منذ يوليو من عام 2013، شهدت مصر تصاعدًا لافتًا في أدوار مجموعات “البلطجة” في الحياة العامة، تحديدا في الشوارع والجامعات، حيث كانت في بدايتها، شبكات غير منظمة بشكل كامل، وتتبع دوائر مختلفة من السلطة سواء كانت الأجهزة الأمنية أو رجال أعمال محسوبين عليها.
لكن، مع مرور الوقت بدأت هذه الشبكات في تنظيم نفسها، تحت مسمّيات وظيفية مُتعددة، فكيف استغلت السلطة هذه الشبكات في قمع معارضيها، في الجامعات والميادين تحديدا؟، كما كيف استخدمتها السُلطة في الاستحقاقات الانتخابية سواء البرلمانية أو الرئاسية؟، وكيف أصبحت هذه الشبكات أكثر تنظيما؟ وما أثر هذا التنظيم على إخضاع المُجتمع المصري؟
الجامعات والميادين أيام الانتخابات
في القاهرة وخلال السنوات التالية لعام 2013، وقعت اعتداءات منظمة ضد مسيرات طلابية معارضة للسلطة الجديدة، إذ أطلق أمن بعض الجامعات عناصر من “المواطنين” تحت إشراف ضباط وزارة الداخلية للاعتداء على هذه الاحتجاجات، فيما بعد بدأت قوات الأمن ذاتها تقتحم الجامعات وتفض كل الاحتجاجات بالعنف، ما أدى إلى مئات من حالات الاعتقال، فضلا عن إصابات أودت بحياة الطلاب، كما حدث، في أكتوبر عام 2014، بكلية الهندسة بجامعة الإسكندرية، حيث قتل أحد الطلاب برصاص قوات الأمن.
أما في الميادين، فقد ظهرت تلك الجماعات كقوى موازية توجّهها قوات الأمن الرسمية لقمع الاحتجاجات المعارضة للسلطة الجديدة، إذ كانت تُهاجم تلك الاحتجاجات بعشرات من الشبان الملثمين (البلطجية)، الذين كانوا ينشرون الفوضى بين المتظاهرين، مستخدمين العنف لإفشال المظاهرات السلمية، لا سيما يوم فض اعتصامي رابعة والنهضة، وما تلاه، حيث انتشر هؤلاء البلطجية في كل أنحاء مصر، وهجموا على المحلات التابعة للإخوان المسلمين وقاموا بحرقها، والاعتداء على كل من هو محل شكٍ في معارضة فض الاعتصام وسياسات السُلطوية الجديدة، كما جاء في تقرير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، تقول فيه: “إن قوات الأمن كانت تنقل هؤلاء المسلحين عبر حافلات خاصة لتفريق المظاهرات السلمية، ثم تُكافئهم بعد ذلك بلحوم مجانية وحماية من الملاحقة القانونية”.
كما وظّفت شبكات البلطجة، في أيام الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، على سبيل المثال، في الانتخابات الرئاسية، أواخر عام 2023، أعلن المرشح المعارض أحمد طنطاوي، انسحابه موضحًا أن السلطوية، وبلطجيّتها، استهدفوه بشكل شخصي، كما استهدفت أنصاره ومنعتهم من عمل التوكيلات الرئاسية لترشحه.
أيضا، وثقت مؤسسات صحافية وحقوقية الحملة التي نظمها الأمن الوطني ومعه أحزاب مؤيدة للنظام تتضمن مجموعات كبيرة من الخارجين عن القانون (البلطجية)، لإجبار المواطنين على تسليم بطاقاتهم الشخصية بهدف التوقيع على توكيلات انتخابية. هذه الأمثلة، وغيرها، عكست بداية تأسيس عنف منظّم، لا سيّما في اللحظات السياسية المفصلية، وأهمها الانتخابات الرئاسية.
الشبكات وعلاقتها بالأجهزة الأمنية
من الصعب فصل هذه الجماعات عن مظلة الدولة الأمنية، لا سيما جهازيّ الأمن الوطني والمباحث والمخابرات العامة، فغالبًا ما يُنظر إليها على أنها امتداد غير رسمي لجهاز الأمن، على العكس، إذ تحدث السيسي نفسه في أحد خطاباته عن قدرته، أي قدرة الدولة، على حشد البلطجية في الشوارع بهدف تدمير مصر، ما يدل على مدى اطلاع الرئيس بنفسه وأجهزته السياسية الأمنية على ملف “البلطجة”، وكيفية إدارتها وتوظيفها لخدمة أهداف السلطة في الهيمنة والبقاء وتهديد المجتمع المصري بفزاعة الفوضى.
على الرغم من إعلان وزارة الداخلية، في أغسطس عام 2013، حظر “اللجان الشعبية” التي ظهرت آنذاك، إلا أن الأمر بقى إلى حد كبير شكليًا؛ فالسلطة استمرت بتوظيف عناصر مماثلة تحت أسماء ومظلات أخرى، حتى أن شركات أمن خاصة كبرى – كان من بينها “فالكون” – والتي تأسست تحت إشراف أجهزة الأمن، وقد بثت الشركة، عام 2014، فيلمًا تسجيليًا يعلن عن “قطاع دعم وتدخل سريع” متناغم مع قوات الشرطة لتأمين الجامعات والأماكن العامة، فيما بعد تولت “فالكون” رسميا تأمين عشرات الجامعات والمهرجانات، وهو ما يعني تكاملًا جوهريًا بين منظومة أمنية موازية وتابعة للجهاز الأمني الرسمي في فرض الهيمنة.
مع مرور الوقت، تطورت هذه الشبكات من مجرد عصابات يقودها سجناء سابقون إلى مؤسسات صلبة مرتبطة برجال أعمال حاليين، وأشهرهم صبري نخنوخ، المعروف باسم “رئيس جمهورية البلطجة” في مصر، فقد ترأس مجموعة “فالكون” للأمن، لتصبح تحت إدارته ومساعديه، وقد ظهر نخنوخ نفسه في صور على مواقع التواصل وهو يترأس اجتماعات مجلس إدارة فالكون.
أصبحت شركة فالكون واحدة من أكبر شركات الأمن في مصر، كما أنها تسيطر على نحو 62% من السوق في سنوات ما قبل سيطرة نخنوخ عليها، كما أن تمويل هذه الشبكات أصبح مرتبطًا ببعض رجال الأعمال المقربين من السلطة، الذين يوفر لهم الغطاء الاقتصادي والسياسي لهم، واللافت أن نخنوخ نفسه كان مدانًا في عدة قضايا متعلقة بالبلطجة، قبل أن يمنحه الرئيس السيسي بنفسه عفوًا رئاسيًا في منتصف 2018. بعد خروجه، تساءل مراقبون عن مدى توظيفه من قبل السلطة كمدير لإمبراطورية البلطجة التي يمتد تاريخها إلى قبل ثورة يناير بعقود طويلة.
أثر البلطجة على المجال العام
مراوغة النظام بهذه الطريقة أدت إلى تآكل هادئ للفضاء العام في مصر، إذ نجحت هذه التكتيكات في قمع الأصوات المعترضة دون الحاجة إلى لجوء صريح للقتل الرسمي، أي قتل بالزي الأمني؛ ولكن كان الثمن كبيرًا بحق مصداقية الدولة التي لم تعد تتمتع بامتياز الاحتكار الأمني، إذ تركت مهمة تأمين النظام في أيدي مجموعات خارج القانون، لا تضمن السيطرة عليها طيلة الوقت، على عكس ما كان قبل هذا التنظيم، وهذا ما شكّل خطرًا على المواطنين كافة، إذ بات أي ممارسة صحفية أو نشاط احتجاجي عرضة للخطر بوجود هؤلاء البلطجية، فانتشرت الاعتداءات الفردانية، مثلما حدث مع الحقوقي جمال عيد، والناشط السياسي والكاتب أحمد دومة، في سنوات متعاقبة.
هيومن رايتس ووتش: الاعتداء على محام حقوقي مصري بارز “يحمل بصمات الأمن” https://t.co/G5TB7GY0KZ pic.twitter.com/OvBqyupeya
— Mohammad Rjoub 🇵🇸 ﮼محمد رجوب (@MAlrjoub) December 31, 2019
لعبت شبكات البلطجة دورًا حاسمًا في تمكين النظام الحالي من سحق المعارضة الشعبية بعد 2013، وفي قلبها الإسلاميين، وقد بدت مقاربة “تقسيم الأدوار” بين السلطة والبلطجية متطورة، إذ ابتعدت الشرطة عن العنف المباشر، لا سيما، وبشكل أقل، في الجامعات، بينما حملت الشبكات شبه المسلحة أكف الأيادي القذرة، فيما يبدو اعتماد هذه الاستراتيجية على المدى الطويل، ربما، يشكّل خطرًا مضاعفًا؛ فالأمن الذي يوفرونه مشروطٌ بموافقة حلفائهم وليس بموجب قانون، ومهما كان حجم المكاسب الظاهرية لهذه السياسة الأمنية، فإن “العقوبة بلا قانون” لن تنجح في ترسيخ الاستقرار، بل قد تؤدي إلى انفلات أوسع للبلطجية فيما بعد، وبالتالي فإن الأثر السلبي لهذه الظاهرة قد يتضح في إضعاف نسيج المجتمع المصري وتعطيل حراكِه، ما يفتح نقاشًا طويل الأمد حول كيفية تحقيق الاستقرار وبناء الثقة دون إدامة دائرة “العنف” دون الاعتبار لأي قوانين.
نهاية، من خلال تنظيم شبكات البلطجة، وتمويلها، وشراكتها الإدارية بين رجال “الأعمال” والأمن، أصبحت هذه الشبكات جزءا أساسيا من إدارة السيطرة على معارضة المجتمع لسياسات السُلطوية، لا سيّما في أيام الانتخابات والاستفتاءات. أيضا، يُدرك الجهاز الأمني في مصر، ورأس السلطوية السياسية، أن شبكات البلطجة هي جزء أساسي ومكمل لهيمنة الجهاز الأمني على المُجتمع المصري، إذ من خلال ضخامة الثاني، يستحيل على الجهاز الأمني وحده السيطرة على هذه الضخامة، في حال ثورتها أو انفجارها، وهذا ما حدث في جمعة الغضب يوم 28 يناير 2011، حيث هربت قوات الأمن من أمام غضب المجتمع المصري، لذا، كان تكوين جهاز أمني “مدني”، منظم من شبكات البلطجة، جزء أساسي لفهم السُلطوية أساليب الضبط والإخضاع والهيمنة، في ظل سياساتها التي تتعمد إفقار وإثارة غضب المجتمع المصري.