ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت الليلة دافئة وعذبة بينما تجمّعت عائلة أبو سمرة خارج منزلها في شمال غزة في سبتمبر/ أيلول 2023، تفوح في الأجواء رائحة النعناع القادم من الحديقة.
وكما جرت العادة، روى كبير العائلة كيف أُجبر، وهو في العاشرة من عمره عام 1948، على مغادرة قريته التي تقع في ما يُعرف اليوم بإسرائيل، ليكون واحدًا من مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين شُرّدوا فيما يُعرف بالنكبة.
كان كبير العائلة، عبد الله أبو سمرة، يروي القصة مرارًا، وفي كل مرة يركّز على تفاصيل مختلفة ليضمن أن أفراد أسرته سيحتفظون بها في ذاكرتهم. لقد كان يأمل أن يعودوا جميعًا يومًا ما، لكن خلال أسابيع قليلة، بدا أن ذلك الأمل أصبح أبعد من أي وقت مضى.
شنّت حركة حماس هجومًا مفاجئًا على إسرائيل؛ حيث اجتاحت الحدود في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وقتلت نحو 1,200 شخص، معظمهم من المدنيين، وفقًا لما أعلنته الحكومة الإسرائيلية. كما احتجزت نحو 250 آخرين كرهائن. وردّت إسرائيل بشن حرب على قطاع غزة، أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف، وتركت أجيالًا من الفلسطينيين يواجهون التهجير والتجويع والخوف من ألا يروا منازلهم مرة أخرى.
وتقول عائلة أبو سمرة، شأنها شأن كثير من سكان غزة، إنهم عاشوا دائمًا في ظل النكبة. ومنذ اللحظات الأولى للحرب، حين بدأت الطائرات الحربية الإسرائيلية بإلقاء القنابل والمنشورات التي تأمر بالإخلاء الجماعي، تصاعدت مخاوفهم من حدوث نكبة جديدة.
منذ ذلك الحين، تم تهجير ما يقرب من مليوني شخص – أي نحو 90 بالمائة من سكان قطاع غزة – من منازلهم ونقلهم قسرًا داخل القطاع، وكثير منهم تعرض للنزوح أكثر من مرة، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة.
وفي الأسابيع الأخيرة؛ روّجت وزارة الدفاع الإسرائيلية لخطة تهدف إلى دفع جزء كبير من سكان غزة نحو منطقة قريبة من الحدود بين غزة ومصر، وهي خطوة يحذّر خبراء قانونيون من أنها قد تشكّل انتهاكًا للقانون الدولي عبر تهجير مئات الآلاف من الأشخاص بشكل دائم. ويواجه الفلسطينيون في شمال غزة هذا الاحتمال مجددًا، مع استعداد الجيش الإسرائيلي لشنّ هجوم شامل على مدينة غزة.
وقال أبو سمرة، وهو مدرس متقاعد: “نحن نعيش نكبة أكبر الآن”.
لطالما اعترض الإسرائيليون على وصف أحداث عام 1948 بأنها “نكبة”، فبالنسبة لهم، كانت حربًا من أجل البقاء. قبل ما يزيد عن عامين بقليل، عندما أقامت الأمم المتحدة فعالية لإحياء ذكرى التهجير الجماعي للفلسطينيين خلال تأسيس إسرائيل، ندّد السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة بالحدث واعتبره “مخزيًا” لأنه “يتبنى الرواية الفلسطينية التي تصف تأسيس دولة إسرائيل بأنه نكبة”.
ويمثّل التهجير الجماعي الذي وقع قبل نحو ثمانين عامًا – وما يرافقه من روايات متضاربة – أحد أكثر القضايا تعقيدًا في الصراع الطويل بين الطرفين، إذ يطالب الفلسطينيون وذريّتهم بحق العودة إلى الأراضي التي فرّوا منها عام 1948، بينما ترفض إسرائيل هذا الحق بشكل قاطع.
في الحرب الحالية في غزة، تقول حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إنه نظرًا لأن حماس قد حفرت أنفاقاً عميقة داخل أحياء غزة وتحت بنيتها التحتية، مما يستدعي إخلاء السكان من المناطق المدنية. وقد قالت إن أوامر التهجير مؤقتة، وذلك لإبعاد المدنيين عن الخطر وتقليل الخسائر البشرية.
ولم يُجبر الفلسطينيون على مغادرة قطاع غزة نفسه، لكن تهجير المدنيين وتدمير الأحياء من قبل إسرائيل “يبدو وكأنه محاولة لإحداث تغيير ديموغرافي دائم في غزة، يتعارض مع القانون الدولي، ويرقى إلى مستوى التطهير العرقي”، بحسب ما قاله المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فولكر تورك.
وتشجّع إسرائيل أيضًا ما تسميه “بالهجرة الطوعية” لمغادرة سكان غزة بالكامل، لكنها لم تجد دولًا مستعدة لاستقبال أعداد كبيرة منهم. ويؤكد خبراء حقوق الإنسان أن أي عملية هجرة جماعية تُوصف بأنها طوعية قد تُعد شكلًا من أشكال التطهير العرقي، نظرًا لأن الظروف في غزة باتت غير قابلة للعيش إلى درجة أن العديد من سكان غزة لن يكون لديهم خيار حقيقي سوى المغادرة.
وقد زاد الخطاب الذي يستخدمه بعض أعضاء حكومة نتنياهو من مخاوف الفلسطينيين، فقد قال وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، إن القوات الإسرائيلية “تدمّر كل ما تبقّى من قطاع غزة”، وإنها “تحتل، وتطهّر، وتبقى في غزة حتى يتم القضاء على حماس”.
وقالت عائلة أبو سمرة، التي يبلغ عدد أفرادها نحو عشرين شخصًا، إنها بدأت بالنزوح منذ اليوم الأول للحرب، حين سقطت القنابل الإسرائيلية على مقربة من منزلهم لدرجة أن الجدران اهتزّت. وكانت تلك بداية سلسلة من حالات النزوح، انتهت بانقسام أفراد الأسرة بحثًا عن مأوى. ووفقًا لما ذكرته العائلة، فقد قُتل بعض الأقارب في الغارات الإسرائيلية، بينما فرّ آخرون إلى مصر المجاورة، وهم الآن يتساءلون عمّا إذا كانوا سيعودون يومًا إلى ديارهم، أو عمّا إذا كان هناك ما يمكن العودة إليه أصلًا.
أبو سمرة، البالغ من العمر 87 عامًا والضعيف جسديًا، عالق الآن في جنوب قطاع غزة داخل خيمة مصنوعة من الأغطية البلاستيكية وستارة وبطانيات. ومرة أخرى، يشعر بالخوف والجوع، ومنفصل عن معظم أفراد عائلته، تمامًا كما كان عندما كان طفلًا.
وقال: “أنا دائمًا أفكر، وأتحدث، وأحلم بالعودة إلى المنزل”.
لفترة وجيزة هذا العام، أتاح وقف إطلاق النار لبعض سكان غزة العودة إلى أحيائهم، لكن كثيرين منهم لم يجدوا سوى الركام. فقد تضرّر أو دُمّر نحو 80 بالمائة من المباني، مع استمرار عمليات التدمير في ظل توسّع الحملة العسكرية الإسرائيلية. وقد قدّر البنك الدولي أن إعادة بناء المنازل المدمّرة قد تستغرق ثمانين عامًا.
وقالت غادة أبو سمرة، حفيدة أبو سمرة، وتبلغ من العمر 25 عامًا، والتي تمكّنت من الفرار إلى مصر: “مع الأخبار وما يحدث، نفقد الأمل في أن نتمكن من العودة يومًا ما”.
بالنسبة لكثير من الفلسطينيين، لا تُعد النكبة مجرد ذكرى مؤلمة، بل هي جزء جوهري من الهوية. فبحسب الأمم المتحدة، يُعد نحو 1.7 مليون من أصل 2.2 مليون نسمة في قطاع غزة لاجئين من الحرب التي رافقت تأسيس إسرائيل عام 1948 أو من نسل أولئك اللاجئين. وعلى الرغم من أن معظمهم لم يعيشوا خارج غزة قط، إلا أن كثيرين منهم يعتبرون أنفسهم لاجئين من الأراضي التي فرّت منها عائلاتهم، بما في ذلك قرى أُزيلت تقريبًا من على الخريطة.
يقول الناجون من حرب عام 1948 إن مئات الآلاف من الفلسطينيين أُبلغوا في ذلك الوقت بأنهم سيتمكنون من العودة إلى قراهم التي تقع اليوم داخل ما يعرف بإسرائيل، خلال أيام أو أسابيع قليلة. وقد أخذ كثيرون منهم بعضًا من ممتلكاتهم الأساسية ومفاتيح أبواب منازلهم فقط؛ ولم يُسمح لهم بالعودة.
ويُعدّ مفتاح المنزل، الذي يُطلق عليه غالبًا “مفتاح العودة”، رمزًا بالغ القوة لدى الفلسطينيين، إذ تحتفظ به العديد من العائلات حتى بالنسبة للمنازل الواقعة داخل إسرائيل والتي لم تعد موجودة.
وأثارت التصريحات التحريضية التي أطلقها قادة إسرائيليون في الحرب الجارية في غزة مخاوف الفلسطينيين من أن التاريخ على وشك أن يعيد نفسه.
وقال وزير الزراعة الإسرائيلي، آفي ديختر، بعد أسابيع قليلة من اندلاع الحرب: “نحن الآن بصدد تنفيذ نكبة غزة؛ نكبة غزة 2023”.
وتقول إسرائيل إنها فتحت ممرات إنسانية لتمكين الناس من الوصول إلى مناطق آمنة، وإنها أبلغت أوامر الإخلاء عبر منشورات ورقية ورسائل نصية ومكالمات هاتفية.
غير أن منظمات حقوق الإنسان ترد بأن الحرب جعلت أجزاء واسعة من غزة غير صالحة للسكن، مما يؤدي إلى نزوح دائم، وهو ما قد يُعد جريمة حرب.
وتصف بعض المنظمات، مثل “هيومن رايتس ووتش“، هذا التهجير بأنه جزء متعمد من السياسة الإسرائيلية يرقى إلى حد جريمة ضد الإنسانية. وقد انضمت مجموعتان إسرائيليتان بارزتان إلى منظمات دولية أخرى في اتهام الحكومة بارتكاب إبادة جماعية، بسبب قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وتسوية مناطق شاسعة بالأرض، وتهجير معظم سكان غزة، وفرض قيود على الغذاء.
وترفض إسرائيل هذه الاتهامات، وتصفها بأنها تحريف متعمد للحقائق.
وقالت في بيان: “من المضلل والخاطئ تمامًا تصوير جهود الجيش الإسرائيلي الواسعة لتقليل الأضرار المدنية على أنها أدوات للتهجير القسري”.
وعندما توصلت إسرائيل وحماس إلى اتفاق وقف إطلاق نار مؤقت في يناير/ كانون الثاني، بكى أفراد عائلة أبو سمرة فرحًا، ظناً منها أن ذلك قد يتيح لها فرصة العودة إلى ديارها.
لقد نشأوا على قصص أبو سمرة عن التهجير عام 1948، وقبل الحرب الحالية، شعر بعضهم بشيء من الاستياء تجاه الجيل الأكبر لأنه ترك ما يُعرف اليوم بإسرائيل والانتقال إلى غزة.
وقضى أبو سمرة طفولته المبكرة في أرض زراعية تبلغ مساحتها نحو 100 فدان، يملكها والده في قرية عراق سويدان الزراعية – على بعد نحو 15 ميلًا شمال الحدود الحالية لقطاع غزة – حيث كانوا يزرعون الحبوب ويقطفون التين.
وتقع أطلال قرية عراق سويدان الفلسطينية المهجّرة، حيث نشأ السيد أبو سمرة؛ بالقرب من “ياد ناتان” في إسرائيل.
وفي عام 1948، قال أبو سمرة إنه كان مع شقيقه الأكبر على أطراف القرية لطحن القمح، حين اضطر مئات السكان، بمن فيهم أسرته، إلى الفرار فجأة؛ حيث سار هو وشقيقه شرقًا بينما اتجهت أسرته جنوبًا.
وغادر الناس وهم يحملون القليل من المتاع – بعض الملابس والأغطية، وقليل من الطعام – معتقدين أنهم سيعودون خلال أيام، كما قال.
وأضاف: “أهم شيء كان مفتاح البيت”، وتابع متذكرًا: “الجميع أغلقوا أبوابهم وأخذوا المفاتيح على أمل أن الغياب لن يطول”.
وتحولت الأيام إلى أسابيع، ثم إلى أشهر طويلة من الجوع. وأخيرًا، التقى أبو سمرة وشقيقه بأسرتهما في مخيم للاجئين في غزة في عام 1949.
كانت تلك هي القصة التي رواها في تلك الليلة من سبتمبر/ أيلول عام 2023، كما فعل في العديد من الليالي السابقة، وقال: “كنت أريد أن أزرعها في أذهان أحفادي الذين لم يعيشوا النكبة”.
وقالت ابنته، عبير أبو سمرة، إنها لم تفهم تلك القصص تمامًا حتى بدأت القنابل الإسرائيلية تتساقط بالقرب من منزل العائلة في غزة بعد الهجوم الذي وقع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، مما أدى إلى اهتزاز الجدران، وتلاها أوامر إسرائيلية بالإخلاء.
وقالت عبير: “كنا دائمًا نقول: لماذا غادروا؟ لماذا تركوا بيوتهم؟ ولكن…”، ثم توقفت لحظة، وتابعت: “ثم مررنا بنفس المحنة”.
ومثل أولئك الذين فرّوا عام 1948، اعتقد أفراد العائلة أنهم سيغادرون منازلهم لبضعة أيام فقط، أخذ كثيرون منهم بعض الملابس فقط، وأخذوا مفاتيحهم.
كانت تلك بداية ما يقارب عامين من التنقلات المتكررة؛ حيث انطلقت العائلة – الأجداد والعمّات والأعمام وأبناء العم والأطفال – في رحلة نزوح.
ووجدت غادة أبو سمرة، ومعها نحو اثني عشر فردًا من أقاربها، مأوى في غرفة واحدة وسط غزة؛ يتشاركون ثماني فرشات رقيقة، كما قالوا. كانت النساء والفتيات ينمن داخل الغرفة، بينما ينام الرجال والصبية على الشرفة.
وقالوا إنهم كانوا يتقاسمون وجبة واحدة في معظم الأيام، غالبًا ما تكون خبزًا يابسًا وعدسًا، وقد ذكّر ذلك غادة بالوجبة التي عاش عليها جدها عام 1948: خبز يابس وشاي.
وسرعان ما فروا مرة أخرى جنوبًا إلى مدينة رفح، وقالت غادة أبو سمرة: “مع استمرار نزوحنا جنوبًا، فقدت الأمل في العودة يومًا ما”، وأضافت: “يقول بعض الناس: أتمنى لو كنت قد سُحقت مع منزلي. أحيانًا أشعر بذلك أيضًا”.
وقالت إنها لا تزال تحمل معها مفتاح منزلها في شمال غزة أينما ذهبت، الذي تحول منذ فترة طويلة إلى أنقاض.
وقالت عن المفتاح: “إنه التذكير الوحيد لي بمنزلي”، وتحمل خالتها، عبير أبو سمرة، مفتاح منزلها أيضًا؛ حيث قالت: “غالبًا ما يخطر ببالي، هل ستصبح هذه المفاتيح مثل مفاتيح العودة عام 1948؟”.
ثم تابعت: “لا أتوقع أن أعود”، لكنها توقفت، ثم صححت نفسها: “لا، سنعود، سنعود”، محاولة إقناع نفسها بذلك.
مع ازدياد الحياة في غزة صعوبة، غادر بعض أفراد عائلة أبو سمرة القطاع بالكامل، ودفع كل منهم أكثر من 5000 دولار للوصول إلى مصر، بعد أن نظموا عدة حملات على موقع “جو فاند مي” لجمع الأموال.
غير مالك أبو سمرة رفض مغادرة غزة. وقال: “لقد سئمت من التهجير من أرضي”.
لم يقبل بذلك إلا عندما حاول معظم أفراد عائلته المغادرة، لكن إسرائيل رفضت السماح له بمغادرة غزة، وقالت العائلة إنهم أُبلغوا بأن هناك “حظر أمني” عليه، دون أي تفسير إضافي. وقد رفض المسؤولون الإسرائيليون التعليق على قضية أبو سمرة في هذا المقال.
وغادر معظم أفراد عائلة أبو سمرة، واستقروا في مصر في الوقت الحالي، بينما بقي أبو سمرة في غزة، وتنقل كثيرًا بين الملاجئ ومنازل الأصدقاء والخيام هربًا من الغزو العسكري الإسرائيلي والقصف.
في المخيم المزدحم الذي يقيم فيه هو وزوجته الآن، أصبحت أجساد الناس نحيفة وضعيفة مع تفاقم الجوع. في بعض أجزاء غزة، أصبحت الأوضاع مزرية لدرجة أن المراقبين الدوليين أعلنوا رسميًا حدوث مجاعة.
ويعتمد أبو سمرة على الأموال التي ترسلها له عائلته من الخارج.
لم يعد يفكر كثيراً في العودة إلى قرية طفولته في إسرائيل الحالية، حتى العودة إلى شمال غزة تبدو مستبعدة، ومع ذلك فإنه لا يزال يحلم بأن ينصب خيمة بجوار أنقاض ما كان منزله.
قال من مأواه الهش المصنوع من صفائح الصفيح والقماش المشمع: “لن أغادر غزة لأي سبب من الأسباب. لقد سئمت من التهجير منذ أن كنت طفلاً”.
المصدر: نيويورك تايمز