ترجمة وتحرير: نون بوست
في اجتماع بالمكتب البيضاوي الأسبوع الماضي، قدم الرئيس ترامب عرضًا للرئيس التنفيذي لشركة “إنفيديا” جنسن هوانغ، قائلا إنه سيكون هناك ثمن لمنح “إنفيديا” التراخيص التي تحتاجها لبيع رقائق الذكاء الاصطناعي إلى الصين.
قال ترامب: “أريد 20 بالمئة”، فردّ هوانغ: “هل تجعلها 15؟”.
كشف ترامب تفاصيل الاجتماع خلال مؤتمر صحفي يوم الاثنين، وقال إنه وافق على اقتراح هوانغ. وبعد يومين، منحت الإدارة الأمريكية شركة “إنفيديا” التراخيص التي أرادتها، ومن المتوقع أن تذهب هذه المدفوعات غير التقليدية إلى الحكومة.
كانت هذه المفاوضات المثال الأبرز على تدخلات ترامب الفجة في العمليات التجارية العالمية لأقوى شركات صناعة الرقائق. فقد هدد بسحب المنح الحكومية، وفرض قيودًا على مبيعات بمليارات الدولارات، وحذر من فرض رسوم جمركية مرتفعة على الرقائق المصنعة خارج الولايات المتحدة، وطالب باستثمارات، وحث إحدى الشركات، وهي شركة “إنتل”، على إقالة رئيسها التنفيذي.
في غضون ثمانية أشهر فقط، جعل ترامب من نفسه صانع القرار الأكبر في واحدة من أكثر الصناعات أهمية على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي في العالم، والتي تصنع المكونات الرئيسية لكل شيء، من أنظمة الذكاء الاصطناعي العملاقة إلى المعدات العسكرية. وقد حوّل عمليات التخطيط الاستراتيجي لهذه الشركات، والتي يقودها المهندسون تاريخيا، إلى لعبة سياسية داخلية.
يؤكد هذا التدخل في الأعمال التجارية الخاصة مدى ابتعاد هذه الإدارة عن فلسفة عدم التدخل في السوق، والتي تبناها الرئيس رونالد ريغان ووجهت الحزب الجمهوري لعقود.
وقال مؤرخون اقتصاديون إنه التدخل الفدرالي الأكثر جرأة في الاقتصاد الأمريكي منذ الإجراءات التي اتخذتها إدارة أوباما في عام 2008 لإنقاذ البنوك وصناعة السيارات وتجنب تفاقم الأزمة المالية. لكن التدخل هذه المرة جاء التدخل دون أي مبررات، كما يقول الخبراء.
وقالت آن هاريسون، أستاذة الاقتصاد والعميدة السابقة لكلية هاس لإدارة الأعمال في جامعة كاليفورنيا بيركلي: “هذه ليست سياسة صناعية عقلانية، بل هي تدخل فيمن يدير الشركات وتهديد لها بفرض عقوبات إذا لم تفعل ما يقوله ترامب”، وأضافت أنه “يدير أدق التفاصيل”.
المرجعية القانونية لإجراءات ترامب غير واضحة. لا توجد سابقة في الحكومة لتحصيل رسوم مقابل منح تراخيص تصدير، مثلما يخطط ترامب لفعله مع “إنفيديا” ومنافستها الأصغر “أدفانسد مايكرو ديفايسز”. ولم ترد وزارة التجارة على الأسئلة حول كيفية تحصيل هذه المدفوعات، أو إلى أين ستذهب هذه الأموال.
أدت الضغوط التي يمارسها ترامب إلى حالة من القلق في قطاع صناعة الرقائق. يفضل المصنعون أن تكون لهم القدرة على التنبؤ لأن بناء المصانع يستغرق سنوات ويكلف عشرات المليارات من الدولارات. كما تقضي الشركات سنوات في تصميم الرقائق وعمليات إنتاجها.
لكن مع تولي ترامب زمام الأمور، لا تعرف الشركات متى قد تتعرض للضغط لتغيير خططها، حسب رأي جيمي غودريتش، كبير المستشارين في مؤسسة “راند” والمسؤول السابق عن السياسات في “جمعية صناعة أشباه الموصلات”.
ولم يُترك لقادة الصناعة خيار سوى الاستجداء للحصول على إعفاءات رئاسية، من خلال الوعود المالية والهدايا، مثل اللوحة ذات القاعدة الذهبية التي قدمها تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة “آبل”، إلى ترامب الأسبوع الماضي.
وقال غودريتش: “الأمر برمته أصبح شديد التقلب. فهو يصعد ويهبط في اتجاه لا يعلمه أحد، لأن ترامب يتعامل مع هذه القضايا من وحي اللحظة”.
لطالما كان قطاع أشباه الموصلات، الذي تبلغ قيمته 600 مليار دولار، في طليعة صناعة التكنولوجيا. وقد عزز ازدهار الذكاء الاصطناعي في السنوات الثلاث الماضية هذا التوجه، محولاً شركة “إنفيديا”، التي تبلغ قيمتها الآن أكثر من 4.4 تريليون دولار، إلى الشركة الأكثر قيمة في العالم من بين الشركات المدرجة في البورصة. كما أصبح هوانغ -أحد قدامى رواد وادي السيليكون، والذي لم يكن معروفا على نطاق واسع- واحدا من أبرز الشخصيات في القطاع.
لكن الرقائق ليست مهمة لشركات التكنولوجيا فقط، فهي مكون رئيسي في الأسلحة والأجهزة الحديثة، وتتحكم تقريبا في كل شيء له مفتاح تشغيل وإيقاف. ولكن معظم الرقائق المتقدمة تُصنع في تايوان، وهي جزيرة تتمتع بالحكم الذاتي قد تتعرض يومًا ما لغزو صيني. ويضغط ترامب على القطاع لبدء صنع المزيد من هذه الرقائق في الولايات المتحدة.
وقال كوش ديساي، المتحدث باسم البيت الأبيض، في بيان إن أهمية الصناعة تبرر تدخل ترامب. وأضاف: “لا يمكن للأمريكيين تحمل إدارة أخرى غير مبالية تتهاون في هذا المجال، وقيادة الرئيس ترامب المباشرة في صناعة الرقائق تؤكد التزام هذه الإدارة بحماية أمننا القومي والاقتصادي”.
خلال ولايته الأولى، منع ترامب شركات الرقائق من التعامل مع شركة “هواوي”، عملاق التكنولوجيا الصيني، وعمل مع “شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات” على إطلاق مصنع رقائق متقدمة في أريزونا.
وقد وسّع الرئيس جو بايدن تلك الجهود من خلال “قانون الرقائق”، وهو مشروع قانون حظي بدعم الحزبين لتقديم 52 مليار دولار من الإعانات المالية والإعفاءات الضريبية لتصنيع الرقائق في الولايات المتحدة، كما فرض قيودًا على مبيعات أشباه الموصلات إلى الصين.
ومنذ عودته، صعّد ترامب من ضغوطه. ففي وقت مبكر من هذا العام، هددت إدارته بحجب المنح عن شركات الرقائق ما لم توافق على المزيد من الاستثمارات في الولايات المتحدة.
كما أخبر ترامب المسؤولين التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا أنه يدرس فرض رسوم جمركية في قطاع أشباه الموصلات ما لم يتم شراء المزيد من الرقائق المصنعة في الولايات المتحدة. وبدأت إدارته تحقيقًا لفرض رسوم جمركية على أشباه الموصلات بموجب قانون متعلق بالأمن القومي يُعرف بالفصل 232.
في مارس/ آذار، قالت “شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات” إنها ستستثمر 100 مليار دولار في الولايات المتحدة في ثلاثة مصانع جديدة ومنشأتين لتغليف الرقائق. وقالت “مايكرون تكنولوجي”، التي تصنع رقائق الذاكرة، إنها ستزيد استثماراتها في الولايات المتحدة بـ150 مليار دولار.
وبينما كان المسؤولون التنفيذيون يتعاملون مع هجمات ترامب التي أصبحت شخصية في بعض الأحيان، سافر الكثير منهم إلى واشنطن للحديث معه بشكل مباشر.
وقال كريس ميلر، أستاذ التاريخ في جامعة تافتس ومؤلف كتاب “حرب الرقائق”: “رأى الرؤساء التنفيذيون أن أفضل استراتيجية هي بناء علاقة مباشرة مع الرئيس بقدر المستطاع”، مضيفا أن “الضغط الذي تمارسه الاتحادات العاملة في القطاع أقل فعالية بكثير”.
برز هوانغ (62 عامًا) كقائد فعلي للصناعة. تعرض هوانغ لنكسة في أبريل/ نيسان عندما فرض ترامب قيودًا على مبيعات شريحة “إتش 20” التي صممتها “إنفيديا” لبيعها في الصين. كلّفت هذه القيود الشركة 5 مليارات دولار.
لكن هوانغ سافر مع الرئيس إلى الشرق الأوسط وساعده في التفاوض على واحدة من أكبر صفقات الرقائق في التاريخ مع دولة أخرى: بيع 500 ألف من أشباه الموصلات إلى الإمارات العربية المتحدة. أشاد ترامب بالصفقة ووصف هوانغ بالصديق.
في اجتماع بالبيت الأبيض في يوليو/ تموز، طلب هوانغ من ترامب رفع الحظر عن مبيعات رقائق الذكاء الاصطناعي إلى الصين، بحجة أن الرقائق أقل جودة من تلك التي تباع في الولايات المتحدة. وافق ترامب، لكن الإدارة لم تمنح التراخيص اللازمة لتلك الصادرات. وعندما عاد هوانغ إلى البيت الأبيض الأسبوع الماضي وطلب التراخيص، استغل ترامب الزيارة لتأمين 15 بالمئة من مبيعات تلك الرقائق للحكومة الفدرالية.
كما ظهر تيم كوك مع ترامب في البيت الأبيض الأسبوع الماضي ليعلن أن “آبل” ستستثمر 100 مليار دولار إضافية في الولايات المتحدة، على أن يذهب جزء منها إلى شركات صناعة الرقائق الأمريكية. قبل أسابيع فقط، كان ترامب قد انتقد كوك علنًا، قائلاً إن “آبل” تتباطأ في نقل بعض عمليات التصنيع إلى الولايات المتحدة.
واستغل ترامب زيارة كوك ليعلن أنه سيفرض رسومًا جمركية بنسبة 100 بالمئة على أشباه الموصلات الأجنبية. لكنه قال إنه إذا استثمرت الشركات في الولايات المتحدة على غرار ما قامت به “آبل”، سيتم إعفاؤها من الرسوم.
ثم يوم الاثنين، قال الرئيس إنه قد يسمح أيضًا لـ”إنفيديا” ببيع نسخة أقل جودة من أحدث رقائق الذكاء الاصطناعي إلى الصين، مقابل السعر المناسب. وقال ترامب عن هوانغ: “أعتقد أنه سيأتي لرؤيتي مرة أخرى بخصوص هذه المسألة”.
رفضت “إنفيديا” التعليق. وفي بيان سابق، قالت إنها تتبع القواعد الحكومية.
في اليوم ذاته، التقى ترامب بالرئيس التنفيذي الجديد لشركة “إنتل” ليب بو تان. كانت “إنتل”، الشركة الرائدة في صناعة الرقائق، قد أقالت رئيسها التنفيذي العام الماضي، وحلّ مكانه بو تان، وهو مستثمر ومدير تنفيذي معروف له سجل حافل بالاستثمار في صناعة أشباه الموصلات في الصين.
قبل بضعة أيام فقط، طالب ترامب في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي بأن تغير “إنتل” قيادتها لأن تان “في موقف متضارب للغاية”. جاء الهجوم بعد أن أقرت شركة “كادينس سيستمز”، التي كان تان يقودها سابقًا، بالمسؤولية عن انتهاك القوانين الحكومية الأمريكية من خلال بيع تكنولوجيا لجامعة صينية تعمل على محاكاة الانفجارات النووية.
بعد اجتماعه مع بو تان، تراجع ترامب عن طلبه، لكنه ألمح إلى أنه لم يحسم الأمور مع “إنتل”، قائلا إن تان سيلتقي بمسؤولين في الإدارة و”سيقدم لي عددا من المقترحات”.
المصدر: نيويورك تايمز