بعد 8 جولات من التفاوض غير المباشر بين حركة حماس وحكومة الاحتلال الإسرائيلية، منذ استئناف المفاوضات الأخيرة في العاصمة القطرية الدوحة في السادس من يوليو/تمّوز الجاري، فجّر الوفد الإسرائيلي مفاجأة من العيار الثقيل حين عرض خريطة “إعادة الانتشار” في القطاع كـ”بديل للانسحاب”، تلك الخريطة التي تُبقي كامل مدينة رفح جنوب القطاع تحت سيطرة الاحتلال.
وفي الوقت الذي اتسمت فيه أجواء تلك الجولات بالإيجابية، بعد حلحلة أغلب البنود الخلافية بين الطرفين، وسط تفاؤل بإحراز تقدم يقود إلى هدنة مؤقتة يعقبها وقف كامل ونهائي لإطلاق النار، إذ بالمفاوض الإسرائيلي يمارس هوايته المفضلة في المراوغة، ليقلب الطاولة بخريطته التي قدمها بشكل مفاجئ، والتي تنسف مقاربات التفاوض من جذورها، وتعيد المسار إلى المربع الأول مجددًا.
وتعرضت مفاوضات الدوحة، بسبب تلك الخريطة، إلى صدمة مدوّية أعقبها جمود في المحادثات خلال الساعات الـ24 الماضية، مع بقاء الوفد الإسرائيلي في العاصمة القطرية في انتظار جولة أخرى من المباحثات، ربما لا تُسفر عن جديد إذا ما تمسك الإسرائيلي بخريطة إعادة الانتشار، التي يصعب قبولها من قبل الوسطاء والمقاومة معًا.
يأتي هذا التصعيد بالتزامن مع تكثيف الاحتلال لعملياته العسكرية، التي تسفر عن سقوط المئات من الشهداء يوميًا، وتفاقم الوضع الإنساني في القطاع، حيث الحصار المُحكم الذي دخل يومه الـ103 على التوالي، منذ أن أقدمت قوات الاحتلال على إغلاق كافة المعابر، ومنعت دخول الغذاء والدواء والوقود، في واحدة من أشدّ جرائم الحصار الجماعي في العصر الحديث.
مراوغة إسرائيلية معتادة
حاولت “إسرائيل” الالتفاف على المفاوضات بعدما باتت قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى اتفاق نهائي، خاصة بعد التصريحات الإيجابية الصادرة عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وكبار مساعديه، التي تفيد بأن الاتفاق مسألة وقت، وربما يُبرم خلال أيام، أو على الأكثر خلال الأسبوع المقبل.
المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، كان قد أبدى تفاؤله بشأن المفاوضات، لافتًا في تصريحات له قبل يومين إلى أنه جرى حل ثلاث نقاط خلافية من أصل أربع، ووفق ما ذكره موقع “أكسيوس”، فإن النقطة الخلافية تتعلق بانسحاب جيش الاحتلال من غزة، حيث تُصرّ حماس على انسحاب كامل، في حين تُصرّ تل أبيب على البقاء في محور موراج بين خان يونس ورفح جنوبي قطاع غزة.
تعرضت حكومة بنيامين نتنياهو لانتقادات حادة بسبب تمسكها بالبقاء في موراج، رغم مخالفة ذلك لتوصيات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وتعارضه مع الهدف الذي أقيم من أجله، حيث كان جزءًا من سلسلة من الترتيبات العسكرية العملياتية والإجراءات الأمنية الميدانية المؤقتة، المرهون بقاؤها بالتوصل لاتفاق وإنهاء الحرب.
وبعد ضغوط ومشاورات مع الولايات المتحدة، لجأ المفاوض الإسرائيلي إلى أسلوبه المعتاد في المراوغة، معلنًا موافقته على الانسحاب من محور موراج، لكنه طرح في المقابل بديلًا أكثر كارثية، يتمثل في إبقاء سيطرة جيش الاحتلال على رفح، بزعم “مراقبة الوضع وضمان ألا تشكّل المقاومة تهديدًا للداخل الإسرائيلي مجددًا”.
وخلال جولة الجمعة 11 يوليو/تمّوز الجاري، عرض الوفد الإسرائيلي خريطة لإعادة انتشار قواته داخل غزة، أقرب ما تكون إلى خطة احتلال جديدة للقطاع، لا إعادة تموضع كما يُسميها الإسرائيليون، إذ تُبقي كامل مدينة رفح تحت سيطرة الاحتلال، وتحولها إلى منطقة لتجميع النازحين تمهيدًا لتهجيرهم إلى مصر أو عبر البحر.
الخريطة، وبعد تدقيقها، وعكس ما يزعم المفاوض الإسرائيلي، تصادر مساحات داخل القطاع يصل عمقها أحيانًا إلى 3 كيلومترات على طول الحدود، كما تضم مناطق واسعة من بيت لاهيا وأم النصر وبيت حانون وخزاعة، وتمتد حتى شارع السكة في أحياء التفاح والشجاعية والزيتون شرق غزة، وتصل إلى شارع صلاح الدين في دير البلح والقرارة وسط القطاع.
وفي المجمل، وبحسب تلك الخريطة، يخطط جيش الاحتلال للسيطرة رسميًا على نحو 40% من مساحة قطاع غزة، مع الحيلولة دون عودة أكثر من 700 ألف فلسطيني إلى منازلهم في الشمال، وتحويل الجنوب إلى معسكر وسجن كبير لمئات الآلاف، وفصل رفح عن محيطها الغزي بشكل نهائي، مع محاصرة الشريط الحدودي بين مصر وغزة حيث محور فيلادلفيا، وإبقاء قوات الجيش هناك على بعد نحو 2 – 3 كيلومترات شمال المحور.
المدينة الإنسانية.. إصرار على مخطط التهجير
وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، كان قد كشف الاثنين 7 يوليو/تموز الجاري، عن خطة إسرائيلية جديدة لإقامة ما أسماه “مدينة إنسانية” في مدينة رفح، عبارة عن خيام تُقام على أنقاض المدينة، تتضمن نقل 600 ألف فلسطيني إليها في مرحلة أولى بعد خضوعهم لفحص أمني صارم.
بحسب تلك الخطة، فإن الفلسطينيين الذين سيتم نقلهم إلى تلك “المدينة” لن يُسمح لهم لاحقًا بمغادرتها، ما يعني أنها ستتحول إلى مخيم كبير للاجئين، أقرب إلى سجن واسع يضم بين جنباته مئات الآلاف، ممن تتقلص أمامهم الخيارات: إما البقاء تحت التضييق والانتهاكات المستمرة وتعريض حياتهم وسلامتهم للخطر، أو الرحيل ومغادرة القطاع، سواء عن طريق البحر إلى قبرص وغيرها، أو إلى الأراضي المصرية.
يتطابق هذا المخطط الخاص بـ”المدينة الإنسانية” مع خارطة “إعادة الانتشار” التي قدمها الوفد الإسرائيلي المفاوض في الدوحة، والتي فصلت مدينة رفح عن بقية القطاع، وجعلت السيطرة على الشريط الحدودي والمدينة بيد جيش الاحتلال، مع تحويل غزة إلى مستعمرات مفصّلة وكانتونات متباعدة، تعيد هندستها ديموغرافيًا وجيوسياسيًا بما يخدم مخطط التهجير.
ويُعد هذا الطرح ترجمة ميدانية لمطالب اليمين المتطرف، وعلى رأسه وزيرا الأمن القومي والمالية، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، اللذان هدّدا بالانسحاب من الائتلاف الحكومي حال إبرام اتفاق يقضي بوقف كامل ونهائي لإطلاق النار قبل تحقيق أهداف الحرب، وعلى رأسها القضاء الكلي على حماس وتهجير سكان القطاع.
ويتفنن الاحتلال بأدواته الاستعمارية واستراتيجياته العنصرية في تحويل مخطط التهجير من حلم يراود خيال نتنياهو واليمين المتطرف إلى واقع عملي ومنهج حياة، مستخدمًا في ذلك كل أساليب الضغط والانتهاكات، وسط مقاومة شرسة من الفلسطينيين الذين أجهضوا هذا المخطط قديمًا، وها هم يجدون أنفسهم حاليًا في جولة جديدة من تلك المعركة الوجودية.
ماذا عن المقاومة؟
تعلم حماس أن نتنياهو لا يريد إنهاء الحرب، وأنه يتعمّد إطالة أمدها إلى أقصى درجة ممكنة، لتحقيق أهداف ومكاسب سياسية خاصة، حتى لو كان الثمن تعريض أمن واستقرار الإسرائيليين للخطر، وهذا ما أكده تحقيق مطوّل لصحيفة نيويورك تايمز، أجراه ثلاثة من صحفيي الجريدة على مدار ستة أشهر، استنادًا إلى مقابلات مع أكثر من 100 شخصية من مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين وعرب.
توصل التحقيق إلى أن نتنياهو مدّد القتال في غزة في مراحل حاسمة من الحرب، لفترة أطول مما رأت القيادات العسكرية الإسرائيلية العليا أنه ضروري، وذلك لعدة أسباب، على رأسها رفضه الاستقالة من منصبه بسبب تهم الفساد التي تلاحقه منذ ما قبل الحرب، والتي اعتبرها فرصة للإفلات من العقاب.
وكشفت الصحيفة الأمريكية في تحقيقها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي فوّت العديد من الفرص التي كانت متاحة أمام الكيان، تتعلق بإبرام اتفاق تطبيع مع السعودية وعدد من الدول الأخرى، والانخراط في المحيط الإقليمي العربي والشرق أوسطي، فضلًا عن تشويه تلك الحرب لسمعة “إسرائيل” عالميًا، ونسف الصورة الذهنية الإيجابية التي كانت تهيمن على العقل الجمعي الدولي بشأن “إسرائيل الحضارية”.
حين دخلت حماس ورفيقاتها، بداية الشهر الحالي، الجولة الأخيرة من المفاوضات غير المباشرة مع الحكومة الإسرائيلية، ارتأت أن تُقدّم المزيد من المرونة على الطاولة، مدفوعة بالمعاناة الإنسانية لسكان غزة على مدار نحو 645 يومًا، مارس خلالها المحتل كافة أنواع الجرائم والانتهاكات الوحشية، أملًا في إنهاء تلك المأساة وإعادة الحياة إلى القطاع مرة أخرى، بعدما حوّلته آلة الاحتلال التدميرية إلى أرض محروقة.
تهجير قسري تحت النار.. بينما تستمر مفاوضات وقف إطلاق النار، تمضي "إسرائيل" في تنفيذ مشروع لإفراغ #غزة من سكانها، والسيطرة على 80٪ من أراضيها، عبر تصعيد المجازر بحق النازحين ودفعهم للتكدّس في أقل من ربع مساحة القطاع. pic.twitter.com/4uGk9tNGCh
— نون بوست (@NoonPost) July 11, 2025
ومن ثم قبلت – على عكس العادة – أن تطلق سراح 8 من الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لديها دفعة واحدة في اليوم الأول من الهدنة، دون ضمانات واضحة بأن تفضي تلك الهدنة المؤقتة إلى إنهاء تام للحرب، لكنها، في الوقت ذاته، وضعت لنفسها خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها مهما كانت المآلات، على رأسها: الانسحاب الكامل من القطاع، وإعادة سكان الشمال إلى مناطقهم، وإدخال المساعدات دون شروط.
وبالخريطة الأخيرة التي قدّمها المفاوض الإسرائيلي، تصبح المفاوضات عبثية لا قيمة لها، إذ إن الاستمرار فيها مع تمسك نتنياهو بما طرحه يعني شرعنة احتلال القطاع، وتحويله من عملية ميدانية مؤقتة إلى واقع دائم وتثبيت لتواجد الاحتلال العسكري، بما يعيد الوضع إلى ما قبل عام 2005، ويخدم الرؤية التوسعية الاستيطانية، ويقتلع القضية الفلسطينية من جذورها، ويجهض كافة المكتسبات اللوجستية التي حققتها عملية “طوفان الأقصى”، والتي دفعت الاحتلال وحليفه الأمريكي للانتقام بهذه الوحشية.
وقد صرّحت المقاومة أكثر من مرة، وعلى لسان كبار قادتها، أن ما فشل نتنياهو في تحقيقه على مدار 22 شهرًا من حرب الإبادة – التي استخدم فيها كل أدوات الإجرام – لا يمكن بأي حال أن يُنتزع عبر طاولة المفاوضات؛ فما لم يتحقق بالقوة العسكرية، من السذاجة توقع تحقيقه بالدبلوماسية والضغوط السياسية.
وبات واضحًا أن نتنياهو لا يريد إنهاء الحرب، بل يضع العراقيل أمام أي جهد دبلوماسي محتمل لوقف إطلاق النار، خاضعًا تمامًا لإملاءات اليمين المتطرف، ليؤكد عمليًا أن ما يصدر عنه من تصريحات حول “إيجابية المسار التفاوضي” لا يعدو كونه جزءًا من استراتيجية مراوغة جديدة لتخدير الشارع الإسرائيلي، مراهِنًا على عامل الوقت في القضاء على ما تبقى من قوة حماس، التي تزداد وتيرة عملياتها النوعية يومًا بعد يوم.
وبجانب رغبة المفاوض الإسرائيلي في عرقلة أي تهدئة محتملة عبر خريطته المرفوضة شكلًا ومضمونًا، يناور نتنياهو للتوصل إلى اتفاق وفق مقاييسه الخاصة، فهو لن يقبل بتهدئة لا يمكن توظيفها في “خطاب نصر” يحلم بإلقائه قريبًا، خطاب يؤمل من خلاله الحفاظ على مستقبله السياسي، وإسدال الستار على قضايا الفساد المتهم فيها، والالتحاق بقائمة “الخالدين” في خدمة الكيان، المحصنين من أي ملاحقة.
في نهاية المطاف، هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة لتعاطي المقاومة مع هذا الطرح الإسرائيلي، سواء أكان ضغطًا تكتيكيًا أم تهديدًا جديًا:
– القبول بالخطة الإسرائيلية بشكل أو بآخر، بما يشرعن الاحتلال، وهو سيناريو مستبعد تمامًا، مهما كانت أدوات الضغط والابتزاز؛ فالدرس الأهم المستفاد من 645 يومًا من الحرب، أن المقاومة لن تقايض بترسيخ الاحتلال على أراضي القطاع، مهما بلغ الثمن.
– المناورة عبر الميدان وضغوط الوسطاء للوصول إلى اتفاق مُرضٍ لا يمنح التواجد الإسرائيلي شرعية البقاء، حتى لو تضمّن بعض المرونة في تفاصيل الانسحاب التدريجي.
– المضي قدمًا في مسار المواجهة والمقاومة إلى ما لا نهاية، وهو خيار لا يصب في مصلحة أي من الطرفين، وقد يواجه بمعارضة داخلية واسعة داخل “إسرائيل” نفسها.