في الوقت الذي تتصاعد فيه الضغوط الأمريكية لعدم تمرير قانون الحشد الشعبي المدرج حاليًا في أروقة مجلس النواب العراقي، وحديث رئيس الحكومة العراقية، محمد شياع السوداني، عن جهود حكومية مبذولة للشروع في عملية حصر السلاح بيد الدولة، بدأت الفصائل المسلحة، وتحديدًا القريبة من إيران – باعتبارها المستهدف الأول من حملة الضغوط الأمريكية – بإظهار نوع من التشدد في هذا السياق، خصوصًا أنها تدرك بأنها الهدف المقبل للتوجه الأمريكي القائم على تصفير الفواعل من غير الدول في مسرح الشرق الأوسط.
وقد أظهرت الحادثة الأمنية الأخيرة التي شهدتها منطقة الدورة، جنوبي العاصمة بغداد، بسبب خلاف إداري حول تغيير مدير الزراعة في هذه المنطقة، والمقرّب من “كتائب حزب الله العراقي”، مدى صعوبة التعامل مع فصائل مسلحة لا تزال تتمسك بسلاحها، إذ إن ردة الفعل التي أبدتها الكتائب تمخضت عن مواجهات مسلحة مع قوات الشرطة الاتحادية، بصفتها الجهة المسؤولة عن تأمين هذه الدائرة، ما أدى إلى وقوع العديد من القتلى والجرحى، لكن الأهم هو أن القوة المهاجمة تتبع من الناحية القانونية للقائد العام للقوات المسلحة، وقد قامت بمواجهة قوة حكومية أخرى، ما يؤشر بدوره إلى حجم التعقيد الذي تمثله عملية التعاطي مع سلاح ووجود هذه الجماعات.
الإطار التنسيقي ومعالجة الأزمة
مع الساعات الأولى لوقوع هذه الأحداث، عقدت قوى الإطار التنسيقي اجتماعًا عاجلًا في منزل رئيس تيار الحكمة، السيد عمار الحكيم، عبّرت فيه عن إدانتها للخطوة التي قامت بها الكتائب، مؤيدةً في الوقت نفسه الإجراءات الحكومية التي أسفرت عن اعتقال جزء كبير من القوات المهاجمة، ومؤكدة على ضرورة عدم تكرار مثل هذه الأحداث، التي يمكن أن تنعكس سلبًا على موقف الحكومة العراقية، خصوصًا في ظل الضغوط الأمريكية الداعية إلى نزع سلاح الفصائل المسلحة، أو حتى دمجها ضمن صفوف القوات الأمنية العراقية.
يشير موقف قوى الإطار التنسيقي، بما لا يقبل الشك، إلى مدى خشيتها من انزلاق الأمور نحو الفوضى في العراق، خاصة مع اتساع دائرة الصراع بين الفصائل المسلحة، التي تسعى إلى الاستحواذ على مزيد من الأراضي والموارد، في ظل الضغوط الاقتصادية المفروضة عليها، إذ إن منطقة زراعية مثل الدورة توفّر فرصة كبيرة للسيطرة على أراضٍ مأهولة، من خلال واجهات إدارية تُسهِّل عملية فرض الهيمنة عليها.
وعلى الرغم من العلاقة الجيدة بين قيادات الإطار التنسيقي وقيادات الفصائل المسلحة، تبدو هذه الفصائل غير منسجمة مع الطروحات السياسية التي يقدمها قادة الإطار، خصوصًا في موضوع قانون الحشد الشعبي، حيث تخشى العديد من قوى الإطار تمرير هذا القانون خلافًا للرغبة الأمريكية.
كما تخشى في الوقت ذاته من أن يؤدي تمرير القانون إلى وقوعها تحت رحمة الفصائل مستقبلاً، لا سيما وأن القانون المقترح سيعزز من وضع الفصائل سياسيًا وأمنيًا، وهو ما يقلق بعض قادة الإطار من احتمال تحوُّل الفصائل إلى نسخة جديدة من “حزب الله اللبناني”، تتحكّم بالسياسة والأمن معًا، وتتضاعف هذه المخاوف أمام النزوع السياسي الواضح لدى العديد من قادة الفصائل نحو احتكار التمثيل السياسي الشيعي، وتهميش القيادات الأخرى.
العلاقة مع حشد العتبات
في لقاء عُقد مؤخرًا مع قائد حشد العتبات وفرقة العباس القتالية، الشيخ ميثم الزيدي، أشار بوضوح إلى الخلافات القائمة بين الفصائل المسلحة الموالية لإيران، وحشد العتبات التابع لمرجعية النجف، وأكد أن المشكلة الحالية تتعلق بهوية ودور الحشد الشعبي، لا بالقانون المراد تشريعه، وأضاف أن مشكلة الولايات المتحدة ليست في وجود الحشد أو الفصائل، بل في طبيعة العلاقة التي تربط هذه الأطراف بإيران.
وبشأن حادثة الدورة، قال الزيدي إن حشد العتبات يدعم الإجراءات الحكومية والأمنية التي اتخذتها حكومة السوداني ضد العناصر التابعة للكتائب، وإنه لا بد من فرض سيطرة الدولة على الأرض، ومنع استغلال العناوين الرسمية لممارسة أعمال مخالفة للقانون.
وقد أشار البيان الصادر عن السفارة الأمريكية في بغداد عقب أحداث الدورة الأخيرة، إلى محاولة أمريكية واضحة لتوظيف هذه الحادثة في فرض مزيد من الضغوط على حكومة السوداني، بهدف معالجة ملف الفصائل المسلحة في العراق، إذ اعتبر البيان أن هذه الأحداث تمثل تحديًا حقيقيًا للدولة العراقية، خاصة وأن هذا التحدي يأتي من جماعة مصنفة إرهابيًا لدى الولايات المتحدة. بل ألمحت السفارة إلى طبيعة العلاقة التي تربط هذه الجماعة بإيران.
هذا التصعيد الأمريكي لا يبدو لحظيًا بقدر ما يعكس مسارًا متواصلًا من الضغوط الممارسة في الأيام الماضية، بدءًا من إيقاف صرف رواتب منتسبي الحشد الشعبي، مرورًا بالمكالمة الهاتفية التي جرت بين وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، والسوداني، وانتهاءً بالتحذيرات المتكررة من قبل السفارة الأمريكية للفصائل المسلحة بضرورة وقف الهجمات على إقليم كردستان. كل ذلك يمثل مؤشرات واضحة على وجود رغبة أمريكية حثيثة لإعادة تشكيل دور الفصائل المسلحة في العراق.
الفصائل المسلحة تتمسك بموقفها
رغم التحديات المتزايدة، إلا أن الفصائل المسلحة لا تبدو مستعدة للتخلي عن سلاحها، وهذا ما ظهر بوضوح في تصريحات عدد من قادتها، لا سيما من عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله العراقي، الذين أعلنوا أنهم لن يتخلوا عن هذا السلاح تحت أي ظرف.
تدرك الفصائل المسلحة أن وجودها وتأثيرها مرتبطان مباشرة بهذا السلاح، كما أن الحفاظ على قوتها السياسية والاقتصادية يستوجب الإبقاء عليه، ورفض أي طرح داخلي أو خارجي يسعى لنزعه أو تقنينه من خلال إدماج الفصائل في القوات الأمنية العراقية.
إلى جانب ذلك، فإن إيران تدرك هي الأخرى أن التنازل عن هذا السلاح سيضعف موقفها الإقليمي، خاصة بعد التراجع الكبير الذي أصاب حلفاءها في بيروت ودمشق، ولذلك فإنها حريصة على الحفاظ على نفوذها داخل العراق عبر هذه الفصائل، بغض النظر عن حجم التحديات، ولعل الزيارة الأخيرة لقائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، إلى بغداد في مطلع الشهر الجاري، خير دليل على ذلك.
يمكن القول إن الفصائل المسلحة باتت متكيفة مع الضغوط الممارسة عليها، ويعود ذلك إلى نجاحها في بناء هيكل اقتصادي وعسكري خاص بها، متداخل مع بنية الدولة العراقية، ومنخرط ضمن مؤسساتها بشكل معقد، ما يجعل من الصعب على الحكومة العراقية، بل وحتى على الجانب الأمريكي، التعامل معها، ورغم التحذيرات الأمريكية، إلا أن الفصائل تدرك تمامًا قدرتها على تجاوزها، والسبب الرئيسي في ذلك هو التداخل العميق بين الدولة واللا دولة في العراق.