في ظل تصاعد وتيرة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وإعلان “إسرائيل” خُطتها لاحتلال مدينة غزة، وجدت عشراتُ آلاف العائلات الغزية نفسها أمام نزوحٍ قسريٍّ جديد نحو جنوب القطاع، وذلك بعد الإخلاءات الجماعية والإنذارات المتكررة التي دفعتهم لترك منازلهم وأحلامهم وما تبقّى من ذكرياتهم على ركام منازلهم التي دمّرتها آلةُ الحرب.
حقائبٌ صغيرةٌ وأطفالٌ مذعورون، وكبارُ سنٍّ يتهاوَون من شدة التعب والجوع والخوف والمرض، وطرقٌ مزدحمةٌ بالنازحين الباحثين عن مكان آمن، بينما تتضاعف تكاليف النزوح المادية والمعنوية، في رحلةٍ لا تحمل سوى الألم والانتظار المرهق لمجهول يزداد قسوةً يومًا بعد يوم.
رغم الفقر المدقع والمجاعة، يتكبّد النازحون في مدينة غزة تكاليفٍ باهظةٍ عند نزوحهم قسرًا إلى مناطق وسط وجنوب القطاع. يقول المواطن محمد البسيوني لـ”نون بوست”، وهو من سكّان بيت حانون والنازح من منطقة النصر إلى مدينة خانيونس جنوبي القطاع إنّ تكاليف النزوح فاقت طاقتهم بشكلٍ كبير، حيث بلغ متوسطها قرابة 5000 شيكل، ما يُعادل 1500 دولار، وهو مبلغ يصعب توفيره في ظل انقطاع مصادر الدخل وفقدان الكثيرين فرص عملهم، وغياب المساعدات الإنسانية.
ووفقًا لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، عبر موقعها الرسمي، قد بلغ متوسط تكلفة النزوح من غزة إلى الجنوب 3180 دولارًا، مُشيرةً إلى أن الوقود نادرٌ، وأن إمدادات المأوى مُنعت من الدخول لمدة سبعة أشهر بسبب الحصار الإسرائيلي.
ويُفند البسيوني ادعاءات جيش الاحتلال الإسرائيلي حول توفر مناطق إنسانية آمنة في الجنوب، بأنّه لم يجد مساحةً لنصب خيمته سوى بين قبور الموتى داخل أحد مقابر خانيونس.
ويسرد تفاصيلَ رحلة نزوحه بأنه غادر مدينة غزة نحو الجنوب قبل عائلته بخمسة أيام، في سبيل البحث عن قطعة أرض لخيمتهم، في وقتٍ لا يستطيع فيه استئجار قطعة أرض، حيث يبلغ إيجار قطعة الأرض الصغيرة من 800 إلى 1000 شيكل شهريًا (من 280 إلى 300 دولار). وهي خطوة يُجبر فيها النازحون على استئجار أراضٍ خاصة لنصب خيامهم، في ظل غياب مناطق إيواء جماعية أو مخيّمات.
حيث إنّ المساحات مكتظة أصلًا بنازحين من مدينتي رفح وخانيونس، التي فرّغ الاحتلال أهلها في العمليات العسكرية السابقة وحشرهم في منطقة المواصي وعلى شاطئ البحر، حيث يُصعُب العثور على أماكن لإقامة الخيام بعد ما يُقارب من عامين من الحرب، إضافة إلى أن الغزيين لا يحصلون على أي دخل بسبب فقدانهم فرص عملهم بفعل الحرب، واعتمادهم كُليًّا على المساعدات الإنسانية الشحيحة التي تدخل إلى غزة.
وقال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) إن أكثر من 250,000 شخصًا نزحوا من المدينة في الشهر الماضي وحده، نتيجة تقدم الآليات الإسرائيلية بريًا إلى الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية مثل الشيخ رضوان وتلّ الهوى.
وبكل ألمٍ وحسرةٍ وقهرٍ لا حدَّ له، يروي المواطن أحمد الطيب، والذي نزَح من شمال قطاع غزة إلى خانيونس جنوب القطاع، لـ”نون بوست” أنه في كل مرة ينزح فيها ويحاول الاستقرار في مكان ما تعود الكرة من جديد، ويأمر الاحتلال السكان بالإخلاء من جديد لمناطق يدّعي أنها آمنة، ويقوم باستهداف المدنيين فيها. توجه إلى منطقة الإقليمي إلى الجنوب الغربي من مدينة خانيونس، لكنه لم يستطِع المكوث في تلك المنطقة بسبب كثافة الرصاص الطائش؛ فهي منطقة قريبةٌ من نقطة الشاكوش التابعة للمساعدات الأمريكية.
ويضيف الطيب أنه وجد نفسه قد فَرّ من الموت إلى الموت، فقرّر مُكرَهًا نصب خيمتهم داخل المقبرة.
أما عن الظروف النفسية للأطفال النازحين داخل المقبرة، تقول المواطنة بيادر البسيوني، ذات 43 عامًا وهي أيضًا نازحةٌ من شمال القطاع، إن هذه نزوحها الخامس عشر، ولكن جميع مرّات النزوح كانت في كفةٍ، وهذا النزوح وحده في كفةٍ أخرى بسبب صعوبته البالغة. وتؤكّد أن الليلةَ الأولى أطفالها لم يناموا من شدة خوفهم، بسبب استقرارهم داخل المقبرة، وبدأوا بأسئلةٍ غريبةٍ عن القبور والموتى: هل هم يشعرون بنا؟ وهل سيخرجون من قبورهم؟ وما إن أشرقت الشمس عبّر أطفالها عن فرحتهم بأنَّ الموتى لم يخرجوا من القبور، وأنهم لم يرَوا أناسًا يرتدون الأبيض.
فيما عبرت بيادر عن صدمتها بأن ألعاب أطفالها أصبحت أنهم قد حَفَروا حُفَرًا بالرمال عبارة عن قبور، ويضعون حجارةً على الطرفين، كما لو أنهم دفنوا شخصًا استشهد.
وتُضيف أن النساء الغزيات عانَين ويلات الحرب، ويحاولن بكل ما أوتين من ثباتٍ وصمودٍ تجاوزَ الأزمات وتلبية احتياجات عائلاتهنّ. وتقول إنها أنشأت فرنًا للخبز عليه لتوفير مصروف لأبنائها من لا شيء، وتخشى البسيوني أن تتلقّى هي والنازحين معها أمرَ إخلاءٍ جديد، وتتمنى أن تنتهي الحرب وتعود الحياةُ والأمان من جديدٍ لغزة وأهلها، حتى لو فقدنا كلّ ممتلكاتنا، وإن أنشأنا خيامنا على ركام منازلنا، وأن يعود أطفالنا إلى مقاعدهم الدراسية.
لم يكن قرار النزوح من الشمال إلى الجنوب سهلًا على عائلة الشابة سهى سكر. فهي المرة الأولى التي تنزح فيها إلى الجنوب؛ فقد صمدت طوال الحرب في الشمال وعاشت كلّ عذاباتها. القصف الهستيري، وقذائف المدفعية، والقنابل الضوئية، والاستهدافات المتكررة في منطقة مقبرة الشيخ رضوان دفعَ شقيقها لتوفير مركبة تنقلهم إلى الجنوب، وعرض على العائلة هذا القرار، فأجمعت العائلة عليه.
وتوضّح سكر أن مجرد سماعها لقرار النزوح إلى الجنوب، انفجرت بالبكاء، فهم لا حيلة لهم بمصاريف النزوح التي قالت إنها كلفتهم 6000 شيكل، فاقترح شقيقها أن يسلم كل فرد في العائلة المبلغ المالي اللازم لتأمين تكاليف النزوح. علاوة على ذلك، نزح أصحاب الطاقة البديلة “الشمسية” وأصحاب شبكات الإنترنت إلى الجنوب، واستهداف الاحتلال لخطوط المياه أعدم مقومات الحياة في المنطقة لتفريغ السكان منها.
وتشرح سهى أنها لم تملك سوى سلسلة ذهب، قررت مُكرَهة إعطائها كجزء من أجرة النقل إلى الجنوب. ليست سهى وحدها من دفع أثمن ما تملك لأجل تكاليف النزوح الباهظة، بل شاركها في ذلك عشرات العائلات الغزية، من بينها الشاب رائد غراب، الذي عرض أثاث وممتلكات منزله كي يتمكّن من دفع تكاليف النزوح. فقد شحن بعضًا من ممتلكاتهم إلى الجنوب، وأُجبروا على النزوح مع عائلته مشيًا على الأقدام تحت نيران القذائف الإسرائيلية، من مخيم الشاطئ إلى خانيونس، أي ما يزيد على 30 كيلومترًا، وقضوا خمسة أيام نومًا بالعراء وفي الشارع.
حينما قابلت “نون بوست” الشاب غراب، كان ينصب خيمةً مُهترئةً بين مقبَرتين؛ فهو المكان الوحيد الذي وجده متاحًا. ويؤكد أن “إسرائيل” تدّعي وجود مناطق آمنة، لكن ذلك كذب، إذ لا يوجد شبر آمن في غزة، ويأمل أن يعود قريبًا إلى مخيّمه الذي عاش وترعرّع فيه منذ صغره.
لا يزال مئات الآلاف من سكان مدينة غزة عالقين ومحاصَرين من آليات جيش الاحتلال حتى هذه اللحظة، لأنهم غير قادرين على تأمين كلفة النزوح، مما يعرّضهم للخطر في حال تصعيد العمليات العسكرية التي وصلت حدّ تفخيخ المربعات السكنية بالروبوتات، أو توسيع نطاق التهجير.
وبحسب متابعة ميدانية وإفادات الزملاء الإعلاميين الذين لا يزالون حتى اللحظة في مدينة غزة، فإن قوات الاحتلال باتت تسيطر على أجزاء واسعة من المدينة، وسط قصفٍ جوي ومدفعي مكثّف، يهدّد بتدمير المنازل والبنية التحتية بشكل شبه كامل.
في وقتٍ لا تزال فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي تكثّف قصفها للمباني السكنية والأبراج العالية، وتفخيخ الروبوتات في مناطق متفرقة بمدينة غزة لإجبارهم على النزوح نحو الجنوب.