في مشهد غير معتاد على الساحة الاقتصادية السورية، خرج مئات التجار في دمشق إلى الشارع، محتجين أمام وزارة العدل، رافعين لافتات تطالب بـ”حماية الحقوق المكتسبة” و”عدم المساس بعقود الفروغ”، وذلك عقب إعلان الوزارة عن تشكيل لجنة لإعادة النظر في الإيجارات القديمة الخاضعة للتمديد الحكمي، والمعروفة شعبياً باسم “الفروغ”.
هذه الخطوة أثارت موجة قلق واسعة في أوساط أصحاب المحال التجارية، الذين يرون في الفروغ حقاً قانونيًا وماليًا مكتسبًا، دفعوا مقابله مبالغ ضخمة وصلت في بعض الحالات إلى 90% من قيمة العقار، ما يجعلهم “شبه مالكين” لهذه المحال.
في المقابل، يرى المالكون أن استمرار هذا النظام يقيّد حقوقهم في التصرف بأملاكهم، ويمنعهم من الاستفادة من القيمة السوقية الحقيقية لعقاراتهم، خاصة في ظل التغيرات الاقتصادية الكبيرة التي شهدتها البلاد.
وفي ظل هذا التوتر، يجد صانع القرار نفسه أمام معادلة شائكة: كيف يمكن تحقيق العدالة العقارية دون الإضرار بالاستقرار التجاري؟ وهل يمكن تعديل قانون الفروغ دون أن يؤدي ذلك إلى إفراغ الأسواق من التجار أو إشعال نزاعات قانونية واسعة؟
وكان وزير العدل السوري، القاضي مظهر العويس، التقى وفداً من تجار دمشق لبحث قضية فروغ المحال التجارية. مؤكداً أن اللجنة المشكلة لدراسة التمديد الحكمي لعقود الإيجار لم تصدر أي توصيات بعد.
وأشار إلى أن عمل اللجنة يتركز حالياً على تقييم شامل للجوانب القانونية والاجتماعية والاقتصادية، مشدداً على أهمية الحوار الشفاف مع جميع الأطراف المعنية، بهدف الوصول إلى حلول عادلة ومتوازنة تحفظ حقوق المالكين والمستأجرين.
بداية ظهور مصطلح التمديد الحكمي
خضعت العلاقات الإيجارية في سوريا منذ عام 1952 لأحكام المرسوم التشريعي رقم (111) لذات العام، وجعل هذا المرسوم العلاقة الإيجارية خاضعة لأحكام التمديد الحكمي وتحديد بدل الإيجار.
وخلال السنوات اللاحقة صدرت العديد من القوانين الإيجارية التي تهدف لتعديل أحكام المرسوم السابق وتلافي مساوئه، فصدر قانون الإيجار رقم (6) لعام 2001، الذي استثنى بعض أنواع العقارات والجهات العامة أو الخاصة، من أحكام التمديد الحكمي وتحديد البدل.
ونص في المادة الأولى منه على حرية التعاقد في تأجير العقارات المعدة للسكن، أو الاصطياف، أو السياحة، أو الاستجمام، أو المأجورة من أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، أو الدوائر الرسمية، أو المنظمات الشعبية، أو النقابات على مختلف مستوياتها، أو الجمعيات، أو الوحدات الإدارية، أو البلديات، أو مؤسسات القطاع العام و المشترك، أو المؤسسات التعليمية و المدارس.
وحسب التعديل فإن العقارات السابقة لا تخضع للتمديد الحكمي، وإنما لطرفي العلاقة الإيجارية والاتفاق على مدة العقد وبدل الإيجار وفقاً لرغبتهما، وإن استثناء هذا القانون للجهات العامة عندما تستأجر عقاراً من أحكام التمديد الحكمي، جاء بسبب امتناع ملاك العقارات عن تأجير هذه الجهات كونها تسيطر على المأجور فعلياً، ومن الصعب جداً إخلاؤها من العقار المؤجّر.
وأبقى هذا القانون على جميع العقارات المؤجّرة في ظل أحكام المرسوم التشريعي رقم (111) لعام 1952، أو التي يجري تأجيرها بعد نفاذ هذا القانون لأعمال تجارية، أو صناعية، أو حرفية، أو مهنة حرة، أو علمية منظمة قانوناً خاضعة للتمديد الحكمي وتحديد بدل الإيجار.
ثم صدر القانون رقم (10) لعام 2006 الذي جعل تأجير العقارات خاضع لإرادة المتعاقدين سواء كانت سكنية أم غير سكنية، لكن هذا التعديل لم يسر على العقارات المؤجرة قبل نفاذ القانون، والتي تبقى خاضعة لأحكام التمديد الحكمي بموجب القانون رقم (111) لعام 1952، أو بموجب القانون رقم (6) لعام 2001.
قضية عقارية معقدة وشائكة
بعد سقوط النظام البائد في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عادت إلى الواجهة واحدة من أكثر القضايا العقارية تعقيداً في سوريا: الإيجارات القديمة والفروغ التجاري، حيث بدأت المطالبات بإلغاء نظام التمديد الحكمي لعقود الإيجار، الذي يعود إلى المرسوم التشريعي رقم 111 لعام 1952، والذي منح المستأجرين حماية قانونية شبه دائمة، مانعاً المالك من استرداد ملكه أو تعديل بدل الإيجار.
ومع تصاعد هذه المطالبات، انتقل الجدل سريعاً إلى قضية الفروغ التجاري، التي تُعد أكثر حساسية نظراً لارتباطها المباشر باستقرار آلاف المحال التجارية في الأسواق السورية.
ولمعرفة حثيات الأمر وتفاصيله، أوضح محمد الحلاق، العضو السابق في غرفة تجارة دمشق، أن نظام الفروغ مرّ بتحولات كبيرة. ففي بداياته، كان يُدفع من التاجر لصاحب العقار كنوع من “الإرضاء” مقابل تأجيره المحل بأجر زهيد. لكن لاحقًا، أصبح الفروغ يُدفع من مستأجر إلى آخر مقابل التنازل عن المحل، ما جعله أصلاً مالياً ذا قيمة سوقية، تختلف باختلاف الموقع والمساحة.
وأشار الحلاق في تصريحه لـ”نون بوست”، إلى أن الحكومات السابقة كانت تتعامل مع الفروغ كأصل خاضع للضريبة، حيث كانت تفرض عليه ضريبة أرباح رأسمالية وضريبة دخل، ما يعكس اعترافاً ضمنياً بشرعية هذا النظام.
أما الإيجار القديم فقد مرّ بعدة مراحل تنظيمية، لكن في السبعينيات صدر قرار قضى باعتبار جميع الإيجارات، سواء كانت مشروطة بخلو أو لا، ممددة حكماً، ما منح المستأجرين حماية قانونية طويلة الأمد، وجعلهم يعتبرون أنفسهم شبه مالكين للمحال.
ومن أبرز الإشكاليات التي ظهرت لاحقاً، أن المستأجر لم يكن يحق له تأجير المحل للغير، ما دفع البعض إلى التحايل القانوني عبر ما يُعرف بـ”عقد المحاصَاة”، حيث يُدخل شخصاً آخر كشريك مضارب لإدارة المحل، دون أن يُظهر أنه أجّره فعلياً. وذلك لتفادي نسبة الـ10% التي نص عليها قانون صدر بعد عام 2005، والتي تُدفع لصاحب العقار في حال أراد الشاغل بيع الفروغ.
أما إذا ثبت أن المستأجر أجّر المحل دون موافقة المالك، أو غيّر في طبيعته، فيحق للمالك طلب الإخلاء القانوني.
وأضاف الحلاق، برزت المطالب بإلغاء نظام الفروغ التجاري في سوريا مع تصاعد أصوات أصحاب الملكيات العقارية، الذين اعتبروا أنفسهم متضررين من استمرار شاغلي المحال التجارية في استثمارها لعقود طويلة دون انتقال الملكية أو تحقيق أي عائد عادل. ففي كثير من الحالات، تجاوزت مدة إشغال المحال خمسين عاماً، دون أن يحصل المالكون على تعويض مناسب أو ما يُعرف بـ”الإرضاء”، ما دفعهم للمطالبة باستعادة حقوقهم أو إعادة النظر في العقود القديمة.
في المقابل يواجه العديد من أصحاب الفروغ معضلة مختلفة، إذ يرغب بعضهم في إنهاء العلاقة التعاقدية أو شراء العقار بشكل نهائي، لكنهم يصطدمون برفض بعض المالكين البيع أو التفاوض، ما يُبقي العلاقة بين الطرفين في حالة جمود قانوني واقتصادي.
هذا التباين في المواقف يعكس تعقيد القضية، ويؤكد الحاجة إلى حلول متوازنة تراعي حقوق الطرفين وتستند إلى أسس قانونية واضحة. ولكي نكون موضوعيين، فإن جوهر المشكلة اليوم يكمن في أن الغالبية العظمى من أصحاب الملكيات الأصلية – نحو 95% منهم – قد توفوا، وكذلك الحال بالنسبة لأصحاب الفروغ، ما جعل القضية تنتقل إلى الورثة من كلا الطرفين، في ظل غياب توثيق دقيق أو معرفة واضحة بكيفية نشوء الفروغ في الأصل.
بعض المالكين حصلوا على مبالغ فروغ عند تأجير محالهم، بينما آخرون لم يتقاضوا شيئاً. وهناك من باع الفروغ بعد عام 2005 ودفع ضريبة دخل وأجرى تسوية مع المالك، في حين بقي آخرون ملتزمين بتخمينات إيجارية قديمة وضعيفة جدًا لا تتناسب مع القيمة السوقية الحالية.
هذا التفاوت خلق شعوراً بالغبن لدى كثير من المالكين الذين يرون أن حقوقهم ضاعت عبر عقود من التمديد الحكمي والعقود غير المتوازنة. هذا الواقع المعقد والمتداخل بين الأجيال والورثة يجعل من الصعب تحديد أين تبدأ الحقوق وأين تنتهي، ويؤكد الحاجة إلى معالجة شاملة وعادلة تأخذ بعين الاعتبار الظروف التاريخية والاقتصادية لكل حالة، إذاً توجد مشكلة حقيقية تتطلب معالجة واقعية، خاصة أن هناك شبه اتفاق بين معظم الأطراف، حتى من دفع فروغاً، بأن الملكية غير مكتملة ويجب تسويتها.
حلول .. والعبرة في التطبيق
من الحلول المقترحة بحسب الحلاق، رفع مبلغ الإرضاء وتقسيطه على دفعات لصالح أصحاب الملكيات، بحيث يتم تحويل الفروغ إلى ملكية كاملة. ولتحقيق التوازن، يجب الاعتراف بأن ليس كل مالك مظلوم، ولا كل صاحب فروغ ظالم، فبعضهم دفع مبالغ رمزية، وآخرون دفعوا مبالغ كبيرة تُقدّر اليوم بمليارات إذا قيست بالقيمة السوقية الحالية.
وقال الحلاق إن الحل قد يكون إما برفع الأجرة بشكل منصف للمالكين، أو التوصل إلى صيغة توافقية تمنح أصحاب الفروغ حق التملك مقابل نسبة عادلة من قيمة العقار (15–20%)، مع تقسيط المبلغ على سنتين على الأقل، لكن التحدي أن كثيرين لا يملكون القدرة على الدفع، ما يجعل الحلول النظرية صعبة التطبيق. كما لا يمكن ببساطة استنساخ تجارب دول أخرى، لأن واقع الملكيات في سوريا فريد من نوعه، خاصة في ظل التضخم الكبير الذي غيّر جذرياً من قيمة العقارات.
المحامي الدكتور إيهاب أحمد أبو الشامات أوضح لـ”نون بوست”، أن الفروغ في سوريا لم يكن يوماً مجرد مبلغ مالي، بل تحول إلى عُرف شبه قانوني يمثل استقرارًا للمستأجر، خصوصاً التجاري، مقابل تنازل عن حرية تصرف المالك. عشرات الآلاف من السوريين ما زالوا حتى اليوم يستأجرون محالهم التجارية بأجور رمزية، دفعوا مقابلها فروغاً قديماً قد يساوي مئات الملايين بأسعار اليوم.
أما الإيجار القديم، فهو نظام مجمّد يعود لقوانين ما قبل الثمانينيات، تقيّد حق المالك في الإخلاء أو رفع الإيجار، وتحمي المستأجرين لعقود طويلة لكنه اليوم يُنظر إليه كقنبلة موقوتة في وجه الاقتصاد والاستثمار العقاري.
وقال أبو الشامات: تسري شائعات – وأحياناً مسودات قانونية غير مؤكدة – عن نية إصدار قانون جديد يلغي حق الفروغ ويمنح المالك صلاحيات واسعة في استرداد العقار، ما أثار موجة احتجاجات في عدة مناطق من دمشق، رفعت لافتات تقول: “نحن لا نحتل… نحن بنينا”، “لا للفروغ الظالم… ولا للطرد القسري”.
في المقابل، يرى بعض المالكين أن الوقت قد حان لتصحيح الظلم: “نملك عقاراً لا نملك حق التصرف به… هل هذا عدل؟”
تجارب الدول الأخرى: ماذا فعل لبنان وتركيا؟
في لبنان، تم سن قانون يحرر الإيجارات القديمة تدريجياً على مدى 9 سنوات، مع صندوق دعم حكومي لتعويض المستأجرين من ذوي الدخل المحدود.
أما تركيا، فاعتمدت على السوق الحر، لكن ضمن سقوف محددة للتجديد السنوي وحق الإخلاء المنصف، وفي الأردن، تم تعديل القانون ليضمن تجديد العقود التجارية سنوياً مع مراجعة الأسعار دورياً.
فلماذا لا تستفيد سوريا من هذه التجارب، وتضع خارطة طريق عادلة للطرفين؟
ختامًا.. قانون الفروغ ليس مجرد نص تشريعي، بل هو مرآة للصراع الاجتماعي والاقتصادي في سوريا. والتعامل معه بعقلية “الرابح والخاسر” سيدفع الجميع نحو المجهول. وما تحتاجه سوريا هو تشريع عادل، حوار صريح، وجرأة في الاعتراف بأن الحقوق لا تُبنى على الظلم المتبادل، فلا حل جذري إلا بتوازن قانوني واجتماعي، يقوم على: تحرير تدريجي للعقود القديمة، لا يزيد عن 3 سنوات، وتعويض المستأجرين القدامى تجارياً عن إخلاء المحلات، ضمن قيمة عادلة، وتثبيت عقود الإيجار الحديثة ضمن نظام زمني واضح (3-5 سنوات)، وفتح باب التفاوض المباشر بين الطرفين، ضمن إشراف قضائي أو بلدي، وحماية المالك من الاستغلال، وحماية المستأجر من الطرد المفاجئ.