“لا صوت يعلو الآن فوق صوت البطون الخاوية، ولا حديث يسبق صرخة الجوع في شوارع غزة، فالجوع أوجع الكبير قبل الصغير، نحن وأبناء شعبنا لا نعيش…نحن ننتظر الموت فقط، قصفًا، جوعًا، أو عطشًا”.. بهذه الكلمات وصف الصحفي الفلسطيني، مراسل قناة الجزيرة، أنس الشريف، الوضع المأساوي الذي يعاني منه أبناء قطاع غزة.
أجساد تتساقط، وورود تذبل، وأرواح تٌزهق، وهياكل عظمية تخترق الجلود، جوع يسكن البيوت، وصرخات صامتة تطلقها الأمعاء الخاوية، وحياة تكتب سطورها الأخير، وشعب يقف على أعتاب الهاوية، وأمة تراقب من بعيد، مكتفية بوضع اليد فوق الخدود، وسكب عبرات خاطفة تخمد بها ضميرها الميت، وعالم يعاني من تضخم في الخذلان وتورم في العجز وتوقف في عضلة الإنسانية، وشلل تام في الإحساس، فيما توضع العدالة على أجهزة التنفس الصناعي بينما تلفظ أنفاسها الأخيرة.
يواجه مليونا إنسان في غزة واحدة من أقذر جرائم الإبادة في التاريخ الحديث، هندسة ممنهجة للتجويع وتحويل حق الإنسان في البقاء عبر الطعام والشراب إلى وسيلة ضغط وسلاح عنصري فتّاك، حوّل شعب بأكمله إلى قوائم موت بطيء، كل ينتظر دوره، من لم يمت قصفًا حتمًا سيلقى حتفه جوعًا، ومن يفكر في إنقاذ ما تبقى من روحه وغامر بحثًا عن كيس طحين أو كسرة خبز، سيعود جثة هامدة بعدما يقع فريسة مصائد الموت أو ما تعرف بـ أماكن توزيع المساعدات.
ما يحدث في غزة اليوم فاق كافة التوقعات، وتجاوز كل سرديات العنصرية والإجرام الوحشي التي وثقتها كتب التاريخ، أمة عن بكرة أبيها تتعرض لمؤامرة الموت جوعًا، مشاهد مٌرعبة، ولقطات تنسف الضمير الإنساني من جذوره، وتزلزل جدران الحضارة المزعومة، في شريط يٌعرض على الهواء مباشرة بالصوت والصورة، ويكأنها سينما هوليودية واقعية تضاهي أفلام “مجاعة ماو الكبرى” و “مستر جونز” و ” Black 47 “.
إعلان المجاعة بشكل رسمي
يهندس الاحتلال الجوع والعطش كسلاح أساسي في معركته ضد غزة، خاصة بعد استئناف الحرب في 18 مارس/ آذار الماضي، حيث ارتفعت وتيرة التجويع بمستويات غير مسبوقة، عبر آلية متكاملة من الإجراءات من خلال إغلاق المعابر الحدودية ومنع إدخال شاحنات المساعدات واستبدالها بما بات يعرف بـ”نقاط الموت”.
وأكثر من 100 ضحية تتساقط يوميًا جراء الموت في القطاع، إما بسبب الجوع بشكل مباشر أو عبر الاستهداف في مصائد الموت عند أماكن توزيع المساعدات، فيما تشير كافة التقديرات إلى توفر المعايير المحددة لإعلان المجاعة رسميًا في غزة، والتي من بينها مواجهة 20% من السكان مستويات جوع شديدة، وتوثيق معاناة 30% من الأطفال من الهزال والنحافة الشديدة.
وفي هذا السياق تشير إحصائيات مركز الإعلام الحكومي في القطاع إلى أن 650 ألف طفل (من 2.400 مليون يعيشون في القطاع) يواجهون خطر الموت بسبب سوء التغذية والجوع، في حين تواجه نحو 60 ألف حامل خطرًا حقيقيًا بسبب نقص الغذاء والرعاية الصحية اللازمة، كما أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أن 112 طفلا في غزة يدخلون المستشفيات يوميا للعلاج من سوء التغذية والهزال الشديد، فضلا عن موت 620 شخصا بسبب الجوع، 70 منهم قضوا منذ يونيو/حزيران الماضي.
ويواصل الاحتلال منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى كتابة تلك السطور حرب إبادة جماعية مكتملة الأركان ضد سكان غزة، تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، خلفت ورائها أكثر من 199 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، فضلًا عن أكثر من 9 آلاف مفقود، ومئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.
هندسة التجويع الممنهج
يمارس الكيان الإسرائيلي مع فلسطيني القطاع هندسة التجويع بشكل ممنهج وعنصري، وليس بأداء عشوائي كما يتوهم البعض، فكل خطوة مدروسة بعناية ولها غاية وهدف وفي التوقيت المناسب والمخطط لها، فالعملية لا تنحصر فقط في فرض حصار مطبق وغلق لكافة المعابر وعدم إدخال المساعدات الغذائية الكافية لاحتياجات السكان.
بجانب الحصار هناك وأد كامل ومنع حصري لكافة مقومات الحياة في القطاع، فلا مستلزمات ولا وقود من أجل عمل المشافي والمراكز الصحية، ولا طحين مدعم لعمل المخابز، ولا خيام كافية لإقامة النازحين، ولا مياه نظيفة للشرب، ولا أماكن هادئة بعيدة عن الاستهداف، ولا حتى أكفان للموتى والشهداء.
بل وصل الأمر إلى تجفيف منابع التمويل المادي، فعطلت المصارف ومنعت المساعدات المالية وجمدت الرواتب وفٌرض على الجميع طوقا من التقشف الإجباري، وأطلق العنان لتجار الأزمات للعربدة تحت حماية المحتل، دون أي محاسبة أو ملاحقة أو تقدير لحساسية الظرف وخطورته وتهديده لحياة الملايين من الفلسطينيين.
وما أن استتب للمحتل هدفه في هندسة التجويع كسلاح ضغط بات في التفكير في تحويله إلى أداة تركيع وإذلال، عن طريق مراكز التوزيع ونقاطها التي تشرف عليها المؤسسات التابعة للولايات المتحدة والخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، فكانت صور الخنوع التي تناقلتها منصات الإعلام، وتحولت تلك النقاط إلى مصائد موت تفترس كل من يقترب منها.
كما فٌرض طوق من التضييق والخناق على وكالة الأونروا التي أوضحت في بيان لها أن لديها ما يكفي من الغذاء لجميع سكان غزة لأكثر من 3 أشهر، وهو مخزّن في مستودعات على الجانب المصري من معبر رفح الحدودي، مطالبة في منشور لها على حسابها على منصة إكس برفع الحصار عن قطاع غزة والسماح لها بإدخال الغذاء والأدوية، محذرة من تعريض حياة مليون فلسطيني للموت جوعًا، قائلة “ارفعوا الحصار، اسمحوا للأونروا بإدخال الغذاء والأدوية”.
أوضاع مأساوية
في قطاع غزة مٌنح الجوع سلطة ملك الموت، فبات يلتهم الأطفال ويٌنهك جسد النساء وينخر عظم الرجال، يٌعربد بأريحية كاملة دون أي مقاومة محتملة، انهيار كامل لمقومات الحياة تحت وطأة حرب إبادة نكراء وتآكل الضمير الإنساني وصمت وخذلان الجميع، الجيران والأقارب قبل الغرباء والخصوم.
“كنا قد اعتدنا التأقلم مع الجوع قبل شهرين أو ثلاثة، كنا نتقشف لأقصى درجة ممكنة، لكن اليوم بات الوضع صعبًا للغاية، ما عاد في المنزل شيئ نتقشف به، أكثر من شهر ولا يوجد كسرة خبز لطفلي ولا حبة طماطم”.. بهذه الكلمات انفجر الصحفي الفلسطيني محمد خليل باكيًا جراء عجزه عن توفير كسرة خبز لابنته المريضة التي وإن لم تصرخ بحنجرتها المرهقة من الجوع لكن صوت أمعائها الخاوية يزلزل الأرض من تحت أقدامه.
ويضيف خليل في حديثه لـ “نون بوست”: وصلنا إلى مرحلة لا يمكن وصفها، نحن نموت بالبطيء، كلنا في انتظار ساعته، الموت أقرب لنا من الحياة، من لم يمت برصاص الكواد كابتر أو صواريخ الطيران الإسرائيلي سيموت برصاص الجوع والعطش، ما عادت لدينا قدرة ولا طاقة على التحمل، خارت كل قوانا على مدار أكثر من 20 شهرًا نواجه حرب إبادة لم تعرفها البشرية منذ عقود طويلة”.
وبلغة تكسوها مرارة الألم والحزن يكشف الصحفي الفلسطيني أنه مما يعمق الأزمة ما أسماهم “تجار الحروب” الذين لا يتركون شيئًا إلا واستثمروا فيه، حتى لو كان على أشلاء ودماء وحياة الأطفال، لافتا أنهم سببًا رئيسيًا في تفاقم المعاناة، بداية من رسوم التحويلات الخرافية التي وصلت إلى 45% من قيمة الحوالة أو المبلغ المراد سحبه، سواء من البنك أو عبر أي تطبيق مالي أخر.
ويقول خليل: “عندي رصيد في البنك وفي حال سمحت الظروف وأردت سحب 1000 دولار مثلا يخصم منهم 45% أي قرابة 450 دولارًا فيما أحصل أنا على 550 دولارًا فقط”، هذا بخلاف أسعار السلع والتي ارتفعت بنسب جنونية، فوصل سعر كيلو الطحين لـ 50 دولارًا وهو الذي لم يتجاوز سعره في السابق دولارين، كذلك الطماطم ارتفعت من شيكل إلى 70 شيكل ( 20.8 دولار) والعدس من شيكل إلى 60 شيكل(17.8 دولار).
أما الصحفي الفلسطيني بشير أبو الشعر، الذي وجد نفسه مضطرًا أمام الجوع الذي فتك به، لأن يعرض كاميرته التي يعمل بها للمقايضة، مقابل كيس دقيق فقط، في مشهد يصف حجم المأساة وما وصلت إليه المعاناة وما فعله الجوع بأهل القطاع، حيث كتب عبر صفحته الرسمية على “فيسبوك”: “أريد كيس دقيق فقط.. لم أعد أحتمل رؤية أطفالي وهم ينامون ببطون خاوية”، معلنًا استعداده لاستبدال كاميرته من نوع “”Canon D80″” مصدر رزقه الوحيد مقابل ما يسدّ به رمق أسرته.
لم يكن منشور أبو الشعر استغاثة فردية قدر ما هو صرخة مدوية معبرة عن معاناة كافة أبناء القطاع في ظل هذا الوضع الإنساني المتدني الذي يعايشوه على مرأى ومسمع من الجميع، فها هي الصور أبلغ حديثًا من الكلام، ما بين أجساد أطفال هزيلة بارزة العظام، وأخرى تظهر شيوخاً لا يقوون على الوقوف من شدّة الوهن فيتساقطون بينما أياديهم ممتدة في انتظار لقمة تنقذ ما يمكن إنقاذه، فيما تصف سيدة حالها، وهي تنتظر أمام “تكية” (جمعية خيرية) للحصول على وجبة، قائلة: “اختنقنا من التنقّل من تكية إلى أخرى، نبحث عن لقمة خبز ولا نجد ما نأكله. ما هو ذنبنا؟!”
“لم أعد أتحمل رؤية أطفالي جوعى”.. صحفي فلسطيني يضطر لبيع كاميرته، مصدر رزقه الوحيد، مقابل كيس طحين#غزه_تموت_جوعاً pic.twitter.com/DBnZ5Q9tsP
— نون بوست (@NoonPost) July 19, 2025
المدير العام لوزارة الصحة في غزة، منير البرش، في منشور له على “تليغرام” كتب يقول: “في غزة، لم يعد الطعام حقّاً، بل صار أمنية مؤجّلة، تتكرّر كل ليلة على شفاه الأمهات، وترتسم في عيون الأطفال الذين ينامون جياعاً يحتضنون الهواء بدل الحليب، ويحلمون برغيف خبز كما لو أنه كنز مفقود”.
وأضاف البرش: “في غزة، الجوع لا يقرع الأبواب، بل يسكن البيوت، ويأكل من أعمار الناس، ويطحن كرامتهم تحت وطأة النسيان العالمي”، مؤكدًا على أن الخبز بات “عملة نادرة في غزة”، بينما لا يشكّل حليب الأطفال المفقود غذاءً فحسب، بل “هو وعد بالحياة أجهضه الحصار، وصار حلماً مستحيلاً في فم طفل يحتضر على سرير الطوارئ”.
أما المتحدث باسم الدفاع المدني الفلسطيني في غزة محمود بصل، فقال إن “الأطفال ينامون جوعى والمخابز مغلقة والبطون خاوية والأسواق فارغة”، مذكرًا أن الناس لا تموت من وطأة القصف فقط، بل تحت وطأة الجوع، في إشارة إلى الواقع الصعب الذي وصلت إليه أحوال الناس جراء عدم توفر الطعام، مشدداً على أن المجاعة ليست كارثة بل عقوبة جماعية مفروضة على شعب بأكمله.
التجويع.. من سلاح ضغط لاستراتيجية تركيع
بات واضحا أن الإسرائيلي يتعامل مع التجويع ليس كسلاح ضغط على المقاومة لتقديم تنازلات كما يروج، لكن كاستراتيجية مستقلة، وغاية في حد ذاتها، إذ أن ما يمارس أبعد ما يكون عن الضغط المنضبط بحدود دقيقة وسقف محدد، لكن أن يُترك شعب بأكمله يواجه مصير الموت جوعًا ويٌدفع دفعًا نحو ذلك عبر غلق كافة أبواب الحياة أمامه، فهذا لم تعرفه أبجديات استخدام هذا السلاح كورقة ضغط.
يهدف المحتل من وراء هندسة التجويع تلك، وبهذه الكيفية الإجرامية، تركيع الفلسطيني بصفة عامة، وليس المقاوم فقط، في سياق تحقيق هدفه الأبرز وهو “كي الوعي” لما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فمشاهد الإذلال والإهانة والمعاناة التي يظهر عليها الفلسطينيون تحقق الرضا النفسي للإسرائيلي وترمم الشروخ التي أحدثتها عملية الطوفان في جسده الردعي والنفسي على حد سواء.
تجاوز الإسرائيلي في إجرامه زعيم ألمانيا النازية، أدولف هتلر، الذي كان يتبنى استراتيجية الجوع لتركيع شعبه وإخماد احتجاجاتهم، حيث كان يعتمد سياسة اللا شبع واللا موت، إيمانًا بأن الشعب إذا ما شبع فكر في حقوقه السياسية والاقتصادية وفرض رقابة صارمة على أداء السلطة، وإذا ما جاع حد الموت سيثور وينقلب المشهد إلى حرب جياع لا يمكن إيقافها، فكان يتبنى سياسة الوسط بين النقيضين، فلا يشبع فيفكر ولا يجوع فيثور، وهو عكس ما يتبناه نتنياهو وجنرالاته اليوم من إيغال في الإجهاز على الفلسطيني بالتجويع الممنهج دون أي اعتبارات أو مقاربات.
وأمام هذا المشهد المروع، الذي يغتصب الإنسانية في أشرف ما لديها، ويجردها من مضمونها، الاعتباري والمادي، ويضرب العدالة في مقتل، ويطعن الضمير العالمي بخنجر الإبادة المسموم، يقف العالم مكتوف الأيدي، مكتفيًا ببيانات صماء يحاول من خلالها حفظ ماء وجهه الموصوم بعار الخذلان والصمت والازدواجية.
وإن كان هذا حال المجتمع الدولي، الغارق في مستقنع المقاربات الصهيوأمريكية، فما المبرر إذًا للمجتمع العربي والإسلامي، أصحاب القضية وحاملي لوائها، هكذا يفترض، فلا مقاربة، مهما كانت دوافعها، ، ولا مبرر، أيا كان باعثه، يمرر هذا الانبطاح الفاضح، ويشرعن هذا الصمت المريب إزاء شعب يتعرض لحرب تجويع ممنهجة على مرأى ومسمع من الجميع، فيما يغلق الجيران حدودهم ويصموا أذانهم، فإن لم يكن التحرك أمام جريمة بهذا الحجم فمتى يكون إذًا؟ وفي أي رقبة ستٌعلق دماء الجوعى والمشردين من أطفال ونساء وشيوخ غزة؟ تلك الدماء التي حتمًا سيكون لها لعنات لن تترك أحدًا إلا وتصيبه، هكذا تقول نواميس الكون وسننه.