في تصريح أثار اهتمامًا عربيًا واسعًا في مواقع التواصل الاجتماعي، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن لديه “مهمة تاريخية وروحية لتأسيس ما سمّاه بـ إسرائيل الكبرى”، في إشارة تعيد إلى الواجهة واحدًا من أقدم وأكثر المشاريع الصهيونية إثارةً للجدل. هذا التصريح، الذي جاء في خضم حرب مفتوحة على غزة وتصعيد متباين الشدة على جبهات لبنان وسوريا وإيران، يُذكّر بجذور فكرة “إسرائيل الكبرى” التي تتجاوز كونها شعارًا دينيًا أو أيديولوجيًا، بعد أن تحولت عبر العقود إلى مشروع سياسي متكامل يجد تعبيراته في السياسات التوسعية على الأرض.
منذ تأسيس دولة الاحتلال عام 1948، مرّ هذا المشروع بتحولات من النصوص التوراتية إلى وثائق وخطط إستراتيجية، مثل “خطة ينون” في الثمانينيات، وصولًا إلى الطروحات المعاصرة لليمين الديني والقومي المتطرف، الذي يرى في السيطرة على كامل فلسطين التاريخية والمناطق المجاورة “حقًا تاريخيًا” وضرورة أمنية. واليوم، ومع تزايد الخطوات الإسرائيلية على الأرض من استيطان وتهجير، تتجدد التساؤلات: هل نحن أمام تنفيذ متدرج لهذا المشروع؟
هل المخطط الصهيوني غائب عن احد وهل مشروع اسرائيل الكبرى سرا او مفاجئه ، وهل سيتوقف لمجرد الإدانة او الاستنكار او الشجب ؟!
الحقيقة المخيفة جدا ان الاستعمار الصهيوني والغربي قادم بقوة وباسرع مما كان يظن ، وفي حال لم تكن هناك صحوه عربيه عربيه ، واتحاد على الموقف والكلمة ، ورفع…
— المحامي د/ احمد بن عبدالله الشنفري (@AhmedAAlshanfri) August 14, 2025
في هذا المقال الشارح، نضع تصريح نتنياهو في سياقه التاريخي والسياسي، ونستعرض أصول فكرة “إسرائيل الكبرى”، وحضورها في السياسات الإسرائيلية منذ قيام الدولة، ثم نحلّل معطيات الواقع الراهن التي قد تُقربها من التنفيذ.
من أين جاءت فكرة “إسرائيل الكبرى”؟
تعود جذور فكرة “إسرائيل الكبرى” إلى المرويات الدينية في العهد القديم، حيث يرد وعدٌ إلهي لبني إسرائيل بأرض تمتد “من النيل إلى الفرات”. هذه الحدود التوراتية لم تبقَ حبيسة النصوص، بل تحوّلت في أواخر القرن التاسع عشر إلى جزء من الخطاب السياسي للصهيونية الناشئة، التي مزجت بين الرؤية الدينية والمشروع القومي.
وقد ساهم فثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، في فتح المجال أمام التيارات اللاحقة لتوسيع فكرة الوطن القومي اليهودي بما يتجاوز فلسطين الانتدابية، وإن لم يحدّد بدقة تلك الحدود في مؤلفاته.
ثم في فترة ما بين الحربين العالميتين، ظهرت ما يسمى بـ الصهيونية التراجعية (Revisionist Zionism) بقيادة فلاديمير جابوتنسكي، التي رفضت أي تسوية حدودية مبكرة، وأصرت على حق اليهود في كامل “أرض إسرائيل” التاريخية، بما في ذلك الضفة الشرقية لنهر الأردن.
ومع قيام دولة الاحتلال عام 1948، اكتسب هذا الطرح بعدًا عمليًا، لكنه بقي محكومًا بالتوازنات الدولية حتى حرب 1967، حين سيطرت “إسرائيل” على الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان، مما أعاد إحياء الطموحات التوسعية.
جاءت “خطة أوديد ينون” في الثمانينيات لترسّخ هذا التصوّر في وثيقة إستراتيجية دعت إلى تفكيك الدول العربية المحيطة وإعادة رسم حدود المنطقة بما يضمن هيمنة إسرائيلية طويلة المدى. ومنذ ذلك الحين، ظل المشروع حاضرًا في أذهان صناع القرار، كخطة سياسية قابلة للتدرج والتنفيذ عبر الاستيطان، السيطرة العسكرية، وإعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية.
بهذا المسار، تحوّلت “إسرائيل الكبرى” من وعد توراتي رمزي، إلى مشروع سياسي تتبناه قوى نافذة داخل الدولة العبرية، يجمع بين الموروث الديني، والحسابات الإستراتيجية، والطموحات الجيوسياسية.
كيف تَحضر “إسرائيل الكبرى” حاليًا؟
منذ قيام دولة الاحتلال عام 1948، بقيت فكرة “إسرائيل الكبرى” حاضرة في خلفية المشهد السياسي، وإن اختلفت درجة حضورها في الخطاب العلني والسياسات العملية تبعًا لتوازنات كل مرحلة، فمثلًا في العقود الأولى، حرصت القيادة الإسرائيلية على تثبيت الكيان الوليد ضمن حدود الأمر الواقع، لكن دون التنازل عن الطموحات التوسعية التي كانت تجد تعبيرًا لها في مشاريع استيطان مبكرة، وخطط عسكرية تستهدف إحكام السيطرة على مناطق إستراتيجية.
جاءت بعدها حرب 1967 لتفتح فصلًا جديدًا؛ فقد منحت السيطرة على الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان دفعة قوية للفكرة، ورسخت لدى قطاعات واسعة من النخبة الإسرائيلية قناعة بإمكانية فرض وقائع دائمة على الأرض. ومنذ ذلك الحين، بدأ الاستيطان في الضفة والجولان يتوسع بوتيرة متصاعدة، بدعم من الحكومات المتعاقبة، سواء كانت ذات توجهات يمينية أو وسطية.
مع صعود اليمين الديني والقومي في التسعينيات، تحوّلت فكرة “إسرائيل الكبرى” من إرث أيديولوجي إلى هدف سياسي شبه معلن، فشخصيات مثل أريئيل شارون وبنيامين نتنياهو دمجت هذا التصور في سياسات التوسع الاستيطاني ورفض أي تسوية حدودية نهائية. أما أحزاب اليمين المتطرف وحركات المستوطنين، فتبنّت الخطاب الديني الصريح الذي يرى في ضم الضفة الغربية ومناطق أخرى “واجبًا توراتيًا”.
اليوم، وفي ظل حكومة يهيمن عليها تحالف من اليمين الديني والقومي، باتت فكرة “إسرائيل الكبرى” أقرب من أي وقت مضى إلى صلب السياسات الرسمية، ليس فقط عبر الاستيطان، بل من خلال عمليات عسكرية وتغييرات ديموغرافية تستهدف إعادة رسم الخريطة على نحو يخدم هذا المشروع التاريخي.
في هذا السياق، تكتسب التحركات الإسرائيلية الراهنة في غزة ولبنان وسوريا بعدًا يتجاوز الردود العسكرية الظرفية، إذ يرى مراقبين أنها تسير ضمن مسار طويل الأمد لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية بما يتوافق مع تصورات “إسرائيل الكبرى”.
حيث تقترن هذه العمليات بالاستيطان والضم الزاحف في الضفة الغربية، ما يعكس مزيجًا من الطموح الأيديولوجي والحسابات الأمنية والاقتصادية، و يجعلها حلقة جديدة في مشروع لم يغب عن جدول أعمال اليمين الإسرائيلي.
هل بدأ تطبيق “إسرائيل الكبرى” ميدانيًا؟
تذهب قراءات عدة إلى أن ما يجري في الإقليم منذ أعوام ـ وخاصة بعد حرب غزة الجارية ـ لا يمكن فصله عن المسار التاريخي لمشروع “إسرائيل الكبرى”، الذي يمزج بين الطموح الأيديولوجي والرؤية الجيوسياسية. فالخطة الإسرائيلية المعلنة مؤخرًا باحتلال القطاع بالكامل، بالتوازي مع ضربات متكررة في لبنان وتوسع في سوريا، تبدو في نظر مراقبين كامتداد عملي لفلسفة “الأمن عبر التوسع” التي تتبناها النخبة الإسرائيلية منذ عقود.
في قطاع غزة، يمثّل التدمير الواسع للبنية التحتية، والتهجير القسري لعشرات الآلاف، محاولة لتغيير الواقع الديموغرافي بما يسهّل فرض ترتيبات سياسية وأمنية جديدة، قد تفضي إلى إضعاف أي كيان فلسطيني مستقل. هذا النهج يتقاطع مع ما ورد في “خطة ينون” حول إضعاف الخصوم عبر تفكيك مناطق نفوذهم، وتفريغها من السكان أو إعادة توزيعهم.
أما في لبنان، فإن تركيز الضربات على البنية العسكرية لحزب الله، مع تهديدات بعمليات أوسع، لا يقتصر على ردع عسكري آنٍ، بل يهدف ـ وفق محللين ـ إلى خلق شريط أمني أعمق داخل الأراضي اللبنانية، ما يمنح “إسرائيل” مجال مناورة أوسع على حدودها الشمالية.

وفي سوريا، تواصل “إسرائيل” استهداف مواقع عسكرية وبنى تحتية مرتبطة بالنظام السابق والحالي، في إطار سياسة “جبهة بين الحروب”. لكن هذا النشاط، الذي بات يشمل مناطق خارج الجولان المحتل، ويمتد إلى عمق الأراضي السورية، يعكس سعيًا لإعادة رسم بيئة أمنية إقليمية تقلّ فيها قدرة أي طرف معادٍ على تهديد العمق الإسرائيلي.
إلى جانب البعد العسكري، ثمة بعد اقتصادي وإستراتيجي لا يمكن تجاهله. فالمصادر التي تناولت فكرة “إسرائيل الكبرى” تشير إلى أن السيطرة على الممرات المائية (البحر الأحمر، شرق المتوسط) وموارد الطاقة في المنطقة، تشكّل جزءًا من الرؤية الطويلة المدى.
في هذا المعنى، يتضح كيف أن بسط نفوذ بحري وجوي على مناطق واسعة من شرق المتوسط ـ من سواحل غزة إلى المياه اللبنانية ـ يضع “إسرائيل” في موقع أفضل للتحكم بخطوط الغاز والنفط، وتعزيز مكانتها كمحور طاقة إقليمي.
بذلك، تبدو التحركات العسكرية والسياسية الراهنة كجزء من استراتيجية تراكمية: ترسيخ الوقائع الميدانية، إضعاف الخصوم، ثم تحويل المكاسب الميدانية إلى أوراق تفاوضية أو وقائع دائمة، في انسجام مع ملامح مشروع “إسرائيل الكبرى” كما تطوّر على مدى أكثر من قرن.
يؤكد هذا بالضرورة، أن استمرار “إسرائيل” في هذا المسار التوسعي لا يقتصر أثره على الفلسطينيين أو الدول المجاورة، بل يعيد خلط الأوراق الإقليمية بأكملها. والتقارب التركي-السوري الجاري، والمبني على تفاهمات أمنية واقتصادية، يمكن أن يتحول إلى منصة مشتركة لموازنة النفوذ الإسرائيلي في المشرق، خاصة إذا رأت أنقرة ودمشق أن مشروع “إسرائيل الكبرى” يهدد مصالحهما المباشرة في شمال سوريا وشرق المتوسط.
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في بيان صحفي مشترك مع نظيره الأردني والسوري: ثلث سوريا تحت احتلال غير مشروع، هذا شيء لا نقبله لجيراننا ونعمل مع الإدارة السورية على حله#سوريا #تركيا pic.twitter.com/kZ12MlTrSm
— نون بوست (@NoonPost) May 12, 2025
كما تُظهر التجربة التركية في قراءة الحرب الإسرائيلية-الإيرانية أن أنقرة باتت أكثر وعيًا بضرورة المنافسة على الممرات الإستراتيجية وموارد الطاقة، وهو ما قد يدفعها للتحرك دبلوماسيًا وعسكريًا لعرقلة أي تمدد إسرائيلي في فضاء يعتبره الأتراك جزءًا من مجالهم الحيوي.
في المحصلة، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ينجح اليمين الإسرائيلي في تحويل فكرة “إسرائيل الكبرى” إلى واقع جغرافي وسياسي، أم أن التوازنات الإقليمية والتحالفات الجديدة ستفرض مسارًا مغايرًا؟ الإجابة ستتوقف على صراع الإرادات القادم في المنطقة.