منذ بداياتها في الجنوب السوري، لم تظهر حركة “أولي البأس” كفصيل محلي نابع من بيئته الاجتماعية، بل برزت كامتداد مباشر للمشروع الإيراني وأذرعه الإقليمية. ورغم محاولاتها الترويج لنفسها بوجه وطني مستقل ومعارض للحكومة السورية الحالية، فقد كشفت بياناتها وخطابها الإعلامي عن ولاءٍ صريح لطهران، حتى إنها وصفت مقاتليها بأبناء الثورة الإسلامية الإيرانية.
في هذا التقرير، يقدّم “نون بوست” قراءة شاملة لمسار “أولي البأس”، نتتبّع فيها نشأتها وخلفياتها الأيديولوجية، ونكشف بنيتها التنظيمية وقيادتها، إلى جانب دورها العسكري والإعلامي وطبيعة ارتباطها بالشبكة الإيرانية الإقليمية، لنصل في الختام إلى تقييم تأثيرها على الأمن والاستقرار المحلي، ومدى قدرتها على إعادة رسم موازين القوى في الجنوب السوري.
النشأة والهيكل التنظيمي
بعد سقوط نظام الأسد وتفكك أجهزته الأمنية، لم يتبدّد النفوذ الإيراني كليًا، بل استمر عبر خلايا وأفراد ينشطون في الخفاء، منخرطين في تهريب السلاح والمخدرات وإثارة الفوضى الأمنية. وفي خضم هذا المشهد، تحرّكت إيران لإعادة لملمة شتات الفلول وبقايا التشكيلات المسلحة التي فقدت حضورها بعد سقوط الأسد، ساعيةً إلى توحيدها تحت مظلة واحدة تجسدت في حركة “أولي البأس”.
جاء أول ظهور رسمي لـ”أولي البأس” في 9 كانون الثاني/ يناير الماضي، حين أعلنت عبر تيليغرام عن تأسيس نفسها تحت اسم “جبهة تحرير الجنوب”، موجّهةً إنذارًا لإسرائيل بمهلة 48 ساعة للانسحاب من الأراضي السورية. كما زعمت امتلاكها معدات عسكرية من نظام الأسد، ونفت تبعيتها لأي طرف أو جهة أو دولة.
لكن في 11 كانون الثاني/ يناير، غيّرت الحركة اسمها إلى “جبهة المقاومة الإسلامية في سوريا – أُولي البأس”، موضحةً أن التغيير جاء بسبب وجود مجموعات أخرى تحمل الاسم السابق في المنطقة نفسها.

تتخذ القيادة العليا لـ”أولي البأس” شكل مجلس عسكري، وتضمّ سرايا صغيرة، مع حرصٍ متعمّد على إخفاء هوية أفرادها العسكريين. ولدى “أولي البأس” دائرة سياسية مخصّصة لتنسيق خطابها الخارجي وإدارة حضورها الإعلامي، وقد برز مسؤول هذه الدائرة من خلال ظهوره في وسائل إعلام دولية وإقليمية، حيث قدّم تصريحات لمجلّة نيوزويك الأمريكية ولصحيفة النهار اللبنانية، سعى فيها إلى تلميع صورة الحركة وإبرازها كقوة منظمة ذات مشروع سياسي، وليس مجرد فصيل مسلّح.
هناك أيضًا مجلسٌ مُصغّر يضمّ شخصيات ذات خلفية دينية، يُستخدم لشرعنة الخطاب الأيديولوجي وتعبئة المقاتلين. كما تمتلك “أولي البأس” وحدة خاصة بالمغتربين، تدّعي التواصل مع العناصر الموالية للأسد في روسيا.
ورغم بداياتها الفوضوية، عملت “أولي البأس” على بناء هياكل داخلية تمنحها صورة أكثر تنظيمًا، إذ أعلنت في 21 تموز/ يوليو 2025 عن قيادة مؤلّفة من القائد العام أبو جهاد رضا الحسيني، ومساعد القائد العام العميد منذر ونوس، ومحمود موالدي مسؤول الدائرة السياسية، ورئيس جهاز أمن المقاومة العميد أبو مجاهد.
إلى جانب شخصيات دينية وإعلامية، مثل الدكتور عباس الأحمد، رئيس العلاقات العامة والإعلام المركزي، والمتحدث العسكري أبو القاسم، ورئيسة شؤون المرأة بتول بدر، ومسؤول الدائرة الاقتصادية الدكتور جبران سالم، وعلي الأشقر رئيس الشؤون التنظيمية، ومالك الظاهر مسؤول وحدة المغتربين في روسيا، ومسؤول الإعداد والتوجيه غضنفر العلي.
هذا التشكيل يسعى إلى تقديم صورة مؤسسية للحركة، تتجاوز مجرد كونها ميليشيا صغيرة، فوجود أذرع عسكرية، وأمنية، وسياسية، وإعلامية، واقتصادية، يوحي بمحاكاة نموذج حزب الله اللبناني. وإدخال شخصيات نسائية (بتول بدر) ووحدة مغتربين (مالك الظاهر) يعكس محاولة توسيع الشرعية لتشمل أبعادًا اجتماعية وخارجية. ورغم ذلك، يبقى هذا البناء رمزيًا أكثر منه فعليًا، إذ يفتقر إلى قاعدة محلية صلبة، ويعتمد كليًا على الدعم الإيراني.
قيادة أولي البأس (اعتبارًا من 21 تموز/يوليو 2025):
الفئة | الاسم / الكنية | الموقع الوظيفي | ملاحظات تحليلية |
القيادة العليا | أبو جهاد رضا الحسيني | القائد العام | أبرز شخصية في الحركة، يقدم كواجهة سياسية وعسكرية. |
العميد منذر ونوس | مساعد القائد العام | خلفية عسكرية، دوره يكرس الطابع النظامي للقيادة. | |
العميد أبو مجاهد | رئيس جهاز أمن المقاومة | يرمز لوجود جهاز أمني داخلي شبيه ببنية الحرس الثوري وحزب الله. | |
محمود موالدي | مسؤول الدائرة السياسية | يعكس سعي الحركة إلى واجهة سياسية موازية للعمل العسكري. | |
الدائرة الإعلامية والدينية | د. عباس الأحمد | رئيس العلاقات العامة والإعلام المركزي | التركيز على الإعلام كأداة أساسية في تضخيم الحضور الميداني. |
أبو القاسم | المتحدث العسكري | قناة رسمية لتوحيد الخطاب الميداني والإعلامي. | |
بتول بدر | رئيسة شؤون المرأة | محاولة تجميلية لإظهار بُعد اجتماعي شامل، رغم محدودية الدور الفعلي. | |
غضنفر العلي | مسؤول الإعداد والتوجيه | يعكس الطابع العقائدي المرتبط بالولاء الأيديولوجي. | |
الدائرة الاقتصادية والتنظيمية | د. جبران سالم | مسؤول الدائرة الاقتصادية | يعكس الحاجة لهيكل مالي منظم، غالبًا مرتبط بالدعم الإيراني. |
علي الأشقر | رئيس الشؤون التنظيمية | يرمز لمحاولة بناء مؤسسة ذات طابع بيروقراطي داخلي. | |
مالك الظاهر | مسؤول وحدة المغتربين (روسيا) | قناة لربط الحركة بشبكات الدعم في الخارج. |
تحالفات وعمليات “أولي البأس”
مع بداية يناير/ كانون الثاني 2025، أعلنت “أُولي البأس” عن نشر مركبات خفيفة وعناصر قتالية في محافظات القنيطرة والسويداء ودرعا ودمشق، والمناطق الريفية المحيطة بها، قبل أن تتبنّى أول عملية بارزة في 31 يناير، ببيانٍ زعمت فيه استهداف قوات إسرائيلية في قرية طرنجة شمال القنيطرة.
ثم في فبراير/ شباط 2025، أطلقت الحركة سلسلة عمليات أسمتها “وعد الآخرة”، أبرزها في 18 فبراير، عندما أعلنت استهداف قوات إسرائيلية في منطقة عين ذكر بريف درعا. وقد أعلنت مقتل اثنين من كبار قادتها بالقرب من الخطوط الإسرائيلية في 19 شباط/ فبراير.
كما شهد الشهر نفسه إعلان تحالفٍ لميليشيا “أولي البأس” مع فصائل مثل لواء درع الساحل، بقيادة مقداد فتيحة، وأصدرت بيانات مشتركة مع هؤلاء الحلفاء، أكّدت أن أهدافها تتجاوز مواجهة إسرائيل لتشمل أيضًا القتال ضد ما سمّته “الجماعات التكفيرية” والحكومة السورية الجديدة.
وفي مارس/ آذار 2025، أعلنت “أولي البأس” أولى عملياتها المشتركة مع “المقاومة الشعبية السورية” ضد الحكومة الجديدة، مستهدفةً ما سمّتهم “المحتلين الأتراك والصهاينة”. وأعلن المتحدث الرسمي لميليشيا “أولي البأس” تضامن الحركة مع ما أسماه “انتفاضة الساحل” ضد الحكم الإرهابي.
ثم وسّعت “أولي البأس” في أبريل/ نيسان دائرة أعدائها لتشمل الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة، ضمن قائمة “محتلي سوريا”. كما زعمت في 7 مارس استهداف قوات إسرائيلية في ريف القنيطرة الشمالي.
خلال الفترة من 5 إلى 7 مايو/ أيار 2025، عقدت “أولي البأس” مؤتمرها الأول في دمشق، أعلنت خلاله عن تشكيل “مجلس عسكري موحّد” وإطلاق حملة “تصعيد ثوري منظّم”. وذكرت مصادر مقرّبة من “أُولي البأس” لصحيفة النهار أن المؤتمر انعقد في نقطة أمنية شديدة السرية داخل دمشق، مشيرةً إلى نجاح ضبّاط أمن “أولي البأس” في التمويه على انعقاده، وأن عدد المشاركين في اليوم الأول وصل إلى 200 شخص اجتمعوا جميعًا في تلك النقطة السرية.
وبعد انعقاد هذا المؤتمر، نشرت “أولي البأس” ما سمّته بالميثاق الوطني، وقدّمته باعتباره وثيقة جامعة تعكس رؤيتها السياسية والفكرية، حيث حاولت من خلاله إظهار نفسها كحركة تتجاوز البعد العسكري إلى إطار مؤسسي يحمل مشروعًا وطنيًا. غير أن مضمون الميثاق يكشف أن الهدف منه لم يكن تأسيس عقد اجتماعي محلي، بقدر ما هو محاولة لإضفاء شرعية شكلية على حضورها العسكري في الجنوب السوري.
وفي 23 مايو، عقدت “أولي البأس” اجتماعًا تنسيقيًا مع كتائب “بقية الله”، لتعزيز التعاون الميداني وتنسيق المواقف الإعلامية والسياسية. وفي 3 يونيو/ حزيران، نشرت أول فيديو يُظهر قاذفات صواريخ مزعومة أُطلقت نحو مرتفعات الجولان، وهو الادعاء الأول الذي أمكن التحقق منه جزئيًا منذ سقوط الأسد.
شهد يوليو/ تموز 2025 تحوّلات بارزة، ففي 6 يوليو، قُتل نائب القائد العام العميد محمد بدران بعملية إسرائيلية في نوى بريف درعا. لتعلن الحركة بعد يومين إعادة هيكلة قيادتها، وحلّ مكتبها السياسي القديم، وتكليف طارق حمد بتشكيل مكتب سياسي جديد.
في منتصف يوليو، بدأت “أولي البأس” في توسيع تحالفاتها الميدانية، إذ أعلنت في 15 يوليو مبايعة “المقاومة الشعبية السورية” لها، قبل أن تنعي في 17 من الشهر نفسه أحد عناصرها، شادي الناصر، الذي قالت إنه قُتل في قصف إسرائيلي على موقعٍ لها بريف درعا، دون تقديم تفاصيل عن خلفيات الهجوم.
وبعد أقل من أسبوعين، وتحديدًا في 30 تموز/ يوليو 2025، خطت الحركة خطوة إضافية على طريق التنسيق العسكري، حين أعلنت مع “المقاومة الوطنية لتحرير الجولان” عن تشكيل غرفة عمليات مشتركة، وقالت إن هدفها تعزيز التنسيق بين الفصائل وتوحيد جهودها العسكرية، دون تقديم تفاصيل عن حجم القوات أو العمليات المخطَّط لها.
مع دخول أغسطس/ آب 2025، واصلت “أولي البأس” توسيع شبكة تحالفاتها الميدانية، حيث أعلنت في 4 أغسطس التحالف مع “الجبهة الشعبية لتحرير لواء إسكندرون”، في خطوة قالت إنها تهدف إلى تعزيز قدرات الفصائل عسكريًا، وتركيز جهودها على مواجهة ما تصفه بـ”الاحتلال والإرهاب”.
وبعد أيام قليلة، في 12 أغسطس، اتّسع هذا المسار بانضمام وحدات عسكرية من الجيش السوري المنحلّ، التي أعلنت تشكيل “سرايا الأوفياء” تحت لواء “أولي البأس”، مؤكّدةً أن هدفها هو المشاركة في ما تسمّيه “الجهاد المسلّح والنضال المقاوم”.
يُلاحظ من خلال تتبّع أسماء القتلى الذين أعلنتهم “أولي البأس” أن غالبيتهم ينحدرون من خلفيات عسكرية وأمنية مرتبطة بالنظام السابق، ما يكشف عن استثمار الحركة في شبكات النظام السابق الأمنية والعسكرية. كما أن هذا المعطى يعكس أن بنيتها ليست نتاج تجنيد شعبي جديد، بقدر ما هي إعادة تدوير لكوادر قديمة جرى توظيفها ضمن مشروع إيراني جديد لإعادة تشكيل الجنوب السوري.
وجدير بالذكر أن قائد “أولي البأس” الملقّب بـ”أبو جهاد”، كان قد وجّه رسالة مسجّلة في الذكرى الثمانين لتأسيس الجيش السوري المنحلّ، دعا فيها ضبّاط الجيش السابق إلى الانضمام لصفوف الحركة، وحثّهم على ما وصفه بـ”مقاومة قوات الاحتلال”، مؤكّدًا أن هذه الخطوة تمثّل طريقًا لتحرير سوريا واستعادة سيادتها، في سياق مسعى واضح لاستقطاب عناصر الجيش السابق وكسب دعمهم لصالح الحركة.
ويأتي ذلك في سياق تحرّكات إعلامية متصاعدة، إذ أعلنت الوكالة الوطنية السورية للإعلام “ضاد”، في 28 آب/ أغسطس 2025، عن مقابلة مرتقبة مع القائد العام لـ”أولي البأس”، مشيرةً إلى أن الحوار سيتناول المستجدات الأخيرة في سوريا، والتحديات السياسية والميدانية، إضافةً إلى عرض الرؤية الاستراتيجية للحركة المقبلة واستعراض أبرز عملياتها الأمنية الأخيرة.
هوية “أولي البأس”: الدور الدعائي والإعلامي
منذ نشأتها مطلع يناير/ كانون الثاني 2025، اعتمدت “أُولي البأس” على قنوات تيليغرام لنشر بياناتها العسكرية والسياسية ومقاطع الفيديو، مع إنشاء صفحات بديلة على منصّتَي إكس وفيسبوك لإعادة نشر المحتوى. ولـ”ميليشيا أُولي البأس” ثلاث قنوات رسمية على تيليغرام (الأولى – الثانية – الثالثة)، إلى جانب قنوات ثانوية تحمل أسماء مختلفة.
هذا النشاط الإلكتروني مثّل البنية التأسيسية لحضورها الإعلامي، والذي سرعان ما تطوّر إلى منظومة دعائية أكثر تنظيمًا، تقودها شخصيات بارزة، أبرزهم محمود موالدي، رئيس المكتب السياسي للحركة، الذي برز كوجه إعلامي وفكري لها.
ينشر موالدي مقالات وتحليلات دورية في موقع إضاءات بيروت المقرّب من محور المقاومة، كما يظهر بشكل متكرّر على شاشة قناة الميادين لتقديم مواقف الحركة ضمن خطاب تعبوي موجّه للجمهور العربي، وهو ما يعكس دور المكتب السياسي كأداة دعائية تسعى إلى منح الحركة بُعدًا سياسيًا وإعلاميًا يتجاوز حدودها الميدانية.
ورغم ادّعائها عدم التبعية لأي جهة، عكست أنشطة “أولي البأس” ارتباطًا وثيقًا بشبكة النفوذ الإيراني. وحتى شعاراتها ورموزها البصرية تُشبه ما تعتمده ميليشيات الحرس الثوري وحزب الله، ويُلاحظ أنه جرى تضخيمها عبر منصات إعلامية موالية لطهران.
وعلى وجه الخصوص، تظهر شبكة النهار كإحدى المنصات الإعلامية التي تدعم خطاب “أولي البأس”، إذ تعيد نشر بياناتها وتصريحات مسؤولين في الحركة، وتُغطّي أنشطتها السياسية والعسكرية بطريقة تتوافق مع سرديتها الدعائية، ما يُسهم في توسيع انتشار رسائلها وإضفاء شرعية إعلامية على مواقفها أمام الجمهور العربي.
أما على المستوى الأيديولوجي، فتسوّق “أولي البأس” نفسها كحركة وطنية ثورية ذات طابع قومي-إسلامي، ترفع شعار مقاومة إسرائيل، وتتهم الحكومة السورية بالتبعية للخارج، فيما تواصل استخدام العلم السوري في عهد الأسد. كما تطرح مشروعًا سياسيًا، وتستخدم في خطابها مصطلحات مثل: “الاحتلال التركي الأموي – العصابات التكفيرية – المأجورين – المقاتلين غير السوريين – حكومة الأمر الواقع“.
لكن يتّضح من الأيديولوجية واللغة الإعلامية أن “أولي البأس” تتقاطع مع أدبيات الميليشيات الإيرانية والعقيدة الشيعية السياسية المستمدّة من نظرية ولاية الفقيه. وفي الواقع، تُقدّم “أُولي البأس” نفسها بوصفها أكثر من مجرد فصيل عسكري، إذ تعتبر نفسها امتدادًا عقائديًا لمدرسة الإمام الحسين والإمام علي، وترى أن كل طلقة تُطلقها في الجنوب تمثّل بيعةً روحية وولاءً لصاحب العصر والزمان.
أولى بيانات “أُولي البأس” الرمزية برز في 13 فبراير/ شباط 2025، حين أصدرت بيانًا بمناسبة ذكرى ولادة الإمام المهدي، ركّزت فيه على البعد الديني والرمزي، وربطت الصراع السوري بمواجهة شاملة بين المستضعفين والمتسلّطين. وقد أبرز البيان بوضوح تقاطع خطاب الحركة مع العقيدة الشيعية السياسية المستمدّة من ولاية الفقيه، مع محاولة إضفاء لهجة تسمح بتجنيد عناصر من طوائف أخرى.
كما أن بيان “أولي البأس” بمناسبة الذكرى الـ46 للثورة الإيرانية يكشف بوضوح انتماءها الأيديولوجي والسياسي لطهران، حيث قدّمت التهنئة للقيادة الإيرانية، وأعلنت صراحة أنها ترى نفسها من “أبناء هذه الثورة”، متعهّدةً بالولاء للمرشد الأعلى علي خامنئي، ومؤكّدة استمرارها على خط “كربلاء التضحية والفداء”.
أيضًا، تتّضح هوية “أولي البأس” من خلال سرديّتها التي تقوم على تمجيد المشروع الإيراني وأذرعه العسكرية والأيديولوجية في المنطقة، حيث تتبنّى خطابًا متماهيًا مع محور المقاومة، بجانب بياناتها بتعزية مقتل قادة إيرانيين أو استهداف مواقع تابعة للحرس الثوري. كما حرصت الحركة على توجيه خطابات دعم لجماعة الحوثي في اليمن، مقدّمةً نفسها كجزء من جبهة إقليمية واحدة تتشارك الأهداف والرمزية السياسية والدينية.
ولـ”ميليشيا أولي البأس” نشيدٌ خاص بها، إلى جانب نشيد آخر أهداه لها الحوثيون في اليمن، ما يعكس تقاطعها مع الأذرع المرتبطة بالمشروع الإيراني. ويحمل نشيد الحركة مزيجًا من الخطاب الديني والوطني والتحريضي، ويُضخّم قدراتها العسكرية.
اللغة الإعلامية لـ”أولي البأس” تجمع بين خطاب ديني–سياسي ذي مرجعية إيرانية، وبين مفردات وطنية وقومية مثل الدفاع عن الأرض وحماية السكان، ما يعكس سعيها لدمج البعد المحلي بالإقليمي. فهي محليًا تستحضر شعارات حماية الجنوب السوري، بينما إقليميًا تضع نفسها في شبكة “محور المقاومة”.
أما على المستوى المرئي، فتركّز منتجاتها الإعلامية على مشاهد مقاتلين ملثّمين يطلقون القذائف، مُزوَّدةً بمؤثرات بصرية وأناشيد ذات طابع شيعي واضح. ومع ذلك، يظلّ جهازها الإعلامي أقل احترافًا، إذ تعتمد الحركة على تضخيم كل حدث صغير تقوم به، وكأنه إنجاز استراتيجي، أكثر من كونه توثيقًا يمكن التحقق منه.
يمكن القول إن رسائل “أولي البأس” الإعلامية تتجاوز إمكاناتها الذاتية، إذ تعتمد على التضخيم وإعادة تدوير محتواها لبث صورة ذهنية أكبر من حجمها الفعلي. وقد أسهم في ذلك الدعم الإعلامي الإيراني المباشر، حيث تولّت قنوات محسوبة على طهران إعادة نشر بياناتها، فيما ساعدت شبكات مرتبطة بمحور إيران في لبنان على توسيع نطاق تداولها وتعزيز حضورها الإعلامي.
مدى تأثيرها على استقرار الجنوب السوري
تتركّز أنشطة “أولي البأس” بالدرجة الأولى في محافظتَي درعا والقنيطرة، حيث أعلنت تبنّيها عمليات ضد دوريات إسرائيلية. أما في محيط دمشق، فيقتصر نشاطها على خلايا متناثرة ووجود دعائي، أقرب إلى استعراض إعلامي منه إلى وجود ميداني.
وزارة الداخلية:
📌عَقِب ورود بلاغ من أحد الأهالي عن وجود أسلحة داخل أحد المنازل في منطقة نوى بريف درعا نفذت مديرية الأمن الداخلي في المنطقة عملية مداهمة أسفرت عن ضبط كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر المتنوّعة
📌 تبين أن الأسلحة والذخائر مسروقة من الثكنات العسكرية إبان سقوط… pic.twitter.com/Zei7JHU8a3
— الإخبارية السورية (@AlekhbariahSY) September 14, 2025
تنظيميًا، تعتمد “أولي البأس” على شبكة لامركزية مرنة من سرايا وخلايا نائمة، وتمتلك شبكة مقاتلين محدودة العدد، لكنها عالية التدريب. كما تستفيد من عناصر محلية ذات خبرة أمنية سابقة، ما يمنحها قدرة على تخطيط وتنفيذ عمليات منسّقة نسبيًا.
على المستوى العملياتي، لدى “أولي البأس” قدرة على تنفيذ ضربات محدودة ومركّزة، كإطلاق صواريخ قصيرة المدى، وتشغيل طائرات مسيّرة، وكمائن تنفّذها وحدات صغيرة تعتمد تكتيكات حرب العصابات.
هذه العمليات قادرة على إثارة ردود فعل إسرائيلية وإرباك الأمن المحلي، غير أنها تفتقر إلى مقومات الردع ضد إسرائيل، فيما تظلّ خطوط إمدادها عرضةً للتتبّع والاستهداف. ويُلاحظ أن تكتيكات “أولي البأس” تهدف بالأساس إلى إرباك الأمن، وإطالة أمد الاضطراب، وخلق ضغط إقليمي يضع الجنوب السوري ضمن معادلات تفاوض أكبر.
وحتى الآن، لم تصدر إسرائيل تصريحات رسمية مباشرة تذكر “أولي البأس” بالاسم كجماعة مستهدفة في العمليات التي تعلنها الحركة، لكنها تؤكّد على التمدد العسكري المدعوم من الحرس الثوري الإيراني في الجنوب السوري.
ورغم ما تحظى به “أولي البأس” من دعمٍ وتمويلٍ إيراني مكّنها من الحفاظ على حضورٍ ميداني مستمر، فإنها تصطدم ببيئة اجتماعية متوجّسة ورافضة، ينظر معظم السكان إليها كأداةٍ للتدخل الإيراني أكثر من كونها تعبيرًا عن واقع محلي.
هذا التناقض جعل “أولي البأس” تبدو قوةً مفروضةً بالدعم الخارجي، ما قيّد قدرتها على إعادة صياغة المشهد في الجنوب، وحصر دورها في كونها ورقةً بيد طهران تُستخدم للضغط على إسرائيل، وتوفير هامش مناورة سياسي في التعامل مع الإدارة السورية.
غير أن استمرار الفراغ الأمني قد يمنح “أولي البأس” فرصةً للتحوّل إلى جهة أكثر جدّية، خاصةً وأن تحالفاتها تتسع يومًا بعد يوم. فلم تعد الحركة محصورةً بعمليات فردية ضد إسرائيل أو الحكومة السورية الجديدة، بل باتت تتحرّك ضمن جبهات أوسع تضمّ فصائل متباينة التوجّهات والأهداف.
تحالفات أولي البأس:
التاريخ | العملية / الحدث | التحالفات / الفصائل المشاركة | الملاحظات |
شباط/فبراير 2025 | إطلاق سلسلة عمليات وعد الآخرة (استهداف عين ذكر – درعا) + مقتل قادة قرب الحدود | لواء درع الساحل (مقداد فتيحة) | بيانات مشتركة ضد إسرائيل والحكومة السورية الجديدة |
آذار/مارس 2025 | عمليات مشتركة ضد الحكومة الجديدة والاحتلال الإسرائيلي | المقاومة الشعبية السورية | أول تحالف عملياتي ميداني معلن |
5–7 أيار/مايو 2025 | المؤتمر العام الأول بدمشق + إطلاق المجلس العسكري الموحد | — | محاولة إظهار طابع مؤسسي للحركة |
23 أيار/مايو 2025 | اجتماع تنسيقي لتعزيز التعاون | كتائب بقية الله | تنسيق سياسي وإعلامي |
6–8 تموز/يوليو 2025 | مقتل نائب القائد العام محمد بدران وإعادة هيكلة القيادة | — | تعيين طارق حمد لتشكيل مكتب سياسي جديد |
15 تموز/يوليو 2025 | إعلان بيعة | المقاومة الشعبية السورية | اندماج تحت لواء أولي البأس |
30 تموز/يوليو 2025 | تشكيل غرفة عمليات عسكرية مشتركة | المقاومة الوطنية لتحرير الجولان | بيان مشترك لتوحيد الجهود |
4 آب/أغسطس 2025 | إعلان تحالف جديد | الجبهة الشعبية لتحرير لواء اسكندرون | تعزيز قدرات عسكرية وتوسيع الخطاب |
12 آب/أغسطس 2025 | انضمام وحدات من الجيش السوري المنحل | سرايا الأوفياء | اندماج تحت لواء أولي البأس |
هذا التنامي في التحالفات يُشير إلى تنظيمٍ داخلي قوي وأجندةٍ استراتيجية واضحة، كما يعكس سعي الحركة إلى ترسيخ موقعها كلاعبٍ رئيسي في المشهد السوري، وإلى مضاعفة قوتها العسكرية والإعلامية عبر الارتباط بفصائل مسلّحة تعارض الحكومة السورية.
ويمكن ملاحظة أن مسار “أولي البأس” منذ نشأتها يعكس تطوّرًا واضحًا في بنيتها وقدراتها التنظيمية والإعلامية، فقد انتقلت من بيانات مبعثرة وفوضوية إلى قيادة محدّدة وبنية متكاملة تشمل مكاتب سياسية وإعلامية واجتماعية وعسكرية، مع تطوير قدرات تكتيكية وميدانية أكثر تنسيقًا. وبحسب المتحدث الرسمي باسم “أولي البأس”، فإن العديد من الفصائل التي قامت الإدارة السورية بحلّها وجدت في “أولي البأس” إطارًا جديدًا للعمل المنظّم.
ولذا، تسعى الإدارة السورية إلى إنهاء الملف الأمني للجنوب مع إسرائيل، كخطوة استراتيجية تمكّنها بعدها من تركيز جهودها لمواجهة نشاط “أولي البأس”. فحسم ملف إسرائيل يتيح للحكومة تقليص تأثير هذه الميليشيا وإحكام السيطرة على الجنوب.