تُكتب هذه السطور مع الإعلان الجديد بـ”استمرار الحرب الإسرائيلية الأمريكية على غزة”. ودعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى “الاحتلال الكامل”. قتلت هذه الحرب ما يزيد عن ستين ألف شهيد حتى الآن. بينما يدعي كل من يؤيدها أن ما يحدث فيها سببه فقط أحداث السابع من أكتوبر. وربما هذا ما ينفيه بشكل ذكي وغير مباشر الفيلم الوثائقي “المستوطنون” The Settlers أولًا لأن أحداثه تدور بعيدًا عن غزة، وأخيرًا لأنه يظهر كذلك النظرة المعتادة للمستوطن الإسرائيلي في كل فلسطين بأن أناسها “ليسوا بشرًا مثلنا”.
بدت نقطة “نزع الإنسانية عن العربي/ الفلسطيني” هي الأكثر أهمية في فيلم “المستوطنون” الذي أنتجه تلفزيون بي بي سي. يمكن اعتبار الفيلم وثيقة بصرية تاريخية وواقعية أنجزها المخرج الإنجليزي لويس ثيرو Louis Theroux والتي لم تكن تخرج لولا تصويرها من رجل غير عربي.
إذ يقرر المخرج الذهاب إلى فلسطين المحتلة للتسجيل مع المستوطنين في الضفة الغربية تحديدًا ليفهم الوضع في داخلها ثم في فلسطين كلها. يبرز المخرج شهادات صادمة للعالم الغربي عن الاحتلال من قبل المستوطن الإسرائيلي.
يركز الفيلم على احتلال المستوطنين لمنطقة الضفة الغربية التي تمثل نقطة مركزية في فلسطين، تشكّل ما يقارب 21% من مساحتها، بعد أن بقيت مع قطاع غزة مع العرب بعد النكبة/ هزيمة 1948 لكن بعد ذلك حتى حرب 1967 بدأت تزداد فيها المستوطنات التي تطرح كل فلسطيني هناك. اليوم لدينا في تلك المنطقة وحدها -وفق الفيلم فقط- ما يزيد عن 700000 مستوطن يهودي إسرائيلي يعيش في الضفة الغربية. ينفّذ الفيلم مقابلات متعددة مع مستوطنيين يجد جنسياتهم موزعة بين القارات؛ أحدهما من روسيا والآخر أمريكي ويهود أوروبا وهكذا. يقرون جميعًا أن تلك بلادهم فقط لأن التاريخ يقول ذلك، وأنها ليست من حق “راعو الجمال”: أي العرب.
هذا الهجين من المستوطنين لا يمكن استدراجهم وتجميعهم في منطقة واحدة دون إقناعهم بخطاب ما يبرر وحدتهم المزعومة. كانت تلك هي المنطقة التي تحرك من خلالها العمل كما يعتقد المخرج ذاته: السعي لفهم وجهة نظر المستوطن الإسرائيلي في الضفة قبل إدانتها بالكامل. وربما هو الخطاب المثالي للتحليل.
السؤال الأساسي الذي يحتاج الإجابة قبل أي شيء في هذا الفيلم هو: ما أهمية الحديث عن “المستوطنون” في الضفة بالتوازي مع لحظة يموت فيها الفلسطينيون في مكان قريب مثل غزة بالآلاف يوميًا؟ الحقيقة أنه يبروز مأساة الاحتلال في سياقات مختلفة لا تتوقف. وبينما يتوقع الناس أن الاعتداءات الإسرائيلية في غزة فقط أو لأنها بسبب ما بعد السابع من أكتوبر فإن الفيلم وثيقة لاعتبار تلك الاعتداءات تحدث دون سياق واضح أبدًا. قتلٌ محض يحدث دون مواجهة فلسطينية. من أجل رغبة متكررة في الاستيلاء على كل الأرض بقوة السلاح.
“رعاة جمال” خارج ركب الحضارة
تظل فكرة الصهيونية بنزع صفة البشرية عن العرب الفلسطينيون تقريبًا هي المفتاح للحديث عن ما يحمله النموذج الإسرائيلي المثالي لدى كل عربي بشكلٍ عام. فمحاولة إقناع العالم بأسره أنه يعيش إلى جانب أناس “رعاة جِمال خارج الحضارة”. ربما ليس من السيء تمامًا التخلّص منهم بأي طريقة ممكنة هي فكرة مثالية بالنسبة لهم. تقريبًا لا يمر الفيلم على مستوطن دون أن يمرر تلك الملاحظة بشكل مباشر أو غير مباشر. على اعتبار أن التاريخ عمومًا يخبرهم بذلك.
من منطقة بعيدة تمامًا لكنها قد تساعد على فهم الأمر أكثر، وفي لقطة عابرة في الفيلم الجماهيري الأحدث “فانتستك فور” fantastic four أثناء التفكير في إنقاذ الفريق الأمريكي من وحش يريد تدمير العالم. تمر الكاميرا سريعًا على قارات العالم من خلال بعض الدول، وعندما تأتي لتقدم بلد عربي تقدمها من خلال جَمَل في صحراء. بالنسبة للعرب في هذا الفيلم وغيره، لا يظهر شيء يمثلهم أبدًا في الحداثة.
الجَمَل هنا ليس حيوانًا يحكي عن تفردهم بامتلاكه، قدر رجعية وجوده فيهم ومنهم. شعور واعي وغير واعي بالنمذجة في ما لا يمكن تجاوزه. وفق ذلك فالعرب فولكلور خارج الحضارة. بدو أو عشائر تحمل السلاح. هذه ليست مجرد ثواني في فيلم، هذه نظرة تكاد تكتمل منها صورة كبيرة في سوريا ولبنان واليمن والسودان والمغرب وبالضرورة فلسطين المسكينة المبادة تحت أعين العالم.
ومثلما يبروز الجمل صورة رجعية محببة لدى الأمريكي والأوروبي لكل عربي. يظهر إحدى المستوطنين هنا في فيلم “المستوطنون” ليصف استبعاد العرب من منطقة الضفة الغربية الفلسطينية بالقوة على أنهم “رعاة جمال” لا يمكنهم الحفاظ على المكان أو للدقة لا يحق لهم ذلك. في إحدى المشاهد تخبرنا “أم المستوطنين كما يسموها أو تسمي نفسها أنه بات على الفلسطينيين الذهاب إلى كندا أو تركيا أو أي مكان آخر غير إسرائيل. تحدثت عن الحاجة إلى تطهير أرض فلسطين من رعاة الجمل الهمج، على اعتبار ذلك مصلحة للجميع.
تلك النظرة التي يحاول أصجابها تصديرها سواء في فيلم جاهيري عالمي أو هنا في فيلم تسجيلي أقل جماهيرية بكثير، في سياق الحديث عن السبب في احتلال منطقة فلسطينية تبدو كاشفة نوعًا ما. وربما هي النموذج المثالي التي يمكن البداية منها في الحديث عن فيلم “المستوطنون”.
هذا التأصيل البصري والخطابي لفكرة العربي الخارج عن الحضارة، يسعى كل حديث أمريكي إسرائيلي إلى برزوته على اعتباره سبب مؤسس لدفع الفلسطيني/ العربي خارج الأرض. تمامًا مثلما أدلجت أمريكا المواطن الأصلي وقت أن اعتبرتهم “هنود حمر” ليسوا بشرًا تمامًا وعممت ذلك الخطاب في العالم كله سينمائيًا وواقعيًا.
تساعد هذه النظرة تمامًا في الحصول على دعم معنوي أكبر أو على أقل تقديم قد تساعد في تجاهل المجازر اليومية التي تدين الإنسانية كلها. يصلح هذا الخطاب دون وعي في تنميط العربي وتجاهل كل ما يواجهه من أشياء عنيفة غير بشرية. وبينما يدّعي المستوطنون في الفيلم أنهم يحاولون تطوير الأرض تكشف الصور عن همجية ممنهجة تصبح في تضاد مباشر مع تلك الادعاءات.
ليست بعيدة عن غزة
يبدأ فيلم المستوطنون من مشهد يحكي فيلم رجل إسرائيلي للمخرج من خلال إحدى الخرائط ما يعتقد خلاله أن منطقة الضفة تعود لإسرائيل. أثناء الحكي يعرف الإسرائيلي العرب في الضفة أنهم “جهاديون” يتساءل المخرج عن عدم اعتبارهم فلسطينيون ليسوا جهاديين يقول له “التاريخ يقول ذلك”. في موضع آخر يتساءل المخرج أثناء حديثه مع مراهقة صغيرة عن سبب استباحة العرب بالنسبة لها. تخبره أن “التاريخ يقول أن تلك أرضنا، وهو ما يبرر ما يحدث لهم”.
في كتاب “فكرة إسرائيل.. تاريخ السلطة والمعرفة: يقول المؤلف إيلان بابيه “إن غياب أي ذكر للمأسآة الفلسطينية في الكتب الإسرائيلية كان مؤشرًا لنظرة استشراقية إسرائيلية أكثر شمولًا. لقد كانت النظرة التأريخية للشعب الفلسطيني أحادية قائمة على التنميط. فلم يذكر السكان المحليون الذي كانوا قبل دخول الإسرائيلين إلا ذكرًا عابرًا كعنصر غير ذي بال في أرض موعودة تنتظر من يخلّصها”.
تؤكد تلك النظرة التصوّر السابق الذي يمرره كل مستوطن في الفيلم وخارجه. على اعتباره أولًا ليس “مستوطن” وهو عمومًا مصطلح يعترض عليه أكثر من شخص داخل الفيلم، بل إنهم أصحاب أرض. ووجودهم فكرة دينية لتطهير الأرض الموعودة. يساعد خطاب شيطنة الآخر ذلك في المزيد من الوجود والسعي لنهب الأرض أكثر.
جوهر الحديث في الفيلم يقع على عاتق “أم المستوطنين” دانيلا وايس التي حملت خطة الاستيطان منذ النسكة حتى الآن بالضغط على الحكومة لاحتلال الضفة بالكامل وطرد الفلسطينيون نهائيًا. بل تذهب في فكرة أبعد. تسرح بعينها قليلًا بينما تتابع الكاميرا ثمة لمعان في تلك الأعين وهي تؤكد أنه “بات على الإسرائيلي الفهم بأن فلسطين كلها له”. ثم تضيف “بل ليست فلسطين فقط لدينا كل ما في الجوار تركيا والسعودية وكل هذه البلاد من النهر للنهر”.
عنف يستخدم دون سياق
ما يؤكده الفيلم خلال الستون دقيقة التي يعرضها أنه ليس الفلسطيني فقط هو من يقتله تلك الرغبات المدمرة وذلك الخيال المريض. بل كل عربي قد يصبح في مواجهة مباشرة مع عدو لا يعتبره إنسانًا في الأساس، يمارس ضده أي وسيلة تنفيه خارج أحلام السيطرة على الأرض.
وربما لذلك يبدو الخذلان والصمت العربي في مواجهة ما يحدث في الضفة أو في غزة حاليًا مخجلًا بشكلٍ مضاعف هو التأكيد أنه لن يتوقف هناك، وقد يأتي إلى أي من تلك الدول لاحقًا، بالمصير المرعب ذاته.
وبالرغم من أن المخرج لم يترك المساحة ذاتها للفلسطينيون داخل الفيلم للتعبير عن وجهات نظرهم، ومعاناتهم المستمرة من المستوطنون. فإن الخطاب النهائي للفيلم يثبت إلى أي مدى تحدث الانتهاكات على الفلسطينيون من قِبل هؤلاء المستوطنون الذي يقتلون جيرانهم يوميًا ويسرقون أراضي أكثر يومًا بعد الآخر وسط صمت عربي عالمي.
في إحدى المشاهد ينقل الفيلم سعي عائلة فلسطينية صغيرة تجني الزيتون من أرضها. ترصد الكاميرا التوحّش الإسرائيلي في التعامل مع العائلة كلها بالرغم من معرفتهم أنه صاحب الأرض، وأنه لا يحمل أي سلاح. يستنكر المخرج هذا الفيلم، لكن سرعان ما يجبره الجنود هو شخصيًا على الرحيل أو الاعتقال.
الفيلم تقريبًا لا يملك أي موسيقى. فقط يتنقل بين الكاميرا الواسعة التي تظهر الأرض من بعيد وبين الكاميرا القريبة من الأوجه لإظهار الكذب المتكرر. ولا يتدخل مونتاجيًا للقطع الحاد أو الملفت للنظر. يبدو أن المخرج قرر التجوّل بالكاميرا وترك الخطاب الذي تنقله يقول كل شيء دون أي تدخل صناعي. يبدأ الفيلم كما ينتهي؛ لدى إسرائيل أفكار تاريخية عن الأرض لا يعلم أحد من أين جاءت. والرغبة في تنفيذها يستدعي كل تلك القوة من أجل راحة المستوطنين. هذا الخطاب هو جوهر العمل أكثر من أي ئيء آخر.
فيلم “المستوطنون” كان سبيلًا للتأكيد على نقطة لا تزال نقطة خلاف عربي وعالمي، يتعلق بأحداث السابع من أكتوبر على اعتبارها السبب الوحيد فيما يحدث من إبادة في غزة. فبينما يبقى أهالي الضفة الفلسطينيون بعيدًا عن أي صراع، لا يؤهل أيًا من ذلك إلى توقف السعي الصهيوني المستمر للقتل والنهب. وثيقة تثبت أنه يستحيل التعايش بجانب المستوطنون المرتزقة تحت أي ظرف. أن الاستهداف مستمر سواء بالسابع من أكتوبر أو دونه.