أدرج البرلمان الأوروبي الجزائر ضمن الدول عالية المخاطر في مجال تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، بالرغم من الجهود التشريعية التي تبذلها في هذا المجال، مما يجعل هذا الملف أحد المحاور الخلافية بين الطرفين اللذين يستعدان لمراجعة اتفاق الشراكة الموقع بينهما قبل أكثر من 20 سنة، والذي صبّ طيلة هذه المدة في صالح الجانب الأوروبي.
ورغم إبداء الجزائر تعاونها مع المؤسسات الأوروبية التي تصدر هذه التصنيفات لتحيين تشريعاتها، وهو ما تعكف عليه اليوم، إلا أن إدراجها في هذه المرتبة من التصنيف يبعث على الكثير من الريبة حول خلفياته، ومدى وقوف اليمين الفرنسي وراء إصداره في هذا الظرف الذي تشهد فيه العلاقات بين باريس والجزائر إحدى أصعب مراحلها، بوصولها إلى مستوى غير مسبوق من التوتر.
الخلفيات السياسية والفرنسية للتصنيف
صادق البرلمان الأوروبي الأسبوع الماضي على قرار يدرج الجزائر ضمن قائمة الدول عالية المخاطر في مجال تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وهو ما سيُخضع المعاملات المالية الخاصة بالجزائر لمراقبة مشددة وإجراءات يقظة مضاعفة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بهدف تقليص “مخاطر التمويل غير المشروع” التي يزعمها هذا التقرير، وضمان مزيد من الشفافية في تتبع حركة رؤوس الأموال.
ويزعم البرلمان الأوروبي أن القرار، الذي سيدخل حيز التنفيذ في الأسابيع القادمة، يُترجم ما ورد في تقارير تحدثت عن وجود “نقائص كبيرة” في نظام الوقاية المعتمد من قبل الجزائر، خصوصًا فيما يتعلق بتتبع الأموال، ومراقبة المنظمات غير الحكومية، والتعاون القضائي الدولي. وبموجب هذا التصنيف، سيتعين على المصارف والمؤسسات المالية الأوروبية تطبيق تدابير رقابية إضافية عند التعامل مع نظيراتها الجزائرية.
ولم يكن قرار الاتحاد الأوروبي مفاجئًا، بالنظر إلى كونه استمرارًا لتصنيف صدر عن المفوضية الأوروبية بداية شهر يونيو/حزيران الفارط، بعد إدراج الجزائر من قبل مجموعة العمل المالي ضمن القائمة السوداء، والتي تشمل دولًا مثل أنغولا وساحل العاج وكينيا ولاوس ولبنان وموناكو وناميبيا ونيبال وفنزويلا، وهي دول اعتُبر أنها تحتاج إلى مراقبة إضافية لضوابط غسل الأموال المعتمدة فيها.
وتقوم مجموعة العمل المالي، التي تتّخذ من باريس مقرًا لها، بمراجعة دورية للجهود التي تبذلها أكثر من 200 دولة في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
ورغم أن القرار لا يترتب عنه فرض أي عقوبات على الجزائر أو تقييدا للمبادلات التجارية بين الطرفين، إلا أنه يحمل دعاية سلبية حول إجراءات الدولة المدرجة في هذا التصنيف بشأن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وبموجب هذا التصنيف، ستلجأ بنوك الاتحاد الأوروبي إلى إجراء فحوص إضافية واعتماد ضوابط أكثر تشددًا على المدفوعات المتعلقة بالأفراد والمؤسسات المالية الجزائرية، وذلك بهدف تحسين رصد أي تدفقات مالية مشبوهة.
ليس بريئا؟
رغم أن الحكومة الجزائرية لم تُصدر حتى اليوم أي تعليق بشأن هذا التصنيف، كما اعتادت في مواقف سابقة تجاه بعض قرارات البرلمان الأوروبي، إلا أن البعض يرى أن هذا التصنيف يحمل في طياته الكثير من الشكوك، كونه يستند إلى تقرير صادر عن مجموعة العمل المالي التي يقع مقرها في فرنسا، في وقت تمر فيه العلاقات الجزائرية الفرنسية بأحلك فتراتها.
وتبرز اليد الفرنسية في هذا القرار من خلال تصريحات نوابها اليمينيين في البرلمان الأوروبي، فقد اعتبرت النائبة الفرنسية لورانس تروشو، العضو في كتلة المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين، التصنيف الذي استهدف الجزائر بأنه “نبأ سار”، وذلك في تغريدة لها على منصة “إكس”.
وتشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية توترًا غير مسبوق، وصل حدّ سحب واستدعاء السفراء، في ظل حملة واسعة يقودها اليمين المتطرف ضد الجزائر، تدعو إلى فرض عقوبات عليها، وإلغاء اتفاقية الهجرة الموقعة عام 1968، فضلًا عن تضييق أمني يتعرض له العديد من الجزائريين المقيمين في فرنسا.
ويُطرح التساؤل أيضًا حول توقيت هذا القرار، الذي يأتي في وقت يستعد فيه الطرفان لمراجعة اتفاق الشراكة الموقع في 2003، والذي تقول الجزائر إنه صبّ في مصلحة الطرف الأوروبي، بعدما تحولت إلى سوق للسلع الأوروبية نتيجة تفكيك الرسوم الجمركية، مما دفعها إلى اتخاذ إجراءات وقائية بتقييد الاستيراد.
وقبل أكثر من عام، في يونيو/حزيران 2024، أعلن الاتحاد الأوروبي اعتزامه مباشرة إجراءات لتسوية الخلافات مع الجزائر. وأعلنت المفوضية الأوروبية حينها في بيان أن “الاتحاد الأوروبي أطلق إجراء لتسوية الخلافات بحق الجزائر”، مضيفة أن “الهدف هو بدء حوار بنّاء يهدف إلى رفع القيود في عدة قطاعات، من المنتجات الزراعية إلى السيارات”.
وانتقد الاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص “نظامًا لتراخيص الاستيراد توازي مفاعيله حظر استيراد، ومساعدات مشروطة باستخدام قطع مصنّعة محليًا لمصنّعي السيارات، وفرض سقف للمشاركة الأجنبية في الشركات المستوردة للمنتجات إلى الجزائر”.
وتشترط الجزائر وجود تصنيع محلي بنسبة إدماج تصل إلى 30% على الأقل في قطاع السيارات وقطع الغيار لقبول استيراد مركبات من الخارج، بما في ذلك من دول الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الإبقاء على اعتماد قاعدة 51/49 بالنسبة للاستثمارات الأجنبية في القطاعات الإستراتيجية مثل الطاقة والمناجم والموانئ وغيرها، وهو ما يعتبره الاتحاد الأوروبي تراجعًا عن الاتفاق الموقع بين الطرفين، والذي ينصّ على تحرير المبادلات التجارية.
وأعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال اجتماع مجلس الوزراء المنعقد في 26 يناير/كانون الثاني الماضي، أن مطالبة بلاده بمراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي “ليست على خلفية نزاع، وإنما دعمًا للعلاقات الطيبة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي كشريك اقتصادي، ترتكز على مبدأ رابح – رابح”.
وبيّن الرئيس تبون أن التوجه نحو مراجعة هذا الاتفاق “تفرضه معطيات اقتصادية واقعية”، إذ منذ دخوله حيز التنفيذ في 2005، كانت صادرات الجزائر تعتمد أساسًا على المحروقات، بينما اليوم تنوعت وتوسعت صادراتها خارج قطاع المحروقات، لاسيما في مجالات الإنتاج الفلاحي، والمعادن، والإسمنت، والمواد الغذائية وغيرها.
ويرى خبراء اقتصاديون جزائريون أنه من غير المستبعد أن يكون التصنيف الأوروبي بشأن مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب مجرّد آلية ضغط أوروبية سيتم استخدامها عند الجلوس إلى طاولة المفاوضات، بهدف عدم سحب المزايا التي حصلت عليها القارة العجوز عند توقيع الاتفاق قبل أكثر من 20 سنة، خاصة وأن الجزائر أبدت في كل مرة تجاوبًا إيجابيًا لمعالجة النقاط التي انتقدتها مجموعة العمل المالي.
جهود الجزائر التشريعية والقانونية
فضلت الجزائر عدم الرد على هذا الانتقاد الأوروبي، وواصلت الجهود التي تبذلها في هذا المجال، إذ سبق لها أن سنت قانونًا يتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب منذ عام 2005، وهو قانون خضع لتعديلات كلما اقتضت الضرورة، من بينها النص الجديد الذي عُرض هذا الأسبوع على البرلمان لمناقشته وإثرائه.
وقال وزير العدل الجزائري، لطفي بوجمعة، لدى عرضه مشروع القانون المتعلق بالوقاية من تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتهما أمام البرلمان، إن هذا النوع من الجرائم يقتضي “التكييف المستمر للإطار القانوني المتعلق بالوقاية منها، لجعله يواكب المعايير الدولية، لا سيما التوصيات الأربعين لمجموعة العمل المالي”.
وأضاف أن الصيغة المعدلة لهذا القانون تأتي “تجسيدًا لتعليمات الرئيس عبد المجيد تبون، الذي أمر بتنفيذ توصيات مجموعة العمل المالي قصد رفع تحفظاتها”.
ويُفهَم من تصريحات وزير العدل أن الجزائر فضّلت التكيّف مع المتطلبات الأوروبية، وتجنّبت الصدام الذي قد يكون مضرًّا للطرفين، خاصة في ظل مبادلات تجارية بينهما تُقدّر بـ22 مليار دولار.
ويتضمن مشروع القانون المعدل تطبيق التدابير المتعلقة بحظر نشاط الأشخاص والكيانات الإرهابية المسجّلين في القائمة الوطنية ذات الصلة، علاوة على اتخاذ إجراءات تجميد و/أو حجز أموالهم ومنع التعامل معهم، وهو ما يضاف إلى التدابير المنصوص عليها في قائمة العقوبات الموحّدة لمجلس الأمن الأممي.
ولدحض الانتقادات الخارجية، يُلزم مشروع القانون الجديد السلطات المختصة بالتعاون وتبادل المعلومات مع نظيراتها في الخارج، بشكل تلقائي أو عند الطلب، وذلك وفقًا للاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف، تماشيًا مع الالتزامات الدولية للجزائر.
وقد شكّل هذا الملف أولوية للحكومة الجزائرية في السنوات الأخيرة، من خلال الاجتماعات المتوالية للجنة الوطنية لتقييم مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وتمويل انتشار أسلحة الدمار الشامل، التي عقدت دورتها العادية في 6 مارس/آذار.
وقالت وزارة المالية الجزائرية إن اجتماع مارس هدف إلى المتابعة الدورية للأعمال الجارية على مستوى كل القطاعات المعنية بتنفيذ خطة العمل المتفق عليها مع مجموعة العمل المالي، والمتضمنة 13 إجراءً موصى به، والمتعلقة بتحيين المنظومة الوطنية للوقاية من مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحتها، وتحسين فاعليتها لضمان خروج الجزائر من قائمة الدول الخاضعة للمتابعة المعززة في أقرب الآجال.
وأعلنت الجزائر تعاونها مع مجموعة العمل المالي منذ تقرير التقييم المتبادل لعام 2023، إلا أن ذلك لم يمنع المجموعة الأوروبية من إدراج الجزائر ضمن “القائمة الرمادية” في أكتوبر/تشرين الأول 2024، ثم إدراجها لاحقًا ضمن القائمة السوداء، مما يعني أن القضية لا تتعلق بمراجعة التشريعات فقط، بل تشمل ملفات أخرى يتوجب على الطرفين حلها قبل الدخول في مفاوضات موسعة تتعلق بمراجعة اتفاق الشراكة الذي سيرسم أسس تعاون البلد المغاربي مع الضفة الشمالية للمتوسط.