يضع عالم النفس أبراهام ماسلو في هرم الاحتياجات البشرية “التقدير الاجتماعي” بوصفه حاجة غريزية بشرية تأتي بعد الاحتياجات الأساسية من غذاء وأمن مباشرة، وعنده يتقدّم تقدير المجتمع للفرد على تقدير الفرد لنفسه؛ ذلك أنّ جزءًا كبيرًا من تقدير الذات يُبنى على المجتمع، بل إنّ المجتمع يشكل جزءًا غير قليل من صورة الذات نفسها.
ولم يخلُ عصر من العصور من محاولات الأفراد لتحقيق حاجتهم إلى التقدير المجتمعي بأشكال شتى؛ من ذلك أن الإنسان طوّر الآداب والفنون وطوّعها في كثير من الأحيان لينال أصحابها مثل هذا التقدير المنشود.
وفي عصر الانفجار الرقمي اليوم، تنتشر ظاهرة من نوع خاصّ منحت حتى غير أصحاب المواهب فرصةً سانحةً ليحظوا بهذا التقدير من دون كبير جهد؛ إذ لم يعد يتطلب نيل تقدير المجتمع سوى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لعرض تفاصيل الحياة الشخصية بشكل مبالغ فيه يكشف كل ما كان يُفترض قديمًا أنّه خاصّ بمن يمتلك مفاتيح البيوت، وبدأنا نرى أنماط حياة الأفراد وعلاقتهم بعائلاتهم وأنفسهم، ولكن كيف يمكن أن تُفسَّر هذه الظاهرة ضمن معطيات علم النفس ونظرياته؟
ثقافة العرض
وفّرت مواقع التواصل الاجتماعي فرصة حيوية للبشر لتنمية علاقاتهم وتحصيل الدعم الاجتماعي من الآخرين، وهي فرصةٌ مشروطة بقدرة الأفراد على تقديم أنفسهم باستمرار لجمهور المتابعين على تنوع خلفياتهم وبيئاتهم.
من هنا، فإنّ أول ما يشاركه الإنسان على مواقع التواصل الاجتماعي يكون مدفوعًا بالحاجة إلى الانتماء إلى الجماعة البشرية والتواصل مع الآخرين، وفي اللحظة التي يزداد فيها عدد المتفاعلين مع أخباره يكون قد سرق اعترافًا اجتماعيًّا صريحًا منهم يعزّز له ذاته.
ومن ثَمّ فإنّه يشكّل صورة جديدة عن نفسه أو يدعم صورة موجودة أساسًا، ومن المعلوم بالضرورة أنّ هذه الصورة قد تكون مضلِّلة ولا تمتّ للحياة الواقعية بصلة، لكنها تظل وسيلة نفسية للهروب من حقيقة الواقع نحو حياة افتراضية تلقى استحسانًا يُشتّت الفرد عن واقعه ويمنحه الرضا.
في دراسة بعنوان “أثر السوشال ميديا على الثقة بالنفس”، كشف الباحثون عن وجود علاقة عكسية بين الثقة بالنفس واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي؛ فكلما زاد الوقت الذي يقضيه الفرد في هذه المواقع انخفضت ثقته بنفسه؛ لأنّ زيادة الوقت هنا تعني زيادة معدل تصفح الفرد لحياة الآخرين ومقارنة ما يعرضونه بحياته الشخصية، ما ينمّي الشعور بالتنافس والحسد.
وهذا قد يقود الفرد الذي يشعر بالسوء تجاه نفسه وحياته إلى محاولة التماهي مع هذه الحيوات المثيرة المعروضة، فيبدأ إما بتزييف حياته بعرضها بشكل مبهر على مواقع التواصل أو بالتحيز في النشر، فلا يعرض إلا الجزء الجميل من واقعه؛ لأنّ التقييم الإلكتروني والتفاعل الإيجابي سيعزّز مستويات الثقة بالنفس لديه.
وهذا يضع في عين الاعتبار أنّ الهوس في نشر الحياة الشخصية تعبير واضح عن أزمة في الثقة بالنفس، تدفع صاحبها إلى محاولة تعزيز نفسه من خلال المجتمع المتفاعل مع ما يعرضه على المواقع؛ فكلما تدنّى مستوى الثقة بالنفس زادت كمية العرض، كما أنّ الهوس في نشر الحياة الشخصية يدلّ على عجزٍ عن تأكيد الذات، ورغبة في انتزاع اعتراف بها.
الهُوية الافتراضية
يصنع المشاهير هوية افتراضية متجهة نحو أنفسهم من خلال العمل على بُعدين؛ ماديّ ومعنويّ. أما البعد المادي فيتمثل في تعديل الصور التي يطرحها المشهور للناس لإظهارها أجمل وخالية من العيوب، واختيار اللحظات المثالية لتوثيقها ونشرها؛ وهي لحظات توحي للجمهور بأن حياة هذا المشهور مليئة بكل ما هو بهيج، إضافة إلى محاولة صناعة نمط حياتي مميز وجذاب عن طريق الانخراط في الأنشطة الترفيهية والرحلات والمشتريات الفخمة، وكلّ هذا يوحي بأنّ هذا المشهور يعيش حياة ذات مستوى عالٍ من الراحة والرفاهية والترف ينشدها معظم من يتابعه ويغبطه.
ويتمثل البعد المعنوي في إبراز الجوانب الإنسانية التعاطفية للجمهور؛ بذكر صعوبات العيش التي مرّ بها المشهور، والحوادث والأشخاص الذين أضرّوا به، أو بعض العُقَد والأمراض النفسية (وحتى البدنية) التي مرّ بها، ثمّ ينتقل إلى طرح الإيجابية والتفاؤل التي تنطوي على التغلب على التحديات، ومواجهة الحياة، وبثّ بعض المبادئ الاجتماعية التي تشمل رحمة الآخرين، وبُغض التنمر والتقييم السلبي، وتشجيع المساعدات الاجتماعية.
غير أنّ هذين البُعدين لا يتعلقان بالضرورة بجوانب نفسية بقدر ما يساعدان في تعزيز هوية افتراضية يبنيها المشهور عن نفسه لغاية صناعة علامة شخصية له؛ أي إنّ الأمر يحمل في طياته عاملًا اقتصاديًّا يجلب من خلاله المشهور تسويقًا وشراكات، ومن ثَمّ تدعم صورتُه الافتراضية وضعَه المادي؛ إذ يبحث أصحاب المشاريع عن مسوّقين يثق بهم المجتمع، وتُرصد هذه الثقة لدى صاحب المشروع من عدد متابعي هذا المشهور والمتفاعلين معه.
إنّها ثقة رقمية قائمة على صورة رقمية، يستفيد منها المشهور بعرض كل ما يريده لجمهور متابعيه الذين منحوه رضاهم ووقتهم، ويستطيع من ثَمّ التأثير عليهم بسهولة.
الانعكاسات النفسية
إنّ ما يبنيه الشخص من صورة مميزة عن نفسه على مواقع التواصل الاجتماعي قد ينعكس سلبًا عليه؛ بسبب تضارب الهوية الشخصية مع تلك الافتراضية التي بناها للمجتمع، ما يدخله في دائرةٍ من القلق والتزييف؛ فيُصرّ على المحافظة على هذه الصورة المثالية التي صدّرها عن نفسه وحياته للآخرين، ومن ثَمّ صار الآخرون يطلبونها في تمثلات حياته اليومية.
إنّ هذه الصورة الرقمية قد تُضِرّ بعلاقات المشهور الواقعية؛ إذ يصير كثير التوتر من ألا تكون حقيقتُه مُرْضِيَة وجالبة للتعزيز النفسي كتلك التي يطرحها على العالم الافتراضي، ويزداد عنده الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية التي يعجز في كثير من الأحيان عن مجاراتها.
ومن الأمثلة المهمة التي رأيناها مؤخّرًا في أحداث غزة سعيُ كثير من المتابعين إلى انتزاع مواقف ممن يتابعونهم تجاه ما يحدث، من دون أن يتأملوا في أنّ هذا الذي يطالبونه بإصدار موقف من الأحداث هو في النهاية إنسان عادي قد لا يستطيع تشكيل موقف أصلًا من الأحداث، وقد تكون شهرته كلها لأسباب بعيدة كل البعد عن السياسة ومجرياتها. وفي ظل الضغط المتواصل على المشاهير لانتزاع المواقف منهم، رأينا تصريحات في غاية الضحالة من بعض المشاهير تنمّ عن جهل فظيع بما يحدث.
تولّد ثقافة العرض ضغطًا اجتماعيًّا حقيقيًّا على كلّ من صنّاع المحتوى والمتابعين؛ بسبب تأسيس العلاقة بين الطرفين على بناء صورة مثالية تصعد بالأسهم الاجتماعية للمُتابَع وتُبقي عليه في حالة من “سطوع السمعة” إذا صحّ التعبير؛ فيغدو خطأُ هذا المشهور غير مغتفر، ويغدو مراقَبًا في كلّ ما يصدُرُ عنه من قبل متابعيه الذين درّبهم على صورة مثالية لا يقبلون معها أيّ هفوة منه.
أمّا المتابعون، فإنّ المقارنة التي يُقيمونها مع حياة المشهور تُشعرهم بالاستياء إزاء واقعهم الذي يبدو عاديًّا وخاليًا من أيّ مميّزات، ومن ثَمّ تضغطهم مقارنة التعزيز الاجتماعي الذي يناله هذا المشهور والمكانة التي وصل إليها وجعلته محاطًا بالمعجبين والمحبين الذين يدعمونه دائمًا معنويًّا وماديًّا، فيُحبَطون من المستوى الاجتماعي والتقدير الذي تُلحّ عليهم غريزتهم به.
وهذا هو ما يفسّر الغزارة الكبيرة في عدد صنّاع المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعيّ؛ فالتقدير الذي يمنحُه المجتمع الرقمي للمشهورين يُغري الطبيعة البشرية، ويحوّل الإنسان العاديّ الذي بالكاد يحظى بتقدير دائرته الضيقة إلى إنسان يحظى بتقدير دائرة واسعة من المتابعين حول العالم.