في عالم يزداد تعقيدًا يوماً بعد يوم، يصبح تعليم الأطفال أسس الإدارة المالية مهارة حياتية ضرورية تؤثر في قراراتهم المستقبلية وتسهم في بناء شخصياتهم المستقلة، فالوعي المالي لا يقتصر فقط على معرفة قيمة المال، بل يشمل مهارات أعمق مثل التمييز بين الرغبات والاحتياجات وفهم تأثير الإعلانات والإدراك الواعي للتكلفة الحقيقية للمنتجات والخدمات.
من خلال هذا التقرير، نهدف إلى مساعدة الوالدين والمربين على تبسيط هذه المفاهيم للأطفال، بأسلوب يناسب مستوى تفكيرهم ويمكِّنهم من استيعاب هذه المبادئ بشكل تدريجي. مع ملاحظة أنه لا يمكن ترسيخ هذه المهارات من خلال جلسة واحدة أو نقاش عابر، وإنما من خلال تجربة عملية متواصلة ومتسقة مع نمو الطفل وزيادة فهمه للعالم من حوله.
يركز هذا الدليل على الأسئلة التي قد يطرحها الأطفال حول المال، ويجيب عنها الأستاذ هيثم محمد، وهو مهتم بتدريب الأطفال على مهارات الوعي المالي وحساب التكاليف وبدء المشروعات، وقدم دورة “الوعي المالي للصغار” عبر “أكاديمية بناء”.
هيثم محمد، تخرّج في كلية الطب قبل أن يتخصص في إدارة المشروعات والمحتوى الرقمي، وعمل مديرًا للمحتوى الرقمي والمواقع الإلكترونية حتى عام 2012، ثم انتقل إلى مجال إدارة المشروعات في شركات تكنولوجيا المعلومات، وحصل على شهادة إدارة المشروعات “PMP” من المعهد الأمريكي “Project Management Institute”.
ما هو المال؟
المال هو أوراق تُصنع في كل دولة بأشكال مختلفة ومميزة بحيث يصعب تزويرها، وتمثل كل ورقة قيمة معينة يحددها البنك المركزي (وهو البنك الرئيسي الذي تديره الدولة ليحافظ على أموال البلد وينظم عمل البنوك الأخرى). يصنع البنك المركزي هذه النقود لتُستخدم كوسيلة لتبادل السلع (كالطعام والشراب والملابس وكل المنتجات التي نشتريها من السوق) والخدمات (مثل الكهرباء والماء والمواصلات وأجرة معاينة الطبيب وغيرها).
المال ضروري لكل الأفراد من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي وتلبية الاحتياجات الأساسية مثل الطعام والملابس والمسكن والتعليم والرعاية الصحية. كما أنه يمكنهم من تحقيق الراحة النفسية والاجتماعية من خلال توفير بيئة مستقرة وآمنة لهم ولأسرهم. إضافة إلى ذلك، يعزز المال من القدرة على تحقيق الرفاهية من خلال توفير الفرص التعليمية والترفيهية والاستثمارية. وبغياب المال لا يمكن للناس الحصول على حاجاتهم الأساسية في الحياة.
يمكن أن يساعد المال في تحقيق بعض أشكال السعادة، مثل تلبية احتياجاتنا الأساسية والقيام بالأشياء التي نحبها، لكن العامل الحاسم في تأثير المال على السعادة هو كيفية إنفاقه وإدارته؛ فإذا أنفقناه بطريقة صحيحة، نستطيع تجنب القلق المالي والوصول إلى راحة البال، ومن الأمثلة على ذلك استخدام المال لإثراء التجارب الشخصية كالتعلّم والسفر وخوض المغامرات.
كيف نستطيع كسب المال؟
كسب المال يأتي من خلال الجهد والعمل المشروع. هناك ثلاثة مصادر للمال: إما العمل كموظف في مؤسسة ما أعمل فيها عدد ساعات معينة في الشهر وأحصل على راتبي في نهاية الشهر كما هو متفق عليه، أو نحصل عليه عند إنجاز عمل ما نتيجة خدمة أقدمها لشخص طلبها مني فأحصل على النقود مقابل هذه الخدمة/العمل مثل أصحاب الحرف بسعر متفق عليه، أو أبيع منتجات وأحصل مقابلها على النقود.
إذن المهارة هي العامل المهم الذي يمكّن الإنسان من الحصول على المال. إذا كانت المهارة قوية وكنت ناجحًا فيها فهذا سيدفع الناس للتعامل معك ويكون أجرك مرتفعًا، ولذا فإن بناء المهارات مهم للغاية منذ الصغر.
ويساعدك العمل على أن تكون مستقلًا ماليًا وتستطيع إعالة نفسك وأسرتك وأن تتحمل المسؤولية في المجتمع بأن تكون شخصًا منتجًا.
تختلف قدرة الأشخاص على الحصول على المال، ولذلك البعض منهم أغنياء وآخرون فقراء وكثيرون في وضع متوسط، وهذا يتعلق بمهاراتهم أو جهدهم الشخصي أو الفرص التي يحصلون عليها خلال حياتهم، مثل القدرة على الوصول إلى التعليم والموارد، كما يتعلق بالوضع الاقتصادي في البلاد التي يولدون أو يعيشون فيها.
ويجب استخدام المال بحكمة للحفاظ على الاستقرار المالي الشخصي والعائلي. وأول خطوة في هذا هو فهم الفرق بين الاحتياجات والرغبات. الاحتياجات: هي الأشياء التي لا يمكن العيش بدونها مثل الطعام والملبس والمسكن والتعليم، أما الرغبات: هي الأشياء التي نود الحصول عليها ولكن يمكن العيش بدونها. على الإنسان أن ينتبه فلا ينفق ماله على رغباته قبل أن يتأكد من أنه قادر على تأمين احتياجاته الضرورية، لأن الرغبات لا تنتهي ولأن الإعلانات في الطرقات وعلى الإنترنت وعن طريق المشاهير تشجع الناس على إنفاق المزيد من الأموال وشراء الأشياء حتى لو لم يكونوا بحاجة حقيقية إليها.
لماذا لا يمكننا طباعة المزيد من المال إذا احتجنا إليه؟
إن قيام الأفراد بطباعة الأموال بشكل فردي يُسمّى تزويرًا، ويُعاقب عليه القانون، وهو مال لا قيمة له، لأن لكل ورقة نقدية رقمًا تسلسليًا يتابعه مسؤولو البنك المركزي. ومن الناحية الاقتصادية، إذا قامت الدولة بطباعة المزيد من المال دون زيادة في الإنتاج أو الخدمات، فإن ذلك يؤدّي إلى التضخم، أي انخفاض قيمة المال وتراجع القدرة الشرائية.
وبشكل عام، يعد التضخم أمرًا يحدث باستمرار؛ فمثلًا، لو كان جدّي يملك مئة دولار ودخل إلى السوبر ماركت قبل 60 عامًا، لتمكّن من ملء سلة التسوق أكثر بكثير مما أستطيع أنا اليوم بنفس المبلغ.
ما الذي يجعل شيئًا ما أغلى من غيره؟ ولماذا يجب أن أدفع مقابل الأشياء؟
تختلف أسعار الأشياء بناءً على عدة عوامل مثل تكاليف الإنتاج، والجهد المبذول في التصنيع، والعرض والطلب (فمثلًا: يرتفع سعر المثلجات في الصيف لأن الجميع يرغب بشرائها، بينما يرتفع سعر المعاطف والأغطية في الشتاء لأن الحاجة إليها تزداد)، كما تؤثر الجودة والماركة ومكان البيع في السعر؛ فالأسعار في السوق الشعبي عادة أقل من المولات الكبيرة، لأن إيجار المحل في السوق الشعبي أقل.
ونحن ندفع مقابل الأشياء لأنها تُكلّف جهدًا ومالًا لإنتاجها أو تقديمها. كما أن الدفع يمنح الآخرين حقهم ويُبقي التبادل العادل مستمرًا، ويساعد الشركات والأفراد على الاستمرار في توفير السلع والخدمات بالكميات التي تلبي احتياجات الناس.
ما هي بطاقة الائتمان؟ وهل يمكنني استخدامها؟
بطاقة الائتمان هي بطاقة تصدرها البنوك أو الشركات المالية، وتتيح لك اقتراض المال لشراء الأشياء أو دفع الفواتير، حيث يعطيك البنك مبلغًا محدّدًا “كحدّ ائتماني”، وتقوم بسداده في نهاية كل شهر مع فوائد إذا لم تدفعه بالكامل في الوقت المحدد. تحتاج بطاقات الائتمان إلى وعي مالي، لأنها تعتمد على الاقتراض وتشجع على شراء منتجات لا نملك ثمنها، وذلك حتى تتمكّن من تجنب الديون أو الفوائد الزائدة.
مثلًا، قد ترغب في السفر في إجازة وأنت لا تملك المال، فيلجأ البعض لاستخراج بطاقة ائتمان بمبلغ معين على أن يسدده على دفعات لاحقًا، لكن إذا تأخر في السداد، يزداد المبلغ الذي يجب أن يعيده، كما أن هذا قد يدفعه لتلبية جميع رغباته بهذه الطريقة دون أن يوازن بينها وبين قدراته المالية.
ما هي الطريقة المناسبة للحصول على أشياء مرتفعة الثمن وأعلى من دخلي الشهري؟
من خلال مهارة مهمة جدًا عند الكبار والصغار، وهي: الادخار، الذي يُمكّنك من شراء أشياء كنت تظنها مستحيلة أو صعبة، لكنها بفضل الادخار والإنفاق الرشيد للمال أصبحت ممكنة.
ولكن صعوبة الادخار أنه يتعلق بمهارة تأجيل المتعة، مثل تأجيل الطفل لشراء الحلوى في سبيل شراء لعبة أو شيء كبير يتمناه. وتدريب الأطفال على هذه المهارة منذ عمر صغير يعلمهم التحكم في رغباتهم وضبط النفس في كل مجالات الحياة.
المال والمسلم
يُعدّ المال في الإسلام أمانة ورزقًا من الله تعالى، ويجب على المسلم أن يتعامل معه بحكمة، وهو وسيلة لتحقيق التوازن بين متطلبات الحياة الدنيا ومتطلبات الآخرة، وهذا جزء من حثّ المسلم على تحقيق التوازن بين احتياجات الدنيا والآخرة.
يشجّع الإسلام الناس على الاجتهاد في طلب الرزق، من خلال طرق حلال، وهذا يشمل التجارة والزراعة والصناعة وغيرها من الأعمال المشروعة، كما علينا تجنّب الطرق السريعة أو غير المشروعة مثل السرقة أو الربا أو الغش.
قال رسول الله ﷺ: «ما أكل أحد طعامًا قطّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده».
وعن الزبير بن العوّام رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكفّ الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه».
ختامًا، في طريقنا لبناء وعي مالي سليم للأطفال، نحن نجمع بين تقديم المفاهيم الاقتصادية وزراعة قيم ومهارات تدوم مدى الحياة، فالتربية المالية هي ترسيخ الإدراك العميق للعلاقة بين المال والمسؤولية، وتحويل كل فرصة يومية إلى درس عملي ينير طريقهم نحو الاستقلالية والحرية المالية.