شكَّل طوفان الأقصى لحظةً فارقةً في تاريخ القضية الفلسطينية، إذ فجَّرت مواجهةً عسكريةً هي الأطول والأكثر كلفةً منذ النكبة، ومع دخول الحرب عامها الثالث، تبدو “إسرائيل” عالقةً في استنزافٍ طويلِ الأمد لم يحقّق أهدافها المعلَنة، سواء بالقضاء على “حماس” أو باستعادة أسراها بالكامل عبر القوة.
على الصعيد الاقتصادي، تحوَّلت “إسرائيل” خلال عامين من نموذجٍ يُحتذى به في تقارير المؤسسات الدولية إلى اقتصادٍ مُثقَلٍ بالأعباء؛ فقد ارتفع الإنفاق العسكري إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، مع تكاليف يومية بملايين الشواكل على العمليات العسكرية. وترافق ذلك مع تراجع الاستثمارات الداخلية والخارجية، وانكماش قطاعاتٍ حيويةٍ مثل التكنولوجيا والسياحة والزراعة والتجارة.
الضغوط المالية بدورها كانت هائلة، إذ تضخَّم العجز العام وارتفع الدين إلى نحو 70% من الناتج المحلي، ما انعكس على الحياة اليومية للإسرائيليين بارتفاع الأسعار وتآكل القدرة الشرائية، ونقص اليد العاملة نتيجة استدعاء الآلاف من جنود الاحتياط.
في الوقت نفسه، خفَّضت وكالات التصنيف الائتماني العالمية تصنيف “إسرائيل”، ما أضرّ بصورتها كوجهةٍ آمنةٍ للاستثمار، كما تزايدت حالة الحذر في الأوساط الاقتصادية العالمية، خصوصًا الأوروبية، حيث ارتفعت الدعوات المطالِبة بمراجعة الاتفاقيات التجارية مع “إسرائيل” وفرض قيودٍ وعقوباتٍ اقتصاديةٍ مرتبطةٍ بسلوكها العسكري في غزة.
مجمل هذه العوامل جعل الأزمة الراهنة أعمق بكثير من الأزمات الاقتصادية التي أعقبت الحروب السابقة (2009، 2012، 2014، 2021)، وأثار تساؤلاتٍ جديّةً حول قدرة “إسرائيل” على استعادة التوازن الاقتصادي في المدى المنظور. وبين تضخّم الدين وتآكل القطاعات الإنتاجية وتراجع الثقة الدولية، تقف “إسرائيل” أمام اختبارٍ اقتصاديٍّ طويل الأمد لا تقلّ خطورته عن التحديات العسكرية والسياسية.
تكلفة العمليات العسكرية
منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ارتفعت كلفة العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، إذ بلغت في الأشهر الأولى ما بين 1 و1.5 مليار شيكل يوميًّا (270–400 مليون دولار) لتغطية القتال البري والجوي والنفقات اللوجستية، قبل أن تتراجع مطلع عام 2024 إلى نحو 350 مليون شيكل يوميًّا (94 مليون دولار)، واستقرّت عند هذا المستوى لاحقًا.
وحتى منتصف عام 2025، قُدِّرت الكلفة الإجمالية لحرب إسرائيل على غزة بين 60 و90 مليار دولار، لتُسجِّل بذلك أعلى عبءٍ ماليٍّ في تاريخ مواجهاتها العسكرية.
هذا الاستنزاف ترافق مع إعادة هيكلةٍ واسعةٍ للانتشار العسكري، شملت استدعاء الآلاف من جنود الاحتياط لفتراتٍ طويلة، والتعاقد على صفقات تسليحٍ ضخمةٍ مع الولايات المتحدة وأوروبا، تضمنت ذخائر دقيقة وطائراتٍ مقاتلة ومنظوماتٍ دفاعيةٍ جديدة.
انعكست هذه التطورات على الموازنة العامة بشكلٍ مباشر، إذ ارتفع الإنفاق العسكري منذ عام 2024 بنسبة 65% ليبلغ 46.5 مليار دولار، وفقًا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، وهو ثاني أعلى معدلٍ عالميًّا بعد أوكرانيا.
وقد أدّى توسّع الإنفاق العسكري إلى ضغوطٍ هائلةٍ على المالية العامة، حيث ارتفعت مخصّصات الجيش إلى مستوياتٍ غير مسبوقة مقارنةً بما قبل الحرب، ما تسبّب في تراجع الإنفاق على القطاعات المدنية وتعميق العجز المالي، وأجبر الحكومة على زيادة الاقتراض داخليًّا وخارجيًّا لتغطية التكاليف المتصاعدة للحرب.
وفي عام 2025، أقرت إسرائيل أكبر ميزانيةٍ في تاريخها، بلغت 756 مليار شيكل (215 مليار دولار)، بزيادةٍ نسبتها 21% عن العام السابق، خُصِّص منها نحو 39 مليار دولار لوزارة الدفاع.
تفاقم الضغوط المالية
في عام 2022، حقّق الاقتصاد الإسرائيلي فائضًا في الموازنة ونموًّا بلغ 6%، مدعومًا بقدرةٍ عاليةٍ على إدارة الديون، إذ لم تتجاوز الديون الخارجية 15% من إجمالي الدين العام (حوالي 50 مليار دولار) مقابل احتياطياتٍ أجنبية بلغت 230 مليار دولار، وقد عُدّ هذا الوضع المالي إحدى نقاط القوة التي منحت إسرائيل استقرارًا كبيرًا وثقةً لدى وكالات التصنيف.
غير أن هذا المشهد تبدّل جذريًّا مع اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حيث ارتفع الإنفاق العسكري بشكلٍ غير مسبوق، بالتوازي مع تراجع الإيرادات الضريبية نتيجة انكماش النشاط الاقتصادي، ما أدّى إلى اتساع العجز المالي إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان مستقرًّا عند متوسط 3% قبل الحرب.
كذلك، أدّى النزوح الواسع من شمال إسرائيل وجنوبها إلى ضغطٍ إضافيٍّ على الخزينة العامة، التي اضطرت إلى تمويل خطط إيواءٍ وإعاشةٍ لعشرات الآلاف من النازحين.
فمع إخلاء بلداتٍ بأكملها في محيط غزة والجليل الأعلى، تكبّدت الحكومة الإسرائيلية تكاليف باهظة لتأمين مساكن مؤقتةٍ وفنادق ومراكز إيواء، فضلًا عن تعويضاتٍ شهريةٍ للمواطنين والشركات المتضررة.
هذا النزوح الطويل، منذ أواخر عام 2023، شكّل عبئًا ماليًّا غير مسبوقٍ على الموازنة، إذ بات على الدولة أن تدير في الوقت نفسه اقتصاد حربٍ داخليًّا وأزمة لجوءٍ داخلي، ما فاقم من الضغوط على وزارة المالية وزاد من حدّة العجز العام.
تزايد كلفة الدين وتراجع التصنيف
لتغطية نفقاتها العسكرية المتزايدة، لجأت الحكومة الإسرائيلية إلى توسّعٍ كبيرٍ في الاقتراض الداخلي والخارجي، لترتفع نسبة الدين العام من 60% عام 2022 إلى نحو 70% عام 2024، وهو أعلى مستوى منذ عقود، فيما تجاوزت قيمة القروض المخصّصة لتمويل الحرب 76 مليار دولار.
أدّى تضخّم الاقتراض إلى ارتفاعٍ حادٍّ في كلفة خدمة الدين، مما سيجعل من الصعب الحفاظ على الإنفاق الجاري على الخدمات العامة. وقد ترافق هذا الضغط المالي مع سلسلةٍ من خفض التصنيف الائتماني من قبل وكالاتٍ عالمية، ما عكس تراجع ثقة الأسواق والمستثمرين بالاقتصاد الإسرائيلي.
وفي ظلّ تركيز الموارد على الأمن والدفاع، تراجعت جودة الخدمات العامة في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية. وللتخفيف من العجز المالي، رفعت الحكومة الإسرائيلية ضريبة القيمة المضافة من 17% إلى 18%، وزادت ضريبة الصحة والاقتطاعات الاجتماعية.
تراجع الاستثمار والتمويل
في عام 2024، سجّل الاقتصاد الإسرائيلي أدنى مستويات الاستثمارات الأجنبية المباشرة منذ أكثر من 15 عامًا، إذ تراجعت بنحو 35–40% مقارنةً بالسنوات السابقة، متأثّرًا بتصاعد حالة عدم اليقين السياسي والأمني.
ومع استمرار الحرب، فقدت إسرائيل تدريجيًّا جاذبيتها الاستثمارية، وبدأت موجات خروج رؤوس الأموال نحو أسواقٍ أكثر استقرارًا.
وتجلّت آثار الحرب على النشاط الاقتصادي في انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.5%، مع تراجع نصيب الفرد من الناتج 4.4%، ومعدّل نموٍّ لم يتجاوز 1%، وهو الأدنى بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
هذا التراجع انعكس مباشرةً على السوق الداخلية، حيث أفلست أكثر من 46 ألف شركة، وارتفعت معدّلات البطالة بفقدان الآلاف من الوظائف في قطاعاتٍ رئيسيةٍ مثل التكنولوجيا والسياحة والزراعة.
ويرى محلّلون إسرائيليون أن استمرار هذه الاتجاهات يهدّد مستقبل الاقتصاد برمّته، فبدون تدفّق الاستثمارات الأجنبية، ومع اتّساع هجرة الكفاءات، قد يتحوّل الاقتصاد الإسرائيلي تدريجيًّا إلى اقتصادٍ منخفضِ التقنية، ويفقد مكانته التي لطالما جعلته يُعرف بـ“وادي سيليكون الشرق الأوسط”، وهو ما قد يدفعه نحو مسارٍ يشبه اقتصادات دول العالم الثالث.
الأثر الاجتماعي والمعيشي
مع استمرار الحرب، انعكس التدهور الاقتصادي مباشرةً على المجتمع الإسرائيلي، إذ ارتفعت تكاليف المعيشة بفعل التضخّم، وتراجعت القدرة الشرائية، بينما تسبّب استدعاء آلاف جنود الاحتياط في نقصٍ حادٍّ في اليد العاملة، خصوصًا في قطاعات الزراعة والبناء والتكنولوجيا.
وبحسب مسحٍ لدائرة التوظيف الإسرائيلية، يعاني 75% من جنود الاحتياط من صعوباتٍ اقتصادية، ويخشى 20% منهم فقدان وظائفهم بعد عودتهم إلى الحياة المدنية. كما تضاعف العبء على الحكومة الإسرائيلية جرّاء القتلى والجرحى والمعاقين جسديًّا ونفسيًّا، ممن لا يستطيعون العودة إلى سوق العمل، ما زاد من الضغوط على وزارتي الدفاع والمالية.
ويرى خبراء الاقتصاد الإسرائيليون، مثل مانويل تراجتنبرغ وإيتاي آتر، أن الاقتصاد الإسرائيلي، الذي أظهر صمودًا في العام الأول من الحرب، يواجه في أواخر عامه الثاني مؤشّرات إنذارٍ خطيرة، من تقلّص الاستثمارات الأجنبية وارتفاع الدين الحكومي وتكاليف المعيشة، إلى تعطّل قطاعات التصنيع والتجارة والتكنولوجيا، وإجلاء سكان المناطق الحدودية واستدعاء مئات الآلاف للاحتياط.
أهم القطاعات المتضرّرة من الحرب
لم تقتصر تداعيات الحرب على غزة على الكلفة العسكرية المباشرة، بل طالت ركائز الاقتصاد الإسرائيلي الأساسية على مدى عامين متواصلين.
وكان قطاع التكنولوجيا المتقدّمة — الذي يُعدّ العمود الفقري للاقتصاد — من أكثر القطاعات تضرّرًا، إذ يشغَل نحو 12% من القوى العاملة، ويساهم بحوالي 20% من الناتج المحلي، و64% من الصادرات، ويدفع 25% من إجمالي إيرادات ضريبة الدخل.
غير أن الحرب على غزة أحدثت ضربةً قاسيةً لهذا القطاع، إذ تمّ استدعاء ما بين 10% و15% من موظفيه للخدمة الاحتياطية، وفي عام 2025 شهد القطاع انخفاضًا في عدد الموظفين المحليين، بينما ارتفع عدد العاملين الذين غادروا البلاد بشكلٍ دائم، ليصبح عدد الموظفين داخل إسرائيل نحو 390 ألفًا مقابل 440 ألفًا خارجها.
ترافق ذلك مع انهيار بيئة الاستثمار، إذ تراجعت الاستثمارات في شركات التكنولوجيا الناشئة بنسبةٍ تفوق 50%، واضطرّت شركاتٌ محلّيةٌ وأجنبية إلى تجميد أنشطتها أو نقلها إلى أسواقٍ أكثر استقرارًا، ما أفقد إسرائيل جزءًا من ميزتها التنافسية كمركزٍ تكنولوجيٍّ إقليمي.
وردًّا على ذلك، طرحت وزارة المالية الإسرائيلية خطةً تعويضيةً لدعم الشركات والأفراد المتضرّرين من الحرب، شملت منحًا ثابتةً للشركات الصغيرة، وتعويضاتٍ تصل إلى 22% من النفقات التشغيلية و75% من الرواتب للشركات الكبرى، إضافةً إلى مدفوعاتٍ مباشرةٍ للموظفين. كما شملت الخطة تقديم قروضٍ ميسّرةٍ تصل قيمتها إلى 650 ألف شيكل للشركات الصغيرة، إلى جانب قروضٍ بدون فوائد.
انهار قطاع السياحة أيضًا، إذ انخفض عدد الزوار الأجانب بأكثر من 75% خلال العامين، بينما تراجعت السياحة الداخلية بسبب تدهور الأوضاع الأمنية والاستدعاءات العسكرية المتكرّرة، ما عمّق الركود وأثّر على الفنادق وشركات الطيران والأنشطة المرتبطة بهما.
كذلك تضرّر القطاع الزراعي بشدّة، خصوصًا في محيط غزة والحدود الشمالية، إذ اضطرّ آلاف المزارعين إلى ترك أعمالهم. وتزامن ذلك مع أزمةٍ في التجارة الداخلية نتيجة انخفاض القدرة الشرائية وارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل، ليسجّل القطاع التجاري تراجعًا يقارب 7%.

كذلك تعرّضت قطاعات التصدير والبناء في إسرائيل لضغوطٍ مزدوجةٍ خلال الحرب، فقد خسر قطاع البناء وحده نحو 150 مليون شيكل يوميًّا نتيجة وقف تصاريح عمل 80 ألف عاملٍ فلسطيني.
وبرغم استقدام عمالٍ من الخارج، ظلّ العجز قائمًا.
وفي الوقت نفسه، شكّلت مقاطعة تركيا لإسرائيل ضربةً إضافيةً للتجارة، إذ كانت تركيا من أكبر شركائها في الشرق الأوسط، ولا سيّما في مواد البناء، ما زاد الضغط على قطاعي البناء والصناعة نتيجة الحاجة إلى استيراد هذه المواد من أسواقٍ بديلةٍ بتكاليفَ أعلى.
إلى جانب ذلك، شمل الاستنزاف الاقتصادي تعبئةً واسعةً لقوات الاحتياط، ففي نهاية عام 2023 وصل العدد إلى نحو 300 ألف جنديٍّ، ثم ارتفع إلى 350 ألف جنديٍّ، أي ما يقارب 20% من إجمالي القوى العاملة، قبل أن يتوسّع في مايو/ أيار 2025 ليبلغ 450 ألفًا.
هذا الاستدعاء غير المسبوق انعكس مباشرةً على الاقتصاد، من خلال نقصٍ في اليد العاملة، وإغلاقِ الشركات والمزارع، ونزوحِ السكان من المناطق القريبة من خطوط المواجهة، ما فاقم حجم الخسائر الاقتصادية والاجتماعية.
أهم القطاعات الإسرائيلية المتضررة بعد عامين على الحرب على غزة
القطاع | نسبة التراجع/الخسائر التقديرية | أبرز الأسباب | الانعكاسات الرئيسية |
الاستثمارات الأجنبية | انخفاض بـ 35–40% | فقدان الثقة بالاستقرار السياسي والأمني | أدنى تدفقات منذ 15 عامًا، وضعف جاذبية السوق |
التكنولوجيا | تراجع الاستثمارات بنسبة تفوق 50% | استدعاء الآلاف من الكفاءات، هجرة عقول، تجميد مشاريع | فقدان ميزة تنافسية، نقل شركات ناشئة للخارج |
السياحة | تراجع بأكثر من 75% في الزوار الأجانب | انعدام الأمن، استمرار الحرب | خسائر للفنادق والطيران، تقدر بأكثر من 5 مليارات دولار |
الزراعة | انخفاض الإنتاج الزراعي بحوالي 25% | إخلاء المزارعين، إغلاق الأسواق، تراجع الصادرات | فقدان مصدر دخل لآلاف |
التجارة الداخلية | تراجع 7% | انخفاض القدرة الشرائية، ارتفاع تكاليف النقل والتضخم | تضرر المحلات والأسواق المحلية، ركود اقتصادي |
البناء | توقفت أعمال البناء بشكل شبه كامل | وقف تصاريح العمال الفلسطينيين، ارتفاع تكاليف المواد والخدمات | خسائر فادحة للشركات العقارية والإنشائية |
القطاعان الوحيدان اللذان لم يشهدا انهيارًا كبيرًا هما شركات الأسلحة التي حققت مبيعاتٍ مرتفعة، وقطاع الصناعات الأمنية، خاصةً الأمن السيبراني؛ فقد أبدت شركة جوجل اهتمامها بالاستحواذ على شركة الأمن السيبراني الإسرائيلية “ويز”، التي أسسها ضباطُ مخابراتٍ إسرائيليون، وتمّت الصفقة في مارس/ آذار 2025 مقابل 32 مليار دولار، وهي أكبر عملية استحواذٍ في تاريخ جوجل، ما يعكس استمرار جاذبية هذا القطاع عالميًّا رغم الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها إسرائيل.
كذلك، ورغم التدهور العام الذي أصاب الاقتصاد الإسرائيلي خلال العامين من الحرب على غزة، شكّلت بعضُ الدول العربية والآسيوية — وخاصة الهند — طوقَ نجاةٍ نسبيًّا لإسرائيل عبر استمرارٍ وزيادةٍ في التعاون التجاري معها.
كما ساهمت المساعدات الأميركية المباشرة وصفقات التكنولوجيا مع الشركات العالمية الكبرى، مثل جوجل، في مجالات البرمجيات والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، في التخفيف من حدّة الانكماش الاقتصادي لإسرائيل.
المقارنة مع الحروب السابقة
منذ عام 2008، شنّت إسرائيل سلسلةً من الحروب المتكرّرة على غزة، كان لكلٍّ منها أثرُها الاقتصادي المباشر، إلا أنها ظلّت في مجملها أزماتٍ عابرةً لم تترك ندوبًا هيكلية في بنية الاقتصاد، فقد اعتاد الاقتصاد الإسرائيلي على التعافي السريع، مما أبقى صورته لدى المستثمرين والمؤسسات الدولية مستقرة.
في حرب عام 2009، التي استمرّت ثلاثة أسابيع، تكبّدت إسرائيل خسائر في البنية التحتية وبعض القطاعات الإنتاجية، لكن الناتج المحلي والموازنة العامة لم يتأثّرا بصورةٍ جوهرية، وقد ساعد الدعم الخارجي والتدفّقات المالية في امتصاص الصدمة، لتعود الأسواق سريعًا إلى الاستقرار.
أما في حرب عام 2012، فكانت أكثرَ محدوديةً من سابقاتها، إذ لم تتجاوز مدّتها أسبوعًا واحدًا، واقتصرت خسائرها على بعض القطاعات كالسياحة والتجارة الداخلية، لكنها بقيت قصيرة الأمد، واستعادت القطاعات المتضرّرة نشاطها خلال فترةٍ وجيزةٍ دون انعكاساتٍ هيكلية.
وفي حرب عام 2014، التي استمرّت سبعة أسابيع، برزت مؤشّراتُ الاستنزاف بشكلٍ أوضح، مع خسائر أكبر في الاقتصاد والبنية التحتية، ومع ذلك، تمكّنت إسرائيل من العودة إلى النمو بعد أشهرٍ قليلة، وحافظت على موقعها الاستثماري، لتظلّ الأزمة ضمن حدودٍ مؤقتةٍ؛ كانت الحرب طويلةً نسبيًّا، لكنها لم تكسر قدرة الاقتصاد على امتصاص الصدمات.
حتى عملية سيف القدس عام 2021، التي استمرّت 11 يومًا، لم تخرج عن النمط نفسه، فقد سُجّلت خسائر في قطاعات السياحة والزراعة، دون أن تمسّ ثقة المؤسسات المالية الدولية، التي واصلت اعتبار إسرائيل اقتصادًا قادرًا على امتصاص الصدمات والتعافي السريع.
كلفة حروب “إسرائيل” على غزة
الحرب | المدة | الكلفة التقديرية المباشرة | الكلفة غير المباشرة | أثرها على الموازنة والدين | ملاحظات |
2009 | 22 يومًا | 2.4 مليار دولار | تأثير محدود على الاستثمار والسياحة | عجز محدود تمت تغطيته سريعًا | ركزت إسرائيل بعد الحرب على تعزيز قدراتها الدفاعية |
2012 | 8 أيام | 1.2 مليار دولار | محدود جدًا بسبب قصر المدة | لم يترك أثرًا بارزًا على الدين العام | أقصر الحروب وأقلها كلفة |
2014 | 51 يومًا | 2.5 مليار دولار | خسائر ملحوظة في السياحة وتأثر الصادرات | ارتفاع نسبي في العجز، لكن تمت معالجته تدريجيًا | أطول حرب قبل 2023، أثرت في صورة “القبة الحديدية” |
2021 | 11 يومًا | 2 مليار دولار | ركود قصير في قطاعات السياحة والخدمات | أثر متوسط، تم تجاوزه خلال أشهر قليلة | أظهر الاقتصاد الإسرائيلي قدرة على امتصاص الصدمات والعودة سريعًا إلى وضعه الطبيعي |
2023 | مستمرة منذ 7 أكتوبر 2023 (عامان حتى الآن) | 90-60 مليار دولار | انكماش استثمارات، انهيار السياحة، تراجع التكنولوجيا، خسائر في الزراعة والتجارة وقطاع البناء | عجز غير مسبوق (وصل إلى أكثر من 6% من الناتج)، الدين العام قارب 70% من الناتج، تراجع التصنيف الائتماني | أطول وأعنف حرب في تاريخ إسرائيل، ذات آثار ممتدة داخليًا وخارجيًا |
وعلى عكس الحروب السابقة، شكّلت الحرب الحالية تحوّلًا جذريًّا في المشهد الاقتصادي الإسرائيلي، إذ امتدّت المواجهة لأكثر من عامين، لتُصيب مختلف القطاعات الاقتصادية في وقتٍ واحد، من الإنفاق العسكري غير المسبوق، إلى انكماش الاستثمارات الأجنبية وهروب الرساميل، وصولًا إلى الانهيار شبه الكامل لقطاع السياحة، والتراجع في قطاع التكنولوجيا الذي يُعدّ العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي.
نتيجةً لهذه التطوّرات، ارتفع الدين العام والعجز المالي إلى مستوياتٍ غير مسبوقةٍ منذ عقود، وتزعزعت صورةُ إسرائيل كوجهةٍ آمنةٍ للاستثمار، ما أثّر سلبًا على ثقة المؤسسات المالية الدولية والأسواق العالمية في قدرة الاقتصاد على استعادة توازنه على المدى القريب.
وبالمقارنة مع الحروب السابقة، التي كانت مجرّد أزماتٍ ظرفيةٍ يمكن تجاوزها خلال أشهر، تكشف الحرب الراهنة أن إسرائيل تواجه أزمةً اقتصاديةً هيكليةً عميقة، تحمل تداعياتٍ طويلةَ الأمد، قد تُعيد رسم مكانتها الاقتصادية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
تآكل السمعة الدولية
حتى أوائل عام 2023، كانت إسرائيل وجهةً جاذبةً للمستثمرين والسياح والعلماء، ونموذجًا يُحتذى به في التكنولوجيا، ما انعكس إيجابًا على تصنيفاتها الائتمانية من وكالات الائتمان الدولية.
ومع اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بدأت هذه الصورة تتآكل، وفقدت إسرائيل جزءًا من مكانتها التي بنتها لعقودٍ باعتبارها “وادي سيليكون الشرق الأوسط”، فتَصاعدَ عدمُ اليقين السياسي وقلّص ثقةَ المستثمرين، وبدأت رؤوسُ الأموال الأجنبية بالانسحاب، ما زاد المخاطر على بيئة الأعمال، خاصةً شركاتِ التكنولوجيا الناشئة ومراكزِ البحث والتطوير.
من الناحية المالية، خفّضت ثلاثُ وكالاتٍ للتصنيف الائتماني تصنيفَ إسرائيل منذ اندلاع الحرب، مع تحذيراتٍ بخفضٍ إضافي، ما رفع كلفة الاقتراض وزاد أعباء خدمة الدين العام، وجعل الاقتصادَ يُنظَر إليه — للمرّة الأولى منذ عقود — كاقتصادٍ مثقَلٍ بالمخاطر.
وامتدّت التداعيات إلى العلاقات التجارية الدولية، حيث تصاعدت في أوروبا دعواتٌ لمراجعة الاتفاقيات التجارية مع إسرائيل، كما أعلن صندوقُ الثروة السيادي النرويجي سحبَ استثماراته من بعض الشركات الإسرائيلية، فيما تلوِّح صناديقُ أخرى بالخطوة نفسها، وتتوسّع أيضًا المقاطعةُ الأكاديمية والثقافية والرياضية والفنية.
بعد مرور عامين على الحرب على غزة، يمرّ الاقتصاد الإسرائيلي بأخطر مراحله منذ عقود، وقد توقّع صندوق النقد الدولي أن يشهد الاقتصاد الإسرائيلي صعوباتٍ خلال عام 2026، إذ تجاوزت الكلفةُ المباشرة نطاقَ العمليات العسكرية لتتحوّل إلى عبءٍ طويلٍ يضغط على مختلف القطاعات الاقتصادية والمالية، ويكشف عن أزمةٍ هيكليةٍ تطال قدرةَ إسرائيل على التعافي السريع.
وخلافًا للحروب السابقة التي كانت قصيرةً نسبيًّا وألحقت أضرارًا سرعان ما تجاوزها الاقتصاد، جاءت هذه الحرب أطولَ وأكثرَ استنزافًا للموارد، لتضع إسرائيل أمام تحدّياتٍ اقتصاديةٍ غير مسبوقة.
ومع استمرار تراجع ثقة الأسواق، تبدو الحربُ الحالية نقطةَ تحوّلٍ حاسمةً في صورة إسرائيل الاقتصادية؛ فمن دولةٍ روّجت لنفسها طويلًا كوجهةٍ آمنةٍ للاستثمار والابتكار، تحوّلت إلى اقتصادٍ يواجه شكوكًا جدّية بشأن قدرته على الاستمرار في لعب هذا الدور.
وإذا ما قارَنّا الحربَ الحالية على غزة بحرب عام 1973، يبدو أن إسرائيل اليوم تقف في وضعٍ مشابهٍ؛ فحربُ 1973 أدخلت إسرائيل في حلقةٍ مفرغةٍ امتدّت أكثر من 14 عامًا، عُرفت في التاريخ الاقتصادي والسياسي الإسرائيلي باسم “العقد الضائع”، إذ عانت خلالها من أزماتٍ اقتصاديةٍ متواصلة.
ولم تخرج إسرائيل من تلك الأزمة إلا عندما أدركت حكومتُها في عهد إسحاق شامير ثم إسحاق رابين، أنه لا سبيلَ للاستقرار الاقتصادي دون تسويةٍ سياسيةٍ مع الفلسطينيين، حتى ولو كانت شكلية، وعندها جاء مؤتمر مدريد ثم اتفاقيتا أوسلو وباريس، لتشهد لاحقًا مرحلةَ ازدهارٍ اقتصاديٍّ وانفتاحٍ دوليٍّ واسع.
أما اليوم، فكلٌّ من الحكومة الإسرائيلية والمعارضة ترفضان الدخولَ في أيّ مسارٍ تسوويٍّ جاد، ما يُعيد إسرائيل إلى دوّامة العزلة والتراجع، سواء على صعيد الاستثمارات الدولية أو علاقاتها الاقتصادية والسياسية.