعينيات حين اندلعت مواجهات مسلحة دامية بين حزب العمال الكردستاني وقوات الحزب الديمقراطي في إطار ما عُرف بـ”الحرب الأهلية الكردية 1994-1997″، اصطف فيها الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني إلى جانب أوجلان وحزبه بينما دعمت تركيا بارزاني وقواته عسكريًا، لتنتهي هذه الجولة باتفاقية هدنة برعاية إقليمية ودولية، تمكن خلالها قوات الحزب الديمقراطي من بسط سيطرته على محافظة دهوك ومناطق واسعة، فيما تراجع حزب العمال الكردستاني إلى جبال قنديل.
من ناحية أخرى، أعطى أوجلان الضوء الأخضر من سجنه للاشتباك مع قوات الاتحاد الوطني الكردستاني عام 2000 رغم التحالف السابق بينهما، ويرجع أحد أعضاء الحزب الذي رفض الكشف عن هويته سبب هذه المعركة، إلى أن الحزب ابتعد عن نضاله ذي الخلفية الماركسية-الاشتراكية ودخل في صراع من أجل البقاء بعد اعتقال أوجلان، مشيرًا إلى أن الحروب اللاحقة للحزب شُنت فقط للحفاظ على مقاتليه في حالة قتالية دائمة.
لم يكتفِ أوجلان بذلك بل اعتمد نهج الخطاب التحريضي والمشيطن ضد الأطراف الكردية الأخرى، ففي مقابلة أُجريت معه عام 1998، وصف بارزاني وطالباني بأنهما “صور كاريكاتورية لصدام وليس لديهم مبادئ، مضيفًا “أنهما كالأقدام أو الأذرع، لكنني العقل أو الرأس. على الولايات المتحدة أن تتحدث معي، أنا العقل”.
كما نُقل عنه في عام 2013، قوله:”دعونا لا نمنح بارزاني وطالباني أي مجال للتنفس”، واصفًا بارزاني بأنه “لا يعرف ما هي الكردية”.

لم تكن التوترات سيدة الموقف طوال الوقت بين الأكراد، بل لعبت الأحزاب الكردية العراقية وتحديدًا حزبا الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني، دورًا في المفاوضات بين تركيا وحزب العمال الكردستاني خلال محادثات أوسلو بين عامي 2008 و2011، وعملية السلام بين عامي 2013 و2015.
كما خفّف أوجلان من حدة خطابه واتجه نحو التهدئة، فدعا عام 2020، مع تصاعد نذر المواجهة بين حزبه والحزب الديمقراطي، إلى إحياء روح “اتفاق 1982”.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن أوجلان ترك بصمة عميقة على مسار الصراع الكردي-الكردي في العراق، فقد أسهمت مواقفه المتشددة وخطاباته التخوينية في إطالة أمد القطيعة مع قيادة بارزاني، والتوتر مع طالباتي غالبًا ما يهدأ أو يشتعل بناءً على إشارة من “القائد آبو”.
“إسرائيل”.. ورقة أوجلان للمناورة
يتخذ عبد الله أوجلان موقفًا مناهضًا للاحتلال الإسرائيلي منذ بدايات نشاطه السياسي، إذ تشير بعض الروايات إلى مشاركته في اشتباكات ضد القوات الإسرائيلية إلى جانب “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” أثناء هجومها على مرتفعات الجولان.
وقد جاءت هذه المشاركة في سياق ارتباط أوسع بين الحركات اليسارية التركية، وبينها حزب العمال الكردستاني، وبين فصائل المقاومة الفلسطينية، إذ شكّلت المخيمات الفلسطينية بيئة تدريب مركزية لتلك الحركات، وخصوصًا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث توجّهت شخصيات بارزة من اليسار التركي إلى تلك المعسكرات لصقل قدراتهم العسكرية.

ويزعم أوجلان أن خروجه من سوريا لم يكن نتيجة ضغوط تركية فقط، بل جاء بفعل تدخلات إسرائيلية، كما ورد في مذكرات عبد الحليم خدّام حول اللقاء الأخير الذي جمعهما قبل مغادرته دمشق، إذ نقل خدّام عن أوجلان قوله:
“في عام 1988 تعرّضنا لمؤامرة إسرائيلية، أرسلوا الكثير من جواسيسهم وعملائهم حولنا، وحاولوا إبراز بعض الشخصيات المعادية لي، وإذا أنا بقيت في سوريا أو في البقاع خلال شهرين فسوف نصفّيك، كانت هناك محاولات لإخراجي من هذه الساحة، وإبعادي إلى أوروبا، تكرر السيناريو نفسه قبل ثلاثة أشهر معي، وقالوا لي إذا لم تخرج من سوريا في أسرع وقت ممكن فستكون نهايتك آتية، هم يعرفون في حال خروجي من سوريا سوف أقع تحت سيطرتهم بصورة مطلقة”.
كما يقول خدّام إن التهديدات التي تلقتها دمشق حول تسليم أوجلان “تمت بالاتفاق مع إسرائيل والولايات المتحدة وهي مرتبطة بالضغوط على سوريا من أجل التسوية مع إسرائيل في إطار الحلف الجديد في المنطقة”. وبعد اعتقال أوجلان في العاصمة الكينية نيروبي عام 1999، اتهّم مسؤولون في حزب العمال الكردستاني جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “الموساد” بضلوعه في الأمر دون أن تؤكد تل أبيب على تورطها.
وردًا على ذلك، خرج مناصرو أوجلان في مظاهرات حاشدة أمام القنصلية الإسرائيلية في برلين، واجهها الحرّاس بالرصاص الحي، مما أدى إلى مقتل 3 متظاهرين أكراد.
استمرّ أوجلان بالإدلاء بتصريحات ضد “إسرائيل” والتحذير من مخططاتها من سجنه في جزيرة إمرالي، حيث نُقل عنه من مقابلته الدورية مع فريق محاميه 5 يناير/كانون الثاني 2005، انتقاده التقارب الإسرائيلي مع حكومة إقليم كردستان العراق بقوله:
“على غرار صهيونية ثانية، يوشك التعاون الكردي -في حكومة إقليم كردستان- على تحقيق دولة، ستُستخدم دولة القومية الكردية ضد تركيا وإيران. حاولتُ منع هذا. مع ذلك، رجالنا ضعفاء… حدثت أمور مماثلة في فلسطين عام 1948، وكانت النتيجة حروبًا ضارية”.
بينما كان هذا الموقف الرسمي للحزب من “إسرائيل”، إلا أنه كان يوجد انقسام داخل الحزب حول التقارب من تل أبيب، حيث يقود مراد كارييلان، الجناح المنفتح على العلاقات وتخفيف التوترات، إذ لفت الأنظار بتصريحه حين دعا “إسرائيل” إلى قطع علاقاتها بتركيا وقال إن التعاون العسكري الإسرائيلي التركي أكثرُ ما يضر التنظيم.
لكن كراييلان، لم يبدِ اهتمامًا للتقارير الإسرائيلية التي أفادت أن وزارة الخارجية تعتزم التعاون معها ودعمها في كل مجال ممكن، بما في ذلك مساعدات عسكرية تشمل التدريب وتوريد السلاح، بل أكد أنه إذا كانت “إسرائيل” ترغب في تعزيز العلاقات مع الحزب، يجب عليها الاعتذار للشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني عن دورها في إلقاء القبض على أوجلان.

وفي أول مقابلة يجريها مع صحيفة إسرائيلية، دعا القيادي البارز في حزب العمال الكردستاني، زبير آيدار إلى “كسر الحواجز بين الأكراد والإسرائيليين، والتعارف فيما بينهم”، مضيفًا أن “المنطقة بحاجة إلى الخبرة الإسرائيلية، من المهم أن نطور ونعزز العلاقات ليس فقط كشعبين، بل أيضًا على أعلى المستويات”.
لم تترجم هذه التصريحات على أرض الواقع، ولم تتطور العلاقات بين الحزب و”إسرائيل”، لكن على الضفة الأخرى، دعمت تل أبيب بشكل واضح طوال السنوات الماضية، قوات سوريا الديمقراطية – التي تعدّ امتداد للحزب في سوريا – دبلوماسيًا وبوسائل أخرى ضد النفوذ الإيراني في عهد نظام الأسد البائد.
واستمرت العلاقات بينهما حتى بعد سقوط النظام، حيث أشارت التقارير الواردة من الإعلام العبري إلى أن مسؤولين كبارًا في “قسد” طلبوا المساعدة من “إسرائيل” بسبب شعورهم بتهديد مستقبل “الحكم الذاتي” الذي يحاولون الوصول إليه شمال شرق سوريا، وأن الحوار بين الطرفين بات أقوى بعد سقوط نظام الأسد.
لكن هذا التقارب لم يثمر عن تغيّر في موقف أوجلان وحزبه، حيث كشفت مؤخرًا وثيقة مسرّبة توثق محضر اجتماع جمع أوجلان بوفد من “حزب اليسار الديمقراطي الكردي”، أنه حذّر من وجود “خطة إسرائيلية من خمس مراحل” تهدف لإعادة تشكيل خارطة المنطقة. وقال خلال الاجتماع: “غزة، لبنان، وسوريا انتهت… لم يتبقَ سوى إيران وتركيا”.
وأضاف أن “إسرائيل أعدّت الأرضية لتحويل المناطق الكردية إلى غزة جديدة”، محذرًا من سعيها إلى استغلال الأكراد، خصوصًا عبر الإعلام، عبر تقديم وعود بالاستقلال، في إشارة خاصة إلى “قوات سوريا الديمقراطية” (SDF) التي تسيطر على مناطق شمال شرق سوريا.
غير أن تصريحات أوجلان الأخيرة لا يمكن تفسيرها كموقف عدائي تجاه الاحتلال الإسرائيلي، وفقًا للصحفي التركي روشَن تشامِر، الذي رأى أن الوثيقة المسرّبة تشبه في أسلوبها الخطابي نصوص نجم الدين أربكان المناهضة لـ”إسرائيل”، لكنها تختلف عنها جوهريًا من حيث المضمون، إذ لم يُظهر أوجلان أي عداء صريح أو مشاعر كراهية تجاه “إسرائيل”.
وبحسب تشامِر، فإن أوجلان يسعى إلى كبح تمددها الإقليمي ومنعها من التحول إلى القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، وفي هذا السياق، يوظف موقفه من تل أبيب كورقة ضغط في مفاوضاته مع أنقرة، على أمل تحقيق “شراكة استراتيجية” مع الدولة التركية.
رغم سجله الدموي.. أوجلان رمز كردي لا يمكن تجاهله
بعد اعتقاله، عاش أوجلان في عزلة في سجنه بجزيرة إمرالي، لكن بقيت مكانته محفوظة كزعيم رمزي للحزب وقراراته أيًا كانت ستمثل دستورًا لا يمكن لأتباعه إلا أن ينفذوه، حيث ظل صانع القرار الأول ضمن الحزب محافظًا على تأثيره في اتخاذ القرارات الحاسمة ووضع الأجندة السياسية للمنظمة.
لا تقتصر مكانته لدى الأكراد في تركيا فحسب، بل يمتد تأثير أوجلان إلى ما وراء الحدود التركية، ليشمل أكراد العراق وسوريا وإيران، حيث تعتبر قوات سوريا الديمقراطية التي تأسست على أسس وضعها أوجلان، قائدها الأيديولوجي.

هذا ما يُفسر العودة إليه في كل مرحلة يبدأ الحزب فيها المفاوضات مع الحكومة التركية نحو السلام، ففي مرحلة مفاوضات عام 2013- 2015 دعا قيادات حزبه إلى التخلي عن العمل المسلح وكان يُصدر بيانات تُتلى حرفيًا أمام المؤتمر الكردي في جبال قنديل، لكن انهارت المفاوضات حينها بعد اشتباكات وقعت جنوب شرقي تركيا.
شهدت أفكار أوجلان تحوّلًا مفصليًا خلال سنوات سجنه فبعدما أيقن أنه لا يمكنه تحقيق حلمه ببناء دولة بالبندقية، سعى إلى السلام وعندما انهارت هذه المحاولات، جاء القرار بإنهاء المشروع الذي سلب حقوق الآلاف بالحياة عوضًا أن يحصل على حقوقهم بالعدالة.
ربما يكون قد أنهى مشروع الحزب، لكن لا شك أن القضية الكردية في الشرق الأوسط ستظل واحدة من أبرز الأوراق التي تؤثر في موازين القوى الإقليمية، وسيظل أوجلان رمزًا لا يمكن تجاهله في المجتمع الكردي.
في العودة إلى حيث بدأنا وتحديدًا حديث أوجلان عن نفسه، “حالتي لا تشبه حالة أي إنسان، وأنا لا أريدها أن يشبهه، بحسب ما فهمته وما شعرت به، فأنا على الطريق الصحيح”، يصبح من الممكن، بناءً على السرد الذي استعرضناه لحياته، أن نحكم على مدى دقة هذا الشعور.