ليس من الصحيح الحديث عن “اتفاقية” لتنظيم الملاحة بين العراق والكويت في خور عبدالله، لأنها، في حقيقة الأمر، كانت “مذكرة تفاهم” بين البلدين، تحولت إلى اتفاقية عام 2013 بسبب غفلة أو قلة خبرة سياسية من السياسيين العراقيين (إن أحسنَّا الظن).
هذا ما أكده اللواء الدكتور جمال الحلبوسي، وهو قائد عسكري متقاعد متخصص في المساحة العسكرية، حيث أوضح في لقاءٍ له مع إحدى القنوات الفضائية، أنه في عام 2012 قدّمت الكويت، وعن طريق وزير خارجيتها آنذاك، “مذكرة تفاهم” لتنظيم الملاحة في خور عبدالله بين العراق والكويت.
لكن المذكرة، حينما وصلت إلى مكتب رئاسة الوزراء في عهد نوري المالكي، قام أحد الشخصيات المهمة في مكتب رئيس الوزراء بتحويلها إلى اتفاقية للتخلص من المشاكل مع الكويت (بحسب ظنه)، وعُرضت على البرلمان العراقي، الذي وافق عليها بسبب الأغلبية التي كانت تتمتع بها الأحزاب المتحالفة مع حكومة نوري المالكي.
إقرار الاتفاقية في مجلس النواب سبّب غضبًا شعبيًا في العراق، وخرجت تظاهرات كبيرة ضدها، معتبرين إياها تفريطًا بحقوق العراق في مياهه الإقليمية، لكن المحكمة الاتحادية قامت عام 2023 بإبطال التصويت على قانون الموافقة على الاتفاقية، بعد أن قدّم كل من النائب رائد المالكي والنائب محمود المسعودي، عام 2020، طعنًا للمحكمة الاتحادية ضد قرار موافقة البرلمان.
وقد بررت المحكمة قرارها بسبب عدم دستورية عملية التصويت، لأن قرار الموافقة لم يحصل على أغلبية الثلثين من أعضاء المجلس كما تنص المادة 61 من الدستور. وبحسب قرار المحكمة، أوجبت إعادة تشريع قانون التصديق على الاتفاقية أصوليًا.
لكن في أبريل/نيسان من عام 2025، قدّم كل من الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، طعنين منفصلين في قرار المحكمة الاتحادية الذي أبطل التصويت داخل البرلمان على الاتفاقية، وطالبا المحكمة بالعدول عن قرارها والعودة لاعتماد قانون الاتفاقية.
أهمية خور عبدالله
لتفسير الإصرار الشعبي العراقي على عدم التفريط بحقوق العراق في الخور، مقابل تمسّك الكويت الرسمي به، لا بد من استعراض الأهمية الاقتصادية وحتى الأمنية لهذا الخور لكلا البلدين.
من الجانب العراقي، يُعد خور عبدالله ذا أهمية اقتصادية عالية جدًا للعراق، لكونه الممر المائي الوحيد الذي يربط العراق بدول العالم بحرًا، ولا غنى للعراق عنه لمرور تجارته البحرية، لا سيما وأنه بلد حبيس لا يمتلك منفذًا بحريًا سوى ما يقارب 58 كم فقط، وليست جميعها صالحة لإنشاء الموانئ بسبب تراكم الطمر الطيني سنويًا، لذلك يستفيد العراق من هذا اللسان البحري (خور عبدالله) لإنشاء موانئ بحرية مثل ميناء أم قصر وميناء الفاو.
في المقابل، تتمتع الكويت بساحل طويل على مياه الخليج الغربي، يبلغ 195 كم، ولها الحرية في إنشاء موانئها دون أن تواجه مشاكل مع دول الجوار، لكنها تنظر للأمر نظرة مستقبلية، تراهن فيها على استمرار الفوضى والانقسام السياسي في العراق، مما يمكنها من غلق كل منفذ بحري للعراق، لتجعل العراق معتمدًا على موانئها وتُعيد إدخال البضائع إليه عبر الربط السككي.
على هذا الأساس، أنشأت الكويت ميناء مبارك في خور عبدالله على الضفة الكويتية، لتُضيّق ممر الملاحة إلى أدنى حد على السفن المتجهة إلى ميناء أم قصر، مما يجعل مرور البواخر العملاقة من الجانب العراقي أمرًا مستحيلاً بسبب قلة العمق، على عكس الجانب الكويتي.
ولهذا، سعت الكويت لتوقيع اتفاق آخر مع سياسيين عراقيين للربط السككي، لتوريد البضائع عبر ميناء مبارك، ثم إدخالها للعراق عبر السكك الحديدية، ما يحقق لها مكاسب مالية كبرى ويُبقي العراق رهينة تجاريًا.
أما أمنيًا، فالعراق بأمس الحاجة لهذا الخور لتعزيز أمنه البحري بسبب ضيق إطلالته، ولأنه لا يستطيع بناء قوة بحرية معتبرة كما تفعل إيران، التي خاض معها حربًا لثمان سنوات، فحين احتلت إيران منطقة الفاو، كان العراق بحاجة إلى عمق جغرافي للدفاع عنها.
كما أن أغلب الاحتلالات للعراق في التاريخ الحديث استُغلت فيها هذه المنطقة للتوغل في أراضيه، كما حصل مع القوات البريطانية في الحرب العالمية الأولى، ومع محاولات إيران في الثمانينات لمحاصرته بحريًا.
أما الكويت، فتنظر إلى هذه المسألة من وحي الغزو العراقي لها عام 1990، وترى أن توغلها في المياه والأراضي العراقية قد يوفر لها درعًا واقيًا لأي تهديد مستقبلي محتمل من العراق (بحسب تقديرها).
تاريخ الخلافات
لو رجعنا إلى جذور الخلافات التاريخية حول عائدية خور عبدالله، فلربما نعود إلى فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، فقد كان هناك خلاف بين الدولة العثمانية التي كانت تدير العراق في ذلك الوقت، وبين بريطانيا التي كانت توفّر الحماية للكويت وتدير معاملاته الخارجية نيابة عن القبائل التي تعيش فيها.
وتم توقيع معاهدة بين الدولتين أُسميت “معاهدة العديد” في عام 1913. هذه المعاهدة كانت تهدف إلى تحديد الحدود، لا سيما منطقة خور عبدالله. وتضمنت الاتفاقية، بما يتعلق بالخور، التأكيد على حرية الملاحة فيه، لاعتباره ممرًا استراتيجيًا هامًا.
أما في فترة حكم حزب البعث للعراق منذ عام 1968، فقد رفض العراق الاعتراف بالحدود مع الكويت، وكان موقف الحكومة العراقية أن جزيرتي وربة وبوبيان والساحل المقابل لهما تقع ضمن الأراضي العراقية، لكن المشكلة الحديثة التي نحن بصددها، بدأت بعد غزو العراق للكويت، ومن ثم تلتها عملية تحرير الكويت التي عُرفت بحرب الخليج الثانية.
وفي عام 1993، أصدر مجلس الأمن الدولي قرارًا برقم 833 يقضي بترسيم الحدود بين البلدين، والذي بموجبه تم رسم الحدود البرية بين الدولتين، أما فيما يخص الحدود البحرية، فإن الترسيم لم يشمل كامل المنطقة البحرية.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الاتفاقية لم يرد فيها شيء يتعلق بترسيم الحدود البحرية، لكن تم تقسيم خور عبدالله بين الدولتين، بحيث إن الحدود البحرية من العلامة 107 إلى 110 تكون فيها المياه للعراق واليابسة للكويت، ومن النقطة 111 إلى 134 التي تمثل خط الهالوك، يكون المجال البحري للعراق أكبر من المجال الكويتي، أما من النقطة 134 إلى النقطة 162، وهو خور عبدالله، فيكون مناصفة بين العراق والكويت.
وهذه المنطقة بالذات ضيقة جدًا بالنسبة للملاحة، مما يحرم العراق من امتلاك موانئ عميقة، حيث إنها اعتمدت على الترسيم الصفري، من اليابسة إلى اليابسة، وليس على أساس خط التالوك (أعمق نقطة بحرية بين طرفين)، وهذا ما جعل أغلب القناة الملاحية العميقة ضمن الحدود الإقليمية للكويت، ما يجعل البواخر تتبع مسارًا في منتصف الممر أو يساره، أي في الجزء التابع للكويت.
العراق لم يعترف بترسيم الحدود البحرية، ولم يُمثّله أحد في مباحثات الترسيم، وبقي الأمر معلقًا إلى حين سقوط النظام العراقي عام 2003، فوجدت الكويت فرصة مناسبة للتوصل مع السياسيين العراقيين الجدد إلى صيغة يعترفون فيها بهذا الترسيم البحري وعقد اتفاقية ملاحة معهم.
مع كل هذا، فإن الاتفاقية البحرية الأخيرة التي أبطلتها المحكمة الاتحادية لم تكن تحمل في فقراتها موادًا قانونية تنص على ترسيم الحدود المائية، إنما كانت نقاطًا وبنودًا لتنظيم الملاحة البحرية والمحافظة على البيئة البحرية في الممر الملاحي، بل إن المادة رقم (6) من هذه الاتفاقية نصّت على عدم تأثير هذه الاتفاقية على الحدود بين البلدين.
من جانب آخر، فإن نص قرار مجلس الأمن رقم (833) لسنة 1993 كان يحمل معه أخطاء لا تتناسب مع القانون الدولي، لأن العراق في ذلك الحين كان يخضع للفصل السابع، وبالتالي فإنه فاقد للسيادة ولا يمكنه الدخول في اتفاقيات ملزمة. وعليه، فلا يمكن لمجلس الأمن تشكيل لجان لترسيم الحدود دون أن يكون هناك ممثل للدولة العراقية كاملة السيادة على أراضيها.
لماذا الضغط على تمرير الاتفاقية؟
نعتقد أن السياسيين العراقيين قاموا بتمرير اتفاقية الخور عام 2013 لأنهم كانوا بحاجة ماسة للخروج من البند السابع لمجلس الأمن بأي ثمن، ومن خلفهم كانت إيران تحثهم على فعل أي شيء للخروج من طائلة تلك المادة واستلام زمام الأمور في العراق، وبما أن قضية الحدود البرية والبحرية كانت إحدى أهم القضايا التي تؤثر على إخراج العراق من هذا البند، فقد عمل السياسيون العراقيون سريعًا على إقرار اتفاقية خور عبدالله.
أما حاليًا، فإن الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، لديهما رغبة شديدة في إقرار الاتفاقية بسبب عدم رغبتهما في اختلاق المشاكل مع محيط العراق العربي، حتى لو تم ذلك بالتفريط بجزء من حقوق العراق البحرية.
ويأتي ذلك بسبب العزلة الشديدة التي يعاني منها النظام العراقي، وخشيته من ازديادها، ورغبته بالانفتاح على دول الخليج وتصفير مشاكله معها، كما ترى حكومة السوداني، الأمر الذي يدعو للاستغراب، أن إيران، التي ترعى الأحزاب الحاكمة في بغداد، كانت تدفع بشدة لإقرار الاتفاقية مع الكويت عام 2013، لكننا نجدها اليوم تدفع بقوة، من خلف الكواليس، أطرافًا سياسية وأخرى قضائية للتنصل من هذه الاتفاقية ومحاولة إلغائها.
ويُرجع ذلك إلى رغبة إيران في إيجاد بؤرة توتر جديدة مع دول الخليج، لتفرض عليهم مواقف سياسية أو اقتصادية، كما فعلت وتفعل في الحالة اليمنية. الأمر الآخر، أن إيران لديها مشاكل مع الكويت في موضوع حقل الدرة الغازي، الذي تدعي أن لها حصة فيه، بينما تقول الكويت والسعودية إن الحقل هو منطقة بحرية مشتركة بين البلدين، لذلك فهي تحاول خلق مشاكل للكويت لتقوي موقفها في مطالبتها بحصة من حقل الدرة.
التطور اللاحق
قامت المحكمة الاتحادية بإرجاء النظر في الطعنين المقدّمين من قبل الرئيسين رشيد والسوداني إلى وقت لاحق، من دون ذكر أسباب التأجيل، ما أطلق افتراضات لدى البعض بوجود حسابات سياسية واعتبارات غير قضائية وراء القرار، بعدها، قدم ستة من أعضاء المحكمة استقالتهم، ثم تبعهم رئيس المحكمة القاضي جاسم العميري، ليدخل العراق في فراغ قضائي مستعصي على الحل.
لكن سرعان ما تم اعتماد قاضٍ جديد لرئاسة المحكمة الاتحادية، حيث أعلن مجلس القضاء الأعلى ترشيح القاضي منذر إبراهيم حسين رئيسًا للمحكمة، أعقبه سريعًا مرسوم جمهوري بتعيينه رسميًا، علمًا أن مجلس القضاء الأعلى، برئاسة القاضي فائق زيدان، من المؤسسات المقربة للسوداني، ما يعكس رغبة شديدة من الرئاسة ورئاسة الوزراء لنقض قرار المحكمة المتعلق باتفاقية خور عبدالله.
مع ذلك، فإن تشكيلة المحكمة الاتحادية الجديدة لا تزال تضم عددًا كبيرًا من القضاة الرافضين للاتفاقية، وبالتالي فإن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وصلا إلى قناعة بأن إعادة النظر بقرار المحكمة يصعب تمريره. وعلى هذا الأساس، اتفق رئيسا الجمهورية عبد اللطيف رشيد والوزراء محمد شياع السوداني على سحب طلبهما من المحكمة الاتحادية للعدول عن قرارها في قضية تنظيم الملاحة في خور عبدالله. وينويان تقديم الاتفاقية للتصويت عليها في البرلمان مرة أخرى، للحصول على موافقته بنسبة الثلثين، وهو أمر غير مرجّح.
هل من آفاق لحل مشكلة خور عبدالله؟
يرى السياسيون الداعمون لتمرير اتفاقية خور عبدالله مع الكويت، أنه يمكن تجاوز نقض المحكمة لجلسة التصويت من خلال إقامة تصويت جديد وتحقيق الأغلبية المطلوبة لإقرارها، وهذا ما انتهى إليه رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.
فيما يرى السياسيون الرافضون للاتفاقية، أنه من الممكن للعراق اللجوء إلى المحاكم الدولية للتحكيم بين البلدين، على اعتبار أن الاتفاقية أبرمت في ظروف استثنائية وتحت طائلة الفصل السابع لمجلس الأمن، كما أن إلغاء مشروع الربط السككي مع الكويت سيجعل من ميناء مبارك بلا جدوى، وقد تزهد الكويت بالاتفاقية البحرية مع العراق.
وقبل كل شيء، على السياسيين العراقيين أن ينتزعوا قرارهم السيادي من القوى الخارجية، وينهوا مشاكلهم السياسية الداخلية، وإلّا فإن البلد الممزق سيبقى فريسة سهلة لدول الجوار وغيرها من القوى، ولا يمكن حماية العراق وأرضه إذا بقي على هذا الحال من التمزق والانقسام.