على امتداد الأسابيع الماضية، ضخَّت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة زخمًا عملياتيًّا متصاعدًا، تُرجِم إلى سلسلة من الكمائن الفدائية القاتلة والمنسقة، من جنوبي القطاع إلى شماليه. فنفَّذت تشكيلات المقاومة عملياتٍ نوعيةً في مناطق الشجاعية وبيت حانون وجباليا وشرقي خان يونس، استهدفت من خلالها قوات الاحتلال الإسرائيلي على نحو مباشر، وبأسلوب يبدو مدروسًا ومحكمًا من حيث التوقيت والطبيعة التنفيذية.
تأتي هذه العمليات في لحظة سياسية بالغة الحساسية، إذ تتقاطع مع عودة الزخم التفاوضي في الدوحة وواشنطن، واستئناف النقاش حول مستقبل الحرب في غزة، ومآلات الوجود العسكري الإسرائيلي، وسيناريوهات “اليوم التالي”، بما في ذلك طموحات تفكيك المقاومة ونزع سلاحها.
في هذا السياق، بدت رسائل المقاومة واضحة: الرد على التصعيد بالتصعيد، ومراكمة الكلفة البشرية للاحتلال، عبر توابيت جنوده العائدين، في لحظة تآكلٍ متسارعٍ لشرعية الحرب داخل مجتمع المستوطنين، وتزايد الشكوك داخل المؤسسة العسكرية، في ظل انقسام حادّ يشطر القيادة السياسية الإسرائيلية.
“عربات جدعون” تتهشم
شكَّلت عملية “عربات جدعون” ذروةَ استخلاصات القيادة العسكرية الإسرائيلية خلال فترة رئاسة هرتسي هاليفي لهيئة الأركان، وقدَّمها رئيس الأركان الجديد إيال زامير بوصفها النموذج الأجدى لتحقيق ما أسماه “الضغط الأقصى” على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
قامت الخطة على ركيزتين أساسيتين: أما الأولى فالزحف البطيء والمدروس مع تمهيد ناري كثيف، ارتكز على أحزمة نارية متواصلة وقصف سجادي يُفترض أن يُحيِّد البنيةَ القتاليةَ للمقاومة، ويقضي على أية كمائن معدَّة سلفًا، سواءٌ كانت بشرية، أو هندسية، أو متمثلة بنيران تعرضية.
وأما الثانية فتمثلت بسياسة السيطرة الطويلة والبقاء على الأرض، بهدف تنفيذ عمليات مسح دقيق لتصفية ما تبقَّى من جيوب مقاومة، مع تدمير شامل للبنية العمرانية في المناطق المستهدفة، على غرار النموذج المُطبَّق في رفح، ليجري تعميمه لاحقًا في شمالي غزة وشرقيها، وفي مدينة خان يونس.
لكن على الأرض، كانت حسابات الميدان مختلفة. فأطلقت المقاومة الفلسطينية سلسلة عمليات لمواجهة هذه الخطة، تحت مسمى “حجارة داوود” في استحضار رمزي يعكس التحدي المعنوي والبعد التاريخي، بمواجهة اسم العملية الإسرائيلية المستمد من رمزية توراتية.
وبذلك، دخلت المقاومة في اشتباك مزدوج يتكامل فيه بُعدان عسكري ونفسي، بهدف قلب مفهوم العملية الإسرائيلية الدعائي وتحويله إلى كلفة رمزية وميدانية على جيش الاحتلال.
من حيث النمط العملياتي، اختارت المقاومة التروي وعدم الانجرار إلى مواجهة مباشرة ومبكرة، مفضِّلةً رصد النهج الجديد بعد التغييرات في بنية هيئة الأركان الإسرائيلية. وقد مكَّنها هذا التريث من بناء تقييم دقيق لنقاط الضعف والثغرات في الخطة الإسرائيلية.
وبينما راهن الاحتلال على أن البقاء الطويل في الميدان سيمكِّنه من تصفية العقد القتالية، بنت المقاومة تكتيكًا معاكسًا، يقوم على تمرير الاندفاعة الهجومية والاحتفاظ بجهوزيتها حتى اللحظة المناسبة للانقضاض، عندما يبدأ الإنهاك والتراخي في صفوف الجيش. وعندها، تحوَّلت “نقاط القوة” التي اعتقد الاحتلال أنه يُمسك بها، إلى نقاط ضعف قاتلة.
وبعد مرور أكثر من شهرين على إطلاق “عربات جدعون”، بدأت المقاومة في تنفيذ عمليات هجومية خلف خطوط التقدم الإسرائيلي، ما أدى فعليًّا إلى تفكيك أسس العملية.
نجحت المقاومة في قلب معادلة “الأرض المطهرة” –وفق تعبير قادة الاحتلال– إلى أرض استنزاف دامٍ، وحوَّلت الزحف البطيء من وسيلة لتقليل الخسائر إلى عامل أساسي في رفع كلفة القتال، مع وصول عدد قتلى الجنود إلى نحو 30 في خلال أقل من شهر، بمعدل يقترب من قتيل يوميًّا، نتيجة كمائن أصبحت سمة يومية في المشهد الميداني، بعد فترة من الجمود.
وبذلك حسمت المقاومة بوضوح مصير العملية العسكرية التي عُوِّل عليها كثيرًا لتكون الضربة القاضية، وقلبت ركائرها الرئيسية إلى خيبات كبرى لجيش الاحتلال وهيئة أركانه.
الضغط العسكري العكسي
مع انطلاق عجلة التفاوض من جديد في الدوحة وواشنطن، صعَّد الاحتلال من وتيرة ضغطه العسكري على قطاع غزة. شمل هذا التصعيدُ تكثيف القصف الجوي والمدفعي، وتسريع عمليات التوغل والهدم، في محاولة مزدوجة تجمع بين الحاجة إلى تحقيق إنجازات ميدانية متسارعة، ورغبة في رفع الكلفة البشرية والعمرانية لابتزاز المقاومة سياسيًّا.
رافق هذا التصعيدَ إصدار خرائط إخلاء واسعة، شملت مدينة خان يونس حتى أطراف المواصي غربًا، والمناطق الشرقية لمدينة غزة وصولًا إلى قلب المدينة، إلى جانب استكمال إفراغ شمالي القطاع. وقد تحوَّل الإخلاء القسري إلى أداة متكررة من أدوات الضغط، تستهدف المجتمع المدني لإجبار المقاومة على تقديم تنازلات على طاولة التفاوض.
أمام هذا الواقع، لم تقبَل المقاومة أن يُفرَض عليها ميزان التفاوض تحت وطأة النار. بل جاءت استجابتها بسلسلة من العمليات النوعية والكمائن التي استهدفت قوات الاحتلال على طول خطوط التوغل، لا سيما في المحاور الشرقية، لتُرسِّخ استراتيجيةَ “الضغط العكسي”؛ أي قلب الضغط العسكري على صاحبه، بحيث لا يكون الميدان عبئًا على المفاوض الفلسطيني، بل سندًا يدفع الموقف التفاوضي إلى الأمام.
في هذا الإطار، لم تكتفِ المقاومة بضرب الجنود، بل عمدت إلى إدخال بُعد جديد على معادلة المعركة لم يكن حاضرًا بهذا الوضوح طوال الشهور الماضية: التلويح بخيار أسر الجنود من الميدان. ففي تعقيبه على كمين بيت حانون، صرَّح الناطق باسم “كتائب القسام”، أبو عبيدة، قائلًا: “ولئن نجح مؤخرًا في تخليص جنوده من الجحيم بأعجوبة، فلربما يفشل في ذلك لاحقًا ليصبح في قبضتنا أسرى إضافيون”.
لم تمر ساعات على هذا التصريح، حتى حاول مقاتلو “القسام” تنفيذ عملية أسر في شرقي خان يونس. وعلى الرغم من أن المحاولة لم تكلَّل بالنجاح، واضطر المقاومون إلى تصفية الجندي واغتنام سلاحه، فإن تفاصيل العملية –كما وثّقتها الكتائب– كشفت اقترابًا غير مسبوق من تحقيق الهدف. وقد أظهرت اللقطات المصوَّرة محاصَرة مقاومَين جنديًّا إسرائيليًّا في منطقة يسيطر عليها الاحتلال منذ أشهر، ما فضح رواية الجيش التي حاولت التقليل من وقع الحادثة.
ويمثِّل هذا التطورُ نقلةً نوعيةً في أدوات المقاومة: إذ لم تَعُد خسائر الاحتلال تُقاس بالعدد فحسب، بل كذلك بالرمزية، فالجيش الذي دخل غزة تحت شعار استعادة الأسرى يوشك أن يفقد جنودًا جددًا في الأسر، الأمر الذي قد يُعقِّد المشهد برمَّته سياسيًّا وأمنيًّا.
وعليه، يمكن القول إن المقاومة اعتمدت نمطًا ميدانيًّا جديدًا، يقوم على مضاعفة الكلفة، وتوسيع دائرة المخاطر أمام جيش الاحتلال، إلى حد إدخال “هاجس الأسر” من جديد إلى حساباته. وبهذا، لم تَعُد أداة الضغط العسكري في يد الاحتلال وحده، بل تحوَّلت إلى سلاح بيد المقاومة، يُستخدَم بفاعلية ميدانية وتوقيت تفاوضي محسوب.
الميدان يُعيد رسم حدود السياسة
“إن صمود شعبنا وبسالة مقاوميه الشجعان، هما حصرًا من يصنعان المعادلات ويرسمان معالم المرحلة القادمة، وإن القرار الأكثر غباءً الذي يمكن أن يتخذه نتنياهو، سيكون الإبقاء على قواته داخل قطاع غزة”. بهذا التصريح، اختتم الناطق العسكري باسم “كتائب القسام”، أبو عبيدة، بيانَه عقب سلسلة الكمائن الأخيرة، واضعًا خطًّا واضحًا تحت ما يمكن وصفه برؤية المقاومة لمستقبل الحرب ومآلاتها السياسية والعسكرية.
لا يقتصر مضمون الرسالة على البعد الميداني فحسب، بل يتعداه إلى مقاربة سياسية محكمة، تؤكد تكامل القرار المقاوم بين الميدان والموقف السياسي. فقد أثبتت المقاومة، من خلال أدائها المنسَّق وتصريحاتها الدقيقة، أن بنية القيادة والسيطرة ما تزال سليمةً وفاعلة، على الرغم من كل محاولات الاحتلال لتفكيكها عبر الاغتيالات والقصف المركَّز.
في المقابل، يعيش النظام الإسرائيلي حالة انقسام متفاقم، ينعكس في الجدل الداخلي حول “اليوم التالي” للحرب في غزة. فبينما يصرُّ المستوى السياسي، وخصوصًا وزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، على استكمال العمليات العسكرية واحتلال كامل القطاع، تبرز المؤسسة العسكرية –بقيادة رئيس الأركان– بطرح مغاير مفاده أن العملية قد استنفدت أهدافها، وأن الأفضل الآن الذهاب نحو صفقة تبادل تشمل الأسرى مقابل الانسحاب، لتفادي الغرق في مستنقع الاستنزاف.
وعلى الأرض، يسيطر جيش الاحتلال فعليًّا أو بالنيران على نحو 70% من مساحة قطاع غزة، لكنه يجد نفسه أمام معضلة استراتيجية: فاستكمال السيطرة على الـ30% المتبقية، لا يعني المجازفة بحياة الأسرى الإسرائيليين فقط، بل يعني أيضًا التورط في حكم عسكري مباشر، وانهيار كامل لمشروع “الانسحاب مع الهيمنة”.
هنا تتدخل المقاومة بموقف واضح لتحسم بأن الميدان ليس مجرد حلبة قتال، بل إنه أداة ضغط سياسي. وإن الكمائن التي تستنزف الجنود الإسرائيليين في شرقي قطاع غزة، ومحاولات الأسر الجريئة، تشير إلى أن أي خيار عسكري تصعيدي ستكون كلفته باهظة، على المستويين العسكري والسياسي.
في السياق ذاته، تواجه المقاومة أيضًا محاولات “هندسة” “اليوم التالي” عبر الطرح الأمريكي، الذي يربط إعادة إعمار قطاع غزة بإنهاء المقاومة ونزع سلاحها. لكن بلسان حال المقاومة، وبحديث فوهات بنادق المقاتلين، جاء الرد واضحًا: إن الطريقة الوحيدة لتسليم السلاح هي عبر العبوات الناسفة والقذائف، في صدور الجنود وعلى آلياتهم.
بهذا المعنى، فإن أية مقاربة لتفكيك المقاومة تتجاهل واقع أنها ما تزال صامدة، قادرةً على المبادرة، ومتحكمةً بنبض الميدان، هي مقاربة محكومة بالفشل. ويكفي التذكير بمصير كل مشاريع “البديل المتعاون” في غزة طوال الحرب، التي سقطت أمام الجدار الصلب للمقاومة.
على الرغم من ذلك، فإن “حماس” التي حسمت موقفها بألَّا تبقَى في الحكم أو تنفرد بإدارة قطاع غزة، تؤكد –ومعها فصائل العمل الوطني– أن المستقبل يجب أن يُبنَى على التوافق الوطني الفلسطيني، وضمن صيغة إدارة مهنية انتقالية، كما تطرح الخطة المصرية لإعادة إعمار القطاع.
تدرك المقاومة أن الحرب بمعناها الشامل قد شارفت على نهايتها، وأن جوهر الاشتباك الراهن يتمحور حول “كيفية” إنهاء الحرب، ومن سيرسم ملامح ما بعدها. وبالنظر إلى حجم التداخلات الأمريكية في رسم ترتيبات ما بعد الحرب، يبدو أن المعركة الكبرى باتت على الطاولة السياسية، لا في ساحات القتال فقط.
لذا، تُخوض المقاومة هذه المرحلة بأدوات مركَّبة، تتداخل فيها المسؤولية الوطنية مع الصلابة الميدانية. فإن صمود أهالي غزة، وبسالة مقاومتهم، لا يسمحان إلا بتعامل مسؤول، متزن، وحازم من قبل المقاومة مع هذا الاستحقاق المصيري، بعيدًا عن أي شكل من أشكال الابتزاز، أو الوصاية، أو التنازل الاستراتيجي.