تاريخيًا، تقع عين سامية على السهول الشرقية لقرية كفر مالك/ رام الله على امتداد أربع كيلومترات، ويعود تاريخها إلى أكثر من 7000 عام تقريبًا، فهي تعتبر من أقدم المناطق التاريخية في العالم. وقد وصفها الباحثون في تاريخ الحضارات بأنها مدينة تحظى بالعديد من المزايا والآثار التي تعود إلى العهد البرونزي القديم والكنعاني وأيضًا الروماني والإسلامي، كما تضم عين سامية المئات من القبور الرومانية. وتحتوي المنطقة على نبع مياه هائل يُعد الأقوى والأكثر نقاءً، يزود كل من مدينة رام الله والبيرة وقراها بالمياه.
عين سامية، هذه الأرض التي تروي قصص الصمود والهوية، كانت مطمع الاحتلال ومستوطنيه على مدار السنين، وحلمهم في سرقة أراضيها ونبعها الآن تحقق، وها نحن نرى كيف أن الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه استغلوا حرب أكتوبر 2023 ليطبقوا مخططهم ويسطو على آخر ما تبقى من الأرض والتاريخ.
“عين سامية روح البلد راحت”
تتحدث الحاجة أم فاخر في مقابلة لـ”نون بوست” بحرقة وحسرة والدموع تملأ عينيها عن أرضها التي استولى عليها المستوطنون لتصبح بعد أن كانت أرضًا خصبة خضراء الزرع لخراب ومرعى لأغنام وأبقار المستوطنين، قائلة: “أنا قضيت عمري كله في زراعة أرضي، 30 سنة وأنا أفلحها، تارة أزرعها بالخضرة وتارة أخرى بالزعتر، لم أكن أشعر بالتعب وأنا أعمرها، ولكن الآن أشعر بالتعب والحرقة على أرضي المسلوبة ورزقي الذي ذهب أدراج الريح، أقف على الأطلال وأبكي على أرضي من بعيد التي تحولت لخراب”.
جمعة بعيرات، مزارع وموظف متقاعد من شركة الكهرباء، أشار بدوره لـ”نون بوست” إلى أن منطقة عين سامية كانت هدفًا ومطمعًا للاحتلال الإسرائيلي منذ القدم، ففي السبعينيات أقيم معسكر على جزء من أراضيها، تحول فيما بعد لمستوطنة زراعية أطلق عليها اسم “كوكب الصباح”، وبدأت هذه المستوطنة تمتد كالسرطان في الأراضي حتى لم يبقَ إلا أجزاء قليلة من الأراضي لإعمارها.
وأضاف بقوله: “قبيل حرب أكتوبر 2023 بقليل أنشأت بؤر استيطانية جديدة للضغط من أجل إخراجنا رويدًا رويدًا، وبدأ المستوطنون في خطتهم، فقاموا بالاعتداء على أصحاب الأغنام والبدو وقاموا بإخراجهم من أراضي عين سامية، وخلال الحرب بدأت هجماتهم المسعورة ضدنا كمزارعين، فبدأوا بالضغط علينا وتهديدنا مرارًا وتكرارًا وتعرضنا للعنف الجسدي، حيث تم الاعتداء علي وعلى مزارع آخر، وتم تكسير عظام رجلي وأصابع يدي، وتكسير أضلاع صدر زميلي ويده، ولكن هذا لما يمنعنا من التصدي للمستوطنين والاعتناء بأرضنا وزراعتها، ومع ازدياد الضغوطات والمواجهات مع المستوطنين تحت حماية ومساعدة الجيش الإسرائيلي، مُنع المزارعون من الاقتراب من أراضيهم، وتم تحويل أراضي عين سامية لمنطقة عسكرية مغلقة من قبل الاحتلال الإسرائيلي”.
سعار المستوطنين
وفي مقابلة خاصة لـ”نون بوست” مع صلاح الخواجا، هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، أكد على أن استهداف عين سامية هو استهداف تاريخي ولم يبدأ من اليوم بل منذ احتلال “إسرائيل” عام 1967، سواء في محاولة إقامة مناطق عسكرية، ومناطق تدريب، ومناطق استيطانية، في محاولة لتفريغ الوجود الفلسطيني، وبعد 7 أكتوبر تصاعدت الحملات الاستيطانية والعسكرية. وأضاف بقوله: “اليوم أصبحت المنطقة مستباحة وتحولت من بؤر إلى وجود استيطاني كثيف، باعتبارها أصبحت مكانًا آمنًا للمستوطنين، وحاليًا تُستغل هذه المنطقة لتدريب المستوطنين لارتكاب مجازر في القرى والبلدات الفلسطينية”.
وأوضح خواجا: “بالعادة عندما يعلن الجيش الإسرائيلي أن هذه المنطقة عسكرية، يُمنع الفلسطيني والإسرائيلي من الدخول منها وإليها، ولكن الطرق الجديدة التي استحدثوها في ظل قانون الطوارئ الجديد اعتُبرت هذه المنطقة مغلقة على الفلسطينيين والمتضامنين مع الفلسطينيين، وبقيت عبارة عن منطقة لتجوال المستعمرين، وفتحت الطريق أمام المستوطنين لفرض سيطرتهم على العين والاستيلاء على المناطق الزراعية وسرقة محاصيلها”.
30-40 عائلة خسرت مصدر رزقها الأساسي
3.5 دونم من العنب خسرها بعيرات بعد مواجهة دامية مع المستوطنين والاحتلال الإسرائيلي، مع العلم أن مساحة سهل عين سامية ما بين 300 دونم – 600 دونم، جميعها مملوكة لأهالي قرية كفر مالك، ويقدّر حسب رواية المزارع بعيرات أن 150-200 دونم منها أراضٍ زراعية، مزروعة بمحاصيل متنوعة من الزعتر والحمضيات والجوافة والأفوكادو والعنب.
هذه الأراضي هي المصدر الأساسي لأكثر من 30-40 عائلة، حسب قول المزارع بعيرات، وبعد انقضاض المستوطنين كالكلاب المسعورة بمساعدة الجيش الإسرائيلي على هذه الأراضي وبسط سيطرتهم عليها، أصبح العديد من المزارعين عاطلين عن العمل بدلًا من أن يكونوا منتجين فاعلين في المجتمع الزراعي، إذ إن عين سامية تعتبر السلة الغذائية الرئيسية للفلسطينيين، وهي من أهم المناطق الزراعية لأهالي القرى الشرقية باعتبارها البوابة الشرقية لمنطقة الأغوار.
إبادة زراعية بحق 180,000 شتلة حرجية
من جهته، أشار المهندس نزيه فخيده في وزارة الزراعة في حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن الوزارة تعبر عن قلقها إزاء ما تتعرض له منطقة عين سامية من اعتداءات على أراضيها الزراعية وموردها المائي، إذ تعد عين سامية شريان الحياة والمصدر الرزق الأساسي لمزارعي كفر مالك. وبين فخيده أن هذه الاعتداءات لا تمثل فقط انتهاكًا صارخًا لحقوق المزارعين، بل تهدد الأمن الغذائي للفلسطينيين وتعيق جهود التنمية الزراعية في المناطق الريفية.
وكما أوضح فخيده، أن مشتل عين سامية التابع للوزارة قد تعرّض للدمار الكلي من قبل المستوطنين، وحسب إحصاءات الوزارة فإن المشتل كان ينتج سنويًا 180,000 شتلة حرجية، بالإضافة إلى أشجار الزيتون والجوافة والعنب والحمضيات والأفوكادو وغيرها، كما طال التدمير مشتلاً خاصًا للزيتون، ولم تتوقف الانتهاكات على ذلك، فقد دمروا البيوت البلاستيكية وجرفوا ما لا يقل عن 100 دونم من محاصيل الزعتر والخضار.
سطو على الزرع والحيوان
أما بالنسبة لمربي الأغنام، فبعد أن تم طردهم من مراعي عين سامية ومنعهم من الوصول للمنطقة، أصبح الرعاة يقصدون أطراف القرية لرعي الأغنام، ولكن مع ذلك لم يسلموا من اعتداءات المستوطنين، فقد لاحقوهم إلى أطراف القرية واعتدوا عليهم جسديًا، وسرقوا ما لا يقل عن 200 رأس غنم، من كل من المزارع مصطفى الدرباني والمزارع خالد غرة. وفي مقابلة معهم، تحدثوا عن الاعتداءات التي حصلت معهم وكيف أنهم خسروا مصدر رزقهم ورزق عائلاتهم، مع أنهم كانوا يرعون في منطقة مملوكة لقرية كفر مالك، بعيدة عن المستوطنين وبؤرهم.
5 بؤر استيطانية أُقيمت على أراضي عين سامية وأصبحت كالسياج يحيط بها من كل جانب، من ضمنها البؤرة الاستيطانية التي أقامتها فتيات التلال، والتي كانت من أوائل البؤر التي “فتحت العين”، كما يُقال بالعامية، على مطامع وخطط المستوطنين تجاه هذه الأراضي. وقد نشر سابقًا في الإعلام العبري تقرير عن وعد إحدى المستوطنات لخطيبته من فتيات التلال بأن تكون هدية خطوبتهم الاستيلاء على هذه الأراضي وطرد المزارعين منها، وقد تحقق هذا الوعد خلال حرب أكتوبر.
“أصحاب الأرض الأصليين نحن”
هذه الخسارة لم تثنِ عزيمة المزارعين، فقد أصر المزارع بعيرات بقوله: “هذه الأرض لنا ونحن أصحابها الأصليين، وسوف نثبت عليها ولن نسلم مهما حدث، وسوف نرجع ولو بعد حين، لنفلحها ونرجعها كما كانت من قبل خصبة وخضراء”.
وبدوره شدد الخواجا على أنه لا يمكن تعزيز صمود المواطن الفلسطيني إلا بوجود شراكة حقيقية بين كل المؤسسات الرسمية والشعبية والأهلية والدولية، لتوفير الحد الأدنى من متطلبات واحتياجات المزارعين، وأضاف: “كل ما يُقدم حتى الآن قليل، ‘فتات’ لا يُذكر، وبالتالي المطلوب حشد أكبر وتجنيد أوسع بكل الإمكانيات لدعم حقوق الشعب الفلسطيني ودعم مقدراته، بالإضافة إلى تطوير أدوات العمل لمن فقدوا أراضيهم، سواء في المجال الزراعي أو الثروة الحيوانية”.
من جانبه، أفاد المهندس فخيده بأن الوزارة تعمل على توثيق جميع الانتهاكات بحق الأراضي والمزارعين وتقوم بإدراجها ضمن برامج العمل لتعزيز صمودهم، وطالب المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته لوقف هذه الاعتداءات وضمان حقوق المزارعين.
عين سامية هي الرئة لقرية كفر مالك والقرى المجاورة، فهي المتنفس الوحيد لأهالي القرى، ففي فصلي الربيع والصيف تعد مصدرًا للترويح والاستجمام، وكثير من العائلات من رام الله وقراها تزورها كونها منطقة زراعية خضراء وفيها عين مياه من أجمل العيون، وكذلك كانت تنطلق منها أجمل المسارات وأطولها نحو الأغوار. بعد استيلاء المستوطنين عليها، فقد أهالي الأرض مصدر ترويحهم واستجمامهم، وأصبحت مكان استجمام للمستعمرين.
ما يحدث في عين سامية هو أولى حلقات مسلسل التهويد تجاه الأرض والوجود في مناطق شرق رام الله، وهذه الإبادة التي تطال أراضٍ زراعية تاريخية لا بد أن تدق جرس الإنذار بأنه آن الأوان للاستيقاظ من هذا السبات للعمل على إنقاذ ما تبقى من التاريخ والوجود.
ومن الجدير ذكره أنه أثناء إعداد التقرير قامت مجموعة من المستوطنين بإجراء حفريات في منطقة عين سامية، وإلى الآن لم يتضح الهدف من هذه الحفريات.