ترجمة وتحرير: نون بوست
تتولى لجنة غير معلنة إعادة رسم ملامح الاقتصاد السوري من خلال استحواذات سرّية على شركات تعود إلى حقبة الرئيس السابق بشار الأسد. وكشف تحقيق أجرته وكالة رويترز أن حازم الشرع، شقيق الرئيس الجديد، يتصدر هذه الجهود إلى جانب رجل أسترالي خاضع لعقوبات، مكلف بتفكيك شبكة الفساد. غير أم اللافت أن هذه العملية تتم عبر عقد صفقات مع رجال أعمال يرتبط اسمهم لدى كثير من السوريين بسنوات من الثروات غير المشروعة.
دمشق – بعد أسابيع قليلة من سيطرة المعارضة على دمشق، تلقى أحد أبرز رجال الأعمال اتصالًا ليليًا يدعوه إلى لقاء مع “الشيخ”.
العنوان كان مألوفًا: مبنى اعتاد رجال النظام السابق استخدامه لابتزاز رجال الأعمال خلال عهد الإمبراطورية الاقتصادية لبشار الأسد؛ لكن هناك قادة جدد يحكمون المدينة الآن.
بملامح صارمة، ولحية سوداء كثيفة، ومسدس مثبت على خاصرته، قدّم “الشيخ” نفسه باسم حركي فقط: “أبو مريم”. هذا الرجل، الذي يقود الآن لجنة مسؤولة عن إعادة هيكلة الاقتصاد السوري، كان يتحدث بعربية فصيحة تغلّفها لكنة أسترالية طفيفة.
وقال رجل الأعمال: “سألني عن عملي، وكم نحقق من أرباح”، مضيفًا: “لكن نظري كان معلّقًا على المسدس”.
وأظهر تحقيق رويترز أن القيادة الجديدة في سوريا تعمل بصمت على إعادة هيكلة الاقتصاد الذي أنهكته سنوات من الفساد والعقوبات المفروضة على نظام الأسد، وذلك من خلال لجنة سرّية يتوارى أعضاؤها خلف أسماء حركية. وتكمن مهمتها في تحليل إرث الاقتصاد السابق وتحديد ما ينبغي الإبقاء عليه أو تغييره.
بعيدًا عن الأنظار، استحوذت اللجنة على أصول تفوق قيمتها 1.6 مليار دولار، وفق شهادات من مطّلعين على الصفقات، وتتضمّن حصصًا في شركات وأموالًا صودرت، بينها ما لا يقل عن 1.5 مليار دولار أُخذت من ثلاثة رجال أعمال، إلى جانب شركات كانت تابعة لتكتلات اقتصادية قريبة من النظام السابق، مثل مشغل الاتصالات الرئيسي في البلاد الذي يُقدّر بما لا يقل عن 130 مليون دولار.
وتوصل تحقيق رويترز إلى أن من يقود عملية إعادة الهيكلة هو حازم الشرع، الشقيق الأكبر للرئيس أحمد الشرع، في حين يتزعم اللجنة الاقتصادية “أبو مريم الأسترالي”، واسمه الحقيقي إبراهيم سُكريّة، وهو رجل أعمال أسترالي من أصل لبناني مدرج على قائمة العقوبات في بلاده بتهمة تمويل الإرهاب، ويعرّف عن نفسه على الإنترنت كرجل أعمال يعشق الكريكيت والشاورما.
وبينما قامت الحكومة الجديدة بتفكيك الأجهزة الأمنية المخيفة التي كانت سائدة في عهد الأسد، وباتت حرية التعبير أوسع من أي وقت مضى منذ عقود، فإن تشكيلة الفريق الحاكم المؤلفة من أقارب للرئيس ورجال يُعرفون بأسمائهم الحركية تثير مخاوف لدى رجال أعمال ودبلوماسيين ومحللين، يخشون من استبدال أوليغارشية القصر القديمة بأخرى جديدة.
استند تحقيق رويترز إلى مقابلات مع أكثر من 100 شخصية من رجال الأعمال، وسطاء، سياسيين، دبلوماسيين وباحثين، إضافة إلى مجموعة واسعة من الوثائق، من بينها سجلات مالية، ورسائل إلكترونية، ومحاضر اجتماعات، وسجلات لتأسيس شركات جديدة.
لم تُعلِن الحكومة رسميًا عن وجود هذه اللجنة، ولا يعرف عامة السوريين عنها شيئًا. وحدهم من خاضوا تجارب مباشرة معها يدركون طبيعة دورها، الذي قد يمتد تأثيره إلى حياة جميع السوريين، بل وربما يتجاوز حدود البلاد، بينما تسعى سوريا للعودة إلى المنظومة الاقتصادية العالمية.
وقال أحد أعضاء اللجنة لوكالة رويترز إن حجم الفساد المتجذّر خلال حكم بشار الأسد، والذي قام على هياكل شركات صُمّمت ليس فقط لتحقيق الأرباح بل أيضًا لنهب الأصول، قد ضيّق بشدة هامش التحرك أمام أي إصلاح اقتصادي. وأضاف أن اللجنة واجهت ثلاث مسارات محتملة: إما مقاضاة رجال الأعمال المشتبه بتحقيقهم مكاسب غير مشروعة، كما يطالب قطاع واسع من السوريين، أو مصادرة الشركات بشكل مباشر، أو الدخول في صفقات خاصة مع شخصيات من عهد الأسد لا تزال خاضعة لعقوبات دولية.
وأوضح أن لكل خيار من هذه الخيارات تبعات اجتماعية خطرة قد تعمّق الانقسامات بين السوريين، بين من استفاد من النظام السابق ومن دفع الثمن، وبين الأغنياء والفقراء. ولهذا، اختارت اللجنة تجنّب القضاء والمصادرة، مفضّلة التفاوض لاستعادة مبالغ مالية يحتاجها الاقتصاد بشدة، وفرض السيطرة على مفاصل رئيسية فيه، بما يضمن استمراريته دون اضطرابات.
وامتنعت الحكومة السورية، وكذلك حازم الشرع وإبراهيم سُكريّة، عن الرد على طلبات التعليق المتكررة، ولم يجيبوا على الأسئلة الموجهة بشأن هذا التحقيق، كما أحالت الرئاسة الاستفسارات إلى وزارة الإعلام، وقد قدّمت وكالة رويترز نتائج التحقيق في اجتماع حضوري مع وزير الإعلام الأسبوع الماضي، وتبعته بإرسال التفاصيل والأسئلة كتابيًا، إلا أن الوزارة لم ترد قبل موعد النشر.
وخلال سبعة أشهر؛ أجرت اللجنة مفاوضات مع عدد من أبرز أثرياء سوريا، بينهم شخصيات خاضعة لعقوبات أميركية، بحسب ما أفادت به المصادر. كما أحرزت تقدمًا في الاستحواذ على مجموعة واسعة من الشركات التي كانت تُدار سابقًا من داخل قصر الأسد.
ولا يزال عدد من رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق يحتفظون بجزء من أرباحهم ويتجنبون الملاحقة القضائية مقابل تنازلات. من بينهم قطب في مجال الطيران فُرضت عليه عقوبات بسبب صلاته بتهريب المخدرات والأسلحة، وآخر متهم بجمع ومعالجة المعادن من مدن سورية هُجّر سكانها نتيجة العمليات العسكرية. وتقوم الصفقة التي أُبرمت مع هؤلاء على منح العفو مقابل مزيج من الأموال والسيطرة المؤسسية، وهي تسوية تثير استياء شريحة واسعة من السوريين الذين يطالبون بتحقيق العدالة.
وأعرب أربعة دبلوماسيين غربيين بارزين عن قلقهم من أن تركّز السلطة الاقتصادية في أيدي شخصيات ظلّية مجهولة الخلفية قد يعيق جهود جذب الاستثمارات الأجنبية ويقوّض مصداقية سوريا بينما تسعى للعودة إلى النظام المالي العالمي.
وأشار عضو اللجنة إلى أن اللجنة التقت العشرات من الأشخاص، حيث تمت تبرئة بعضهم من الشبهات، بينما طُلب من آخرين التنازل عن جزء من ثرواتهم. وأكد أن المواطن السوري العادي سيستفيد في نهاية المطاف، من خلال خصخصة هذه الشركات، أو طرحها في شراكات بين القطاعين العام والخاص، أو تأميمها، مع توجيه العائدات إلى صندوق سيادي.
وفي 9 تموز/ يوليو، أعلن الرئيس أحمد الشرع تأسيس صندوق ثروة سيادي يتبع مباشرة للرئاسة، وأفاد ثلاثة مطلعين على الملف بأن الصندوق سيكون تحت إشراف شقيقه حازم. وفي اليوم ذاته، أُعلن عن إنشاء صندوق تنمية يتولّى رئاسته أحد أصدقاء حازم المقربين، كما أصدر الرئيس مؤخرًا تعديلات على قانون الاستثمار بموجب مرسوم، وعلى الرغم من عدم وجود دور حكومي معلن لحازم أو إبراهيم سُكريّة، تبيّن لوكالة رويترز أن كليهما شاركا في تحرير النص النهائي للتعديلات.
وفي هذا السياق، قال ستيفن هايدمان، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في كلية سميث بولاية ماساتشوستس، لـرويترز، إن إنشاء صندوق سيادي في سوريا يُعدّ “خطوة سابقة لأوانها“، منتقدًا اعتماده على ما وصفه بـ”الأصول غير النشطة” الغامضة. كما حذّر من أن منح استقلالية لإدارة الصندوق – بما في ذلك للرئيس – من شأنه أن يقوّض مبادئ الشفافية والمساءلة.
وتأتي هذه التطورات في وقت تستعد فيه الولايات المتحدة لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على الدولة السورية منذ عهد الأسد. وردًا على استفسار رويترز، قال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية إن الرئيس دونالد ترامب قرر رفع العقوبات “لإعطاء سوريا فرصة لتحقيق العظمة”.
وأضاف: “كما كان واضحًا، فإن الرئيس الشرع مدعو لاغتنام هذه الفرصة التاريخية من أجل إحراز تقدم حقيقي”.
خبّاز في المصرف
الدور البارز الذي تلعبه اللجنة في تفكيك الاقتصاد السوري يستند إلى النفوذ المالي الذي تمتع به أعضاؤها في إدارة الأموال بإدلب، الجيب الجبلي في الشمال حيث أحكمت “هيئة تحرير الشام” – الجماعة الإسلامية المسلحة السابقة – سيطرتها بقيادة الشرع.
كان من المعتاد على من يعيشون ويقاتلون في إدلب استخدام الأسماء المستعارة، بما في ذلك الرئيس أحمد الشرع، الذي كان يُعرف حينها بلقب “أبو محمد الجولاني”، قائد الهيئة. وقد نشأت “هيئة تحرير الشام” من “جبهة النصرة“، فرع تنظيم القاعدة في سوريا، وظلّ العالم ينظر إلى قادتها كإرهابيين حتى إطاحتهم ببشار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي.
وبحسب سوريين مطّلعين على شؤون الجماعة، فإن “تحرير الشام” بدأت منذ انفصالها عن القاعدة في 2016 ببناء هياكل مالية وإدارية. وفي 2018، أسّست شركة “وتد”، المتخصصة في استيراد المشتقات النفطية من تركيا، كما أنشأت مصرفًا خاصًا بها تحت اسم “بنك الشام”.
وكان خلف دخول الهيئة إلى عالم المال رجل يُدعى “أبو عبدالرحمن”، خباز سابق تحوّل إلى قائد عسكري كبير، وفقًا لما أكده عضو في اللجنة ومسؤولان رفيعا المستوى في “تحرير الشام” لوكالة رويترز.
وبحسب المصادر، فقد أنشأ أبو عبدالرحمن اللجنة الاقتصادية في إدلب، وكانت في بدايتها مجموعة مرتجلة من رجال موالين لأحمد الشرع. وقد أشرف على تطورها إلى مؤسسة تضم عشرات الأشخاص من محاسبين ومحامين إلى مفاوضين ومنفذين، خارج أي إطار رسمي تابع للدولة.
وطوّرت اللجنة جناحًا اقتصاديًا يُعنى بجني الأرباح يرأسه أبو مريم، وجناحًا ماليًا لإدارة تلك الأموال يقوده أبو عبدالرحمن، بحسب المصادر ذاتها.
ويحمل أبو عبدالرحمن الاسم الحقيقي مصطفى قدّيد، وفقًا لثلاثة مصادر داخل الهيئة. وقال موظفان سابقان إن قدّيد انتقل إلى الطابق الثاني من مبنى مصرف سوريا المركزي في اليوم التالي لسقوط دمشق. ولم يردّ قدّيد على طلب للتعليق عبر مساعده الشخصي، الذي أكد استلامه لتقرير وكالة رويترز.
وقد أصبح أبو عبدالرحمن يُعرف لدى بعض المسؤولين والمصرفيين السوريين بلقب “الحاكم الظل”، ويتمتع بسلطة نقض قرارات الحاكم الرسمي في الطابقين الأعلى منه.
وعندما عرضت رويترز نتائج تحقيقها بشأن إعادة تشكيل الاقتصاد السوري ودور أبو عبدالرحمن على محافظ البنك المركزي، عبد القادر حُصْرية، ردّ برسالة مقتضبة قال فيها: “هذا غير صحيح”، لكنه لم يُجب على أي طلبات توضيح أخرى.
وقال الموظفان السابقان إن أي قرار كبير يحتاج موافقة أبو عبدالرحمن، ووصفوه بأنه هادئ الطباع لكنه يميل إلى تركيز السلطة، وأضاف أحدهما: “إنه تمامًا كما في السابق، حين كان القصر يقرّر كل شيء”.
وقد تفاجأ أحد الزوّار قبل أشهر حين قُدّم له أبو عبدالرحمن، الذي يُشار إليه – كما أبو مريم – بلقب “الشيخ”، وهو لقب يحمل دلالة دينية ولكنه يُستخدم أيضًا كلقب تشريفي.
الاسم الحقيقي لـ”الشيخ” الآخر، أبو مريم، هو إبراهيم سكريّة، وفقًا لما توصلت إليه رويترز. وكان سكريّة قد غادر مسقط رأسه في بريزبن الأسترالية عام 2013، قبل يوم واحد من تنفيذ شقيقه أحمد عملية تفجير انتحارية بشاحنة مفخخة عند حاجز للجيش السوري، بحسب ما ذكره ممثلو الادعاء في أستراليا، ليصبح أول انتحاري أسترالي معروف في سوريا. أما الشقيق الثالث، عمر، فقد حُكم عليه في عام 2016 بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف في أستراليا بعد إقراره بتهم إرسال عشرات الآلاف من الدولارات إلى جبهة النصرة.
وقد وردت أنشطة الإخوة الثلاثة في وثائق قُدّمت من قبل الادعاء العام الأسترالي إلى المحكمة العليا، ردًّا على طعن قدّمه عمر ضد حكمه. ولم تتمكن رويترز من تحديد مكان عمر، كما لم يرد محاميه السابق على طلب للتعليق.
وأكدت الحكومة الأسترالية أن إبراهيم سكريّة لا يزال خاضعًا للعقوبات، لكنها رفضت الإفصاح عما إذا كانت على علم بدوره الحالي، مشيرة إلى سياسة الامتناع عن التعليق على الأفراد لأسباب تتعلق بالخصوصية.
ويستخدم سكريّة اسمًا مستعارًا آخر على منصة “إكس”، هو “إبراهيم بن مسعود”، بحسب ستة أشخاص يعرفونه شخصيًا. ويصفه حساب “بن مسعود” بأنه “رجل أعمال”، و”عاشق شاورما”، و”مشجع كريكيت”، وينشر الحساب منشورات عن آثار الحرب في إدلب وتعاليم إسلامية.
وبحسب زميل سابق له في أستراليا، فإن سكريّة كان لاعب كريكيت شديد التنافسية في شبابه، ولا يزال يتحدث عن هذه الرياضة عبر الإنترنت. كما قدّم حلقات بودكاست باللغة الإنجليزية تناولت مواضيع مثل النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، ومدى حماسة المسلمين لاحتلال المغرب المركز الرابع المفاجئ في كأس العالم 2022.
ولم يرد سكريّة على طلبات رويترز للتعليق على دوره في إعادة تشكيل الاقتصاد السوري، ولا على الاستنتاجات الأخرى الواردة في التقرير، سواء عبر رسالة مباشرة لحسابه على منصة “إكس” أو عبر مساعده المقرب.
أما حازم الشرع، شقيق الرئيس، فهو مدير سابق لشركة “بيبسيكو” في مدينة أربيل العراقية، بحسب صفحته على “لينكد إن”. وقال شخصان مطلعان على نشاطه السابق إنه كان المورّد الرئيسي للمشروبات الغازية إلى إدلب. ولم ترد شركة “بيبسيكو” على طلب للتعليق بشأن عمله السابق أو إن كانت على علم بدوره الحالي.
ويشرف حازم الشرع حاليًا على أعمال اللجنة الاقتصادية، ضمن سلطته الواسعة على ملفات المال والاستثمار في “سوريا الجديدة”. ولا يشغل منصبًا رسميًا معلنًا، إلا أنه ظهر إلى جانب شقيقه في زيارة رسمية إلى السعودية في شهر شباط/ فبراير. وبحسب فيديو بثّته وسائل إعلام سعودية رسمية، فقد كان حازم الشرع أول من قدّمه شقيقه إلى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، رغم أنه لم يُذكر اسمه في البيانات الرسمية الصادرة عقب اللقاء.
حازم الشرع، شقيق الرئيس الجديد (يرتدي بدلة على اليسار)، كان أول من قُدّم إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان (إلى اليمين) قبل بقية أعضاء الوفد السوري، وذلك خلال أول زيارة خارجية للرئيس الجديد.
ميكياڤيللي
عند وصولها إلى دمشق في كانون الأول/ ديسمبر، استقرّت اللجنة في البداية بفندق الفورسيزونز، الذي يشكّل مقرًّا لبعثة الأمم المتحدة في سوريا وعدد من الشخصيات الأجنبية، وفقًا لما أفاد به موظف في الفندق وسوريان مطّلعان على الموضوع.
وبحسب مصدرين مطّلعين على الترتيبات، حصل أعضاء اللجنة ومسؤولون آخرون من هيئة تحرير الشام على غرف وأجنحة فندقية دون مقابل.
وجرى تفريغ البار المجهّز بالكامل في صالة السيجار ذات الإضاءة الخافتة داخل الفندق، وذلك لإتاحة المجال أمام الشيوخ وعقد الاجتماعات الخاصة، بما في ذلك محادثات التسوية، وفقًا لموظفين في الفندق وعدة مصادر مطّلعة على التغيير.
وأكدت شركة الفورسيزونز أنها لم تعد تدير الفندق منذ عام 2019، وهو العام نفسه الذي فرضت فيه الولايات المتحدة عقوبات على مالك الفندق، رجل الأعمال سامر فوز، الذي امتنع عن التعليق على التقرير.
لاحقًا، انتقلت اللجنة تدريجيًا إلى مكاتب كانت تُستخدم سابقًا من قبل عدد من كبار رجال الأعمال وقيصر الاقتصاد في عهد الأسد، يسار إبراهيم، المقيم حاليًا في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ الإطاحة بالأسد، ولم يستجب إبراهيم لطلبات التعليق.
وبحسب أحد أعضاء اللجنة، فقد جرى استبعاد فكرة مقاضاة رجال الأعمال المشتبه في تحقيقهم ثروات غير مشروعة، إذ قال: “كنا سنلعب في ملعبهم”. فبالرغم من إقالة بعض القضاة بعد سقوط الأسد، ما زال العديد منهم على رأس عملهم، وكانت الحكومة الجديدة تخشى أن يتمكّن رجال الأعمال من استغلال النظام القضائي لصالحهم، أو أن تعجز عن تقديم أدلّة كافية في قضايا مالية معقّدة، وفقًا لما أفاد به العضو ومُدقّق حسابات مطّلع على المحادثات.
وأشار المصدران إلى أن خيار المصادرة المباشرة قد رُفض، تجنّبًا لترهيب المستثمرين المحتملين، خصوصًا في ظلّ تاريخ سوريا الطويل مع التأميم، والذي يعود إلى اتحادها القصير مع مصر في عام 1958، واستمرّ خلال سنوات الحرب، حين عمد نظام الأسد إلى مصادرة ممتلكات شخصيات من المعارضة.
وبناءً على ذلك، بقي الخيار المطروح هو عقد تسويات مع رجال الأعمال، يتنازلون بموجبها عن أصول مقابل السماح لهم بالعودة إلى مزاولة أعمالهم داخل سوريا، في وقت تأمل فيه الحكومة الجديدة الاستفادة من خبراتهم المتراكمة.
ويقول مصرفي مطّلع على المحادثات: “حكّام سوريا الجدد ليسوا فيديل كاسترو”، في إشارة إلى الزعيم الكوبي الذي أمّم الجزء الأكبر من اقتصاد بلاده، مضيفًا: “إنهم أقرب إلى ميكياڤيللي”.
بهذا، شرعت القيادة الجديدة في سوريا بتفكيك منظومة الاقتصاد الموروث من عهد الأسد، والذي كان موزّعًا إلى حدّ كبير بين رجال أعمال يهيمنون على قطاعات رئيسية مقابل تقديم رشى للأسد ودائرته المقرّبة، إلى جانب الإمبراطورية الاقتصادية التي كان يديرها لحسابه القيصر الاقتصادي يسار إبراهيم، وقد كانت تلك الشبكة تُعرف بين الدوائر الضيقة باسم “المجموعة”.
المجموعة
في عام 2020، بدا بشار الأسد منتصرًا في الحرب الأهلية، بدعم من التحالف الروسي والإيراني.
وبحلول ذلك الوقت، كان القصر قد أسس شبكة تضم أكثر من 100 شركة أُطلق عليها اسم “العهد”، وفقًا لمصدر مطلع شارك في التخطيط منذ بداياتها وللوثائق الرسمية المتعلقة بها. كان مسؤولو حكومة الأسد وأعوانه يتقاسمون أرباح هذه الشركات مع كبار رجال الأعمال المالكين لها، تحت إشراف مباشر من إبراهيم. وبعد سقوط النظام، بات هيكل الملكية أكثر غموضًا وتعقيدًا.
وتحمل كلمة “العهد” في اللغة العربية عدة معانٍ، منها “الولاية” و”الميثاق”.
وراجعت وكالة رويترز إعلانًا غير منشور من عام 2020، موجهًا للجمهور العام، يربط الأسد مباشرة بمجموعة “العهد” ويصفها كشركة خاصة تسهم في دعم سوريا على طريق التعافي من الحرب.
يُظهر الإعلان لقطات جوية لمدينة سورية تعاني من دمار واسع ولاجئين في حالة خوف، قبل أن تتحول المشاهد، بمرافقة موسيقى تحفيزية، إلى صور بناء وحقول مزدهرة وخطوط إنتاج.
أنشأت حكومة الأسد مجموعة تضم أكثر من 100 شركة تحت اسم “العهد” أو “الميثاق”. يعرض هذا المقطع من فيديو غير منشور عام 2020 عن المجموعة، الموجه للجمهور العام، مشاهد للأسد وزوجته يواسيان طفلاً، ويصور “العهد” كشركة خاصة تدعم التعافي الاقتصادي لسوريا بعد الحرب الأهلية.
ويقول الراوي في الإعلان: “أحيانًا، يمكنك أن تهزم الحرب بابتسامة، أو بشخص يمسح كل الحزن عن وجهك”، فيما تظهر اللقطات بشار الأسد وزوجته أسماء يمسحان دموع طفل عن خده، مضيفًا “قررنا أن نستمر ونخلق واقعًا جديدًا يشبه أحلامنا”.
وتُظهر شريحة من عرض تقديمي داخلي، قُدم للدائرة المقربة من الأسد عام 2021، شبكة الشركات الحقيقية والوهمية التي أُنشئت تحت اسم “العهد” للسيطرة على قطاعات اقتصادية رئيسية، تشمل الاتصالات، والبنوك، والعقارات، والطاقة.
مع سقوط دمشق في 8 كانون الأول/ ديسمبر، فرّ إبراهيم، فيما أعربت أخته نسرين عن أسفها لفقدان السيطرة على المجموعة.
كتبت نسرين في رسالة على واتساب، اطلعت عليها رويترز: “لم نعد نملك أي صلة بأي من هذه الشركات. فليديروا هذه الشركات كما يرون مناسبًا”، ولم يُمكن الوصول إليها للتعليق.
حصلت اللجنة على العرض التقديمي واستخدمته لتوجيه عمليات الاستحواذ، حيث تم استبدال علم عهد الأسد بالعلم الجديد، وفق نسخة محدثة من الوثيقة اطلعت عليها رويترز.
تحت حكم الأسد سيطرت “العهد” على الاقتصاد السوري
وأسست حكومة الأسد تكتلًا اقتصاديًا واسع النطاق يُعرف باسم “العهد”، يضم أكثر من 100 شركة تسيطر على قطاعات حيوية في البلاد. تظهر شريحة من عرض تقديمي داخلي عام 2021، على اليسار، شبكة شركات “العهد” الحقيقية والوهمية، فيما تم تحديث الشريحة لاحقًا لحكومة الشعار باستبدال علم عهد الأسد بالعلم الجديد، وفقًا لوثيقة اطلعت عليها وكالة رويترز. وتعتمد اللجنة الاقتصادية الجديدة على هذا المخطط لتوجيه جهودها للسيطرة على هذه الشركات.
2025
ويرى رينود ليندرز، أستاذ الاقتصاد السياسي في كلية كينغز لندن والمتخصص في الاقتصاد السوري، أن إبراهيم تمكن من اختراق معظم القطاعات الاقتصادية في سوريا، وقد يكون سيطر على نحو 30 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بحلول 2024. ويقدّر البنك الدولي الناتج المحلي لسوريا عام 2023 بنحو 6.2 مليارات دولار، ما يعادل حوالي عُشر مستواه قبل اندلاع الحرب.
وقدّر مدير مالي سابق في المجموعة القيمة الإجمالية لعمليات “العهد” الأساسية بما يصل إلى 900 مليون دولار، بالإضافة إلى أصول أخرى مثل شركة الاتصالات الرئيسية “سيريتل”، التي حُصل عليها عبر شراكات فرضها الأسد على كبار رجال الأعمال، مما ساهم في استنزاف الاقتصاد مع تصاعد الأزمة.
وشملت هذه الشراكات شخصيات بارزة مثل الملياردير المعاقب من الولايات المتحدة سامر فوز، المعروف بنفوذه في قطاعي السكر والعقارات، ورجل الأعمال المتعدد القطاعات محمد حمشو، إضافة إلى الأخوين محمد وحسام القاطرجي اللذين يديران عمليات واسعة في مجالي النفط والقمح.
وواجهت اللجنة صعوبات في إدارة الشؤون المالية للمجموعة في البداية، إذ اقتصر الوصول القانوني إلى الحسابات المصرفية على شخص واحد فقط، وهو أحمد خليل، أحد معاوني إبراهيم المسؤول عن الاقتصاد في عهد الأسد، بحسب ثلاثة من كبار مديري المجموعة.
وطالبت اللجنة خليل وإبراهيم بالتنازل عن ثمانين بالمئة من الإمبراطورية الاقتصادية مقابل منحهما حصانة، وفقًا لمطلعين على الأمر، غير أن المحادثات تعثرت. ولم يرد أي منهما على طلبات التعليق، كما لم ترد عائلة القاطرجي، ونفى حمشو ارتكاب أي مخالفات.
ورغم عدم تعاون إبراهيم، حققت اللجنة تقدماً عبر إبرام اتفاقيات مع الإدارة الوسطى، وقال عضو بارز في فريق إبراهيم إنه سلّم بيانات مقابل الحصول على الحصانة.
وأضاف مسؤول مالي ثانٍ في المجموعة، يعمل مع اللجنة منذ عدة أشهر، أن نصف الإمبراطورية الاقتصادية التي تأسست في عهد الأسد باتت تحت سيطرة اللجنة، بما في ذلك شركة الاتصالات الرئيسية “سيريتل”. وتتحكم اللجنة في الشركة عبر عضو معين كموقّع رسمي، وفقًا لوثيقة تسجيل اطلعت عليها رويترز، وأكدت “سيريتل” أن بعض نتائج رويترز غير صحيحة لكنها لم ترد على طلبات التوضيح.
وأشار مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية إلى أن العقوبات المطبقة حالياً تهدف إلى تعزيز المحاسبة، وأضاف: “الاستقرار الشامل والدائم في سوريا يعتمد على تحقيق عدالة حقيقية ومحاسبة على الانتهاكات التي ارتكبتها جميع الأطراف خلال الأربعة عشر عامًا الماضية.”
هل هناك شركة طيران جديدة؟
وعاودت بعض أكبر شركات المجموعة نشاطها تحت أسماء جديدة، وفقًا لثلاثة مصادر مطلعة ووثيقة اطلعت عليها رويترز.
ومن بين هذه الشركات “أجنحة الشام”، الناقل الجوي الخاص الوحيد في سوريا، التي تحولت إلى شركة جديدة باسم “فلاي شام” بموجب تسوية مع مالكها عصام شمّوط، بحسب ثلاثة مصادر رفيعة في قطاع الطيران وموظف في “أجنحة الشام” وسجلات شركات اطلعت عليها رويترز.
وتخضع “أجنحة الشام” وعصام شمّوط لعقوبات أمريكية وأوروبية بسبب مزاعم تورطهما في نقل مرتزقة إلى ليبيا ومهاجرين غير قانونيين إلى بيلاروس، فضلاً عن نقل أسلحة والاتجار بمخدر الكابتاغون.
وبموجب الاتفاق وحصوله على الحصانة من الملاحقة القضائية، تنازل شمّوط عن 45 بالمئة من الشركة، حسب الوثيقة. كما دفع خمسين مليون دولار وسلم طائرتين إلى شركة الطيران الوطنية السورية “السورية للطيران”، بحسب المصادر، وتمت إعادة طلاء ثلاث طائرات أخرى من طراز إيرباص بألوان “فلاي شام” مع الاحتفاظ بأرقام ذيلها.
واحتفظ شمّوط بوكالة السيارات الخاصة به “شمّوط أوتو”، وفقًا للمصادر.
ورفض متحدث باسم “اجنحة الشام” التعليق، بينما قال متحدث باسم فلاي شام: “اجنحة الشام مغلقة، وفلاي شام شركة جديدة تمامًا”، وأشار بيان لاحق إلى ضرورة التواصل مباشرة مع اللجنة.
وقال سامح عرابي، المدير العام لـ “السورية للطيران”، لوكالة الأنباء الرسمية “سانا” في أيار/ مايو إن أسطول الشركة سيضم طائرتين جديدتين، لكنه لم يقدم تفاصيل، وظهرت بعد أيام طائرة من نوع إيرباص تحمل رقم ذيل YK-BAG بألوان السورية للطيران.
مدن تذوب
وأبرم عدد من كبار رجال الأعمال صفقات مماثلة؛ حيث تنازل سامر فوز، الذي فرضت عليه واشنطن عقوبات عام 2019 بتهمة تحقيق أرباح من إعادة إعمار سوريا بعد الحرب، عن حوالي 80 بالمئة من أصوله التجارية التي تقدر قيمتها بين 800 مليون ومليار دولار، وفقًا لشخص مطلع على الصفقة. وشملت الصفقة واحدة من أكبر معامل السكر في الشرق الأوسط، ومصنعًا لصهر الحديد، وغيرها من المصانع.
وتنازل محمد حمشو، الذي تشمل شركات عائلته إنتاج الكابلات، والأعمال المعدنية، والإلكترونيات، واستوديوهات الأفلام، عن نحو 80 بالمئة من أصوله التجارية، التي تقدر قيمتها بأكثر من 640 مليون دولار، وفقًا لثلاثة أشخاص مقربين من الصفقة.
وتبقى بحوزته نحو 150 مليون دولار، مع احتفاظ أفراد العائلة بشركاتهم، حسب المصادر.
مصنع الصهر في المدينة الصناعية في عدرا على مشارف دمشق، أحد الأصول الرئيسية لمحمد حمشو، التي استولت عليها اللجنة.
وكجزء من الصفقة، تنازل حمشو عن مصنع مربح لمعالجة الصلب كان قد استولت عليه جزئيًا “المجموعة”.
واتهمته المعارضة السورية ومنظمات حقوق الإنسان ورجال أعمال باستخدام المصنع لمعالجة المعادن التي انتُزعت من أحياء دُمرت على يد قوات الأسد.
وتتهم وزارة الخزانة الأمريكية حمشو بالاستفادة من علاقاته الحكومية، وكونه واجهة لشقيق الأسد، ماهر، قائد الفرقة الرابعة في الجيش السوري. وربطت حكومات غربية الفرقة الرابعة بالإنتاج والتجارة غير القانونية لمخدر الكابتاغون، وهو عقار منبه يشبه الأمفيتامين.
وعاد حمشو إلى سوريا في كانون الثاني/ يناير، ويعيش تحت حماية الدولة في شقته الفاخرة بحي المالكي الراقي في دمشق، حيث شوهد مسلحون يرتدون زيًّا عسكريًا في مدخل الشقة مرارًا أمام صحفيي رويترز.
كانت الآمال كبيرة في أن يؤدي سقوط الأسد إلى فتح فصل جديد لسوريا، لكن الصعوبات تراكمت على حكومة أحمد الشرع، وآخرها إراقة الدماء في الجنوب الذي يغلب عليه الطابع الدرزي.
وقال عمرو سالم، وزير التجارة السابق ومستشار الأسد، إن النهج البراغماتي للحكومة الجديدة يمكن أن يفيد بلدًا مدمرًا، لكن الافتقار إلى الشفافية والمعايير الواضحة للتسويات يهدد بحدوث انتهاكات جديدة للسلطة، وأضاف لرويترز: “لقد طُلب مني أن أبرم صفقة لكنني رفضت، لأنني لم أرتكب أي خطأ”.
وأثارت هذه الصفقات غضب العديد من السوريين الذين يريدون رؤية الشخصيات البارزة المرتبطة بالأسد خلف القضبان، مما أدى إلى اندلاع احتجاجين صغيرين في يونيو/حزيران.
وقال عبد الحميد العساف، وهو ناشط احتج على عودة حمشو: “هذا إهانة للسوريين. هناك استياء في الشارع السوري من عودة رجال الأعمال المقربين من الأسد أو أي شخص عمل جنبًا إلى جنب مع الأسد”.
وأكد حمشو لرويترز أنه أجرى محادثات مع اللجنة، لكنه قال إنه سيحتفظ بتعليقات أخرى حتى يتم الإعلان عن التسوية، وتابع قائلًا: “أشجع قادة الأعمال والمستثمرين على التطلع إلى سوريا. فالبلد يتبنى اقتصاد السوق الحرة ويوفر أرضية خصبة لفرص استثمارية متنوعة وواعدة”.
وجمعت سوريا تعهدات استثمارية بوتيرة سريعة؛ حيث قاد وزير الاستثمار السعودي وفدًا تجاريًا إلى سوريا لحضور مؤتمر استثماري استمر يومين بدأ في 23 يوليو/تموز، مع صفقات محتملة تصل قيمتها إلى 6 مليارات دولار في القطاعات الاقتصادية الرئيسية.
مع انتهاء التسويات، اتخذ بعض أعضاء اللجنة مواقف علنية؛ حيث تم تعيين اثنين على الأقل في لجنة رسمية شكلها الرئيس الشرع في مايو/أيار لإدارة بعض المكاسب غير المشروعة.
وقال عضو اللجنة إن هذا جزء من جهد لجعل العمل الذي قاموا به حتى الآن في الخفاء رسميًا، وأضاف: “إنها عملية إعادة تسمية كاملة، من الداخل والخارج”.
ويتم استبدال استخدام أعضاء اللجنة للقب “شيخ” تدريجيًّاً بالمقابل العربي لـ “سيد”، ولا تزال المكالمات والاجتماعات تتم في وقت متأخر من الليل، ولكن يتم إنجاز الأعمال الورقية خلال ساعات العمل.
وقال العضو إن أعضاء اللجنة طُلب منهم أيضاً ارتداء البدلات بدلاً من السراويل الكاكي أو الملابس غير الرسمية، كما صدرت لهم أوامر بإخفاء مسدساتهم عن الأنظار.
المصدر: رويترز