ترجمة وتحرير: نون بوست
غالبًا ما يكشف موقف الشخص في قضية معينة عن آرائه في قضايا أخرى. فالتصويت لصالح البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي أو مغادرته في استفتاء البريكست البريطاني يعد مؤشّرًا قويًا لتوقّع مواقف شخص ما حيال مواضيع مثل الهجرة أو عقوبة الإعدام أو حتى دونالد ترامب. لكن هذا النمط التنبؤي ينهار عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا وغزّة. ففي أوساط المعلقين وحتى الحكومات، يمكن العثور على مجموعات مؤيدة لإسرائيل ومؤيدة لأوكرانيا، أو مؤيدة لأوكرانيا ومؤيدة لفلسطين، أو مؤيدة لروسيا ومؤيدة لإسرائيل، او ومؤيدة لروسيا ومؤيدة لفلسطين.
بالطبع، مصطلحات مثل “مؤيد لفلسطين” أو “مؤيد لروسيا” تبقى عامة وغير دقيقة ذلك أنها تشمل مجموعة واسعة من المواقف، لكنها تظل وسيلة مفيدة لفهم الانقسامات السياسية الحقيقية.
غالبًا ما تتجلّى الانقسامات بين المعسكرين “المؤيد والمعارض” في النقاش حول السياسة الخارجية الغربية. فالمعسكر “المؤيد لفلسطين” يسعى لملاحقة القادة الإسرائيليين بتهم ارتكاب جرائم حرب وزيادة الضغوط على الدولة. أما المجموعة “المؤيدة لإسرائيل” فتدعم بشكل عام منح حكومة نتنياهو حرية التصرف، وتتجاهل الاتهامات المتعلقة بالإبادة الجماعية. وفي حرب أوكرانيا، يميل “المؤيدون لروسيا” إلى التأكيد على أن لموسكو مطالب مشروعة يجب الاعتراف بها، بينما يطالب الموقف “المؤيد لأوكرانيا” بتعزيز الدعم لكييف وزيادة الضغط على بوتين. فلماذا تعقّدت الخريطة الأيديولوجية منذ اندلاع حرب أوكرانيا وغزّة؟
يتوافق الجمهور “المؤيد لأوكرانيا والمؤيد لإسرائيل” بشكل كبير مع المجموعة التي كانت تُعرف سابقًا بالمحافظين الجدد. فهم يرون كلًا من أوكرانيا وإسرائيل كديمقراطيات تتعرض للهجوم وتستحق الدعم. فمثلا، الفيلسوف الفرنسي برنار هنري ليفي داعم شرس لأوكرانيا، وقد دافع مؤخرًا عن إسرائيل ضد تهم الإبادة الجماعية، قائلاً: “جيش إبادي لا يستغرق عامين ليفوز بحرب في منطقة بحجم لاس فيغاس… الحديث عن إبادة جماعية في إسرائيل هو إهانة للعقل السليم”. ومن بين الشخصيات الأخرى التي أضعها في معسكر “المؤيد لأوكرانيا والمؤيد لإسرائيل” المؤرخ نيل فيرغسون والصحفية باري وايس.
أما الجمهور “المؤيد لأوكرانيا والمؤيد لفلسطين”، فيركز أكثر على حقوق الإنسان وجرائم الحرب بدلًا من مسائل الديمقراطية ومن أطلق النار أولًا. ومن منظور حقوق الإنسان، توضع روسيا وإسرائيل في معسكر واحد، حيث تُتهم كلتاهما بالقتل الجماعي للمدنيين الأبرياء وانتهاك القانون الدولي. وانطلاقًا من هذا المبدأ، اتخذت المحكمة الجنائية الدولية قرارها بإصدار مذكرات توقيف ضد كل من فلاديمير بوتين وبنيامين نتنياهو. ويشير بيدرو سانشيز، رئيس وزراء إسبانيا، الذي اتهم إسرائيل مؤخرًا بالإبادة الجماعية، إلى أنه من النفاق أن يدين الغرب روسيا بينما يدعم إسرائيل.
ثم هناك موقفٌ مؤيد لروسيا ومؤيد لإسرائيل شائع بين المؤيدين للحكم السلطوي، ويجسّده فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، الذي عارض مرارًا عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا وحذّر من أن الدعم الغربي لأوكرانيا قد يؤدي إلى حرب عالمية. ويُعد أوربان القائد الأوروبي الوحيد الذي استقبل نتنياهو في بلاده منذ توجيه اتهامات المحكمة الجنائية الدولية له. ويمكن العثور على صيغ مختلفة من موقف أوربان عبر اليمين المتطرف الأوروبي، حيث يتحول العداء للمهاجرين المسلمين أحيانًا إلى دعم لإسرائيل، وتخلق القومية والمحافظة الاجتماعية والريبة من الناتو تعاطفًا مع روسيا. وغالبًا ما بدا هذا الموقف أقرب وصف لرؤية ترامب.
في المقابل، هناك تيار انعزالي في اليمين المتطرف الأمريكي مؤيد لروسيا ويزداد ميله للتعاطف مع القضية الفلسطينية. فقد عبّر الإعلامي المؤثر تاكر كارلسون عن تعاطفه مع بوتين وقدم تقارير تلفزيونية إيجابية عن روسيا. ويظهر منتقدو إسرائيل بانتظام على برنامجه، ومن بينهم النائب مارجوري تايلور غرين، التي كانت تُعتبر من أكثر مؤيدي ترامب ولاءً لكنها أصبحت أول جمهوري منتخب يتهم إسرائيل بالإبادة الجماعية. وقد وُجهت تهم معاداة السامية لكل من كارلسون وغرين، لكن مواقفهما من إسرائيل وأوكرانيا يمكن اعتبارها تعبيرًا عن شكل صارم من القومية الأمريكية “أمريكا أولاً”، حيث يُنظر إلى كلا البلدين على أنهما يسعيان لجر الولايات المتحدة إلى الحروب.
أما أنا، فأين أقف على هذا الطيف؟ أولًا، دعوني أمنح نفسي مجاملة لم أمنحها للآخرين وأقول إن مصطلحات مثل “مؤيد لإسرائيل” و”مؤيد لفلسطين” بدائية جدًا لوصف آرائي. لكن، باستخدام تصنيفي الخاص غير المثالي، أود القول إنه خلال العامين الماضيين، تحولت ميولي من معسكر “المؤيد لأوكرانيا والمؤيد لإسرائيل” إلى معسكر “المؤيد لأوكرانيا والمؤيد لفلسطين”. وذلك لأن كلًا من إسرائيل وأوكرانيا كانا، في بداية الحروب الأخيرة، ضحيتين واضحتين للعدوان وجرائم الحرب ضد المدنيين. لكن الأمور تغيّرت خلال العامين الماضيين. فقتل إسرائيل الجماعي للمدنيين الفلسطينيين واستخدام الجوع كسلاح حرب لا يمكن تبريره كوسيلة شرعية للدفاع عن النفس.
أما أوكرانيا، فهي لا تزال تقاتل من أجل وجودها بصدق، وغالبًا ما تفعل ذلك بضبط النفس واحترام حياة المدنيين. في المقابل، وعلى الرغم من إصرار حكومة نتنياهو على أن إسرائيل تواجه تهديدًا وجوديًا، لا يوجد أي احتمال أن تستطيع آخر معاقل حماس إنهاء وجود الدولة الإسرائيلية. ولا يمكن تبرير وحشية تكتيكات نتنياهو حتى كمحاولة لإنقاذ الرهائن الإسرائيليين، بل على العكس، فهي تعرض حياتهم للخطر.
بالنسبة لي على الأقل، فإن أوكرانيا وإسرائيل باتتا الآن على جانبي ميزان أخلاقي مختلف.
المصدر: فاينانشال تايمز