“الدولرة”، حيث تُسعّر السلع والخدمات بالدولار، بينما يتقاضى معظم المواطنين دخولهم بالليرة السورية. هذا الخلل البنيوي لا يقتصر على تفاوت الأسعار، بل ينعكس على أنماط الاستهلاك، في الأسواق السورية، تُسعّر السلع بالدولار، بينما يتقاضى المواطن دخله بالليرة. هذا التناقض لا يعبر فقط عن خلل نقدي، بل يكشف عن أزمة عدالة أعمق: هل يمكن الحديث عن سوق متوازن حين تُقاس القدرة الشرائية بعملة لا يملكها معظم السكان؟ وهل ما زالت الليرة السورية تمثل أداة حقيقية للعيش، أم تحولت إلى رمز للعجز؟
مع اتساع ظاهرة الدولرة، تتشكل طبقتان اقتصاديتان متباينتان: من يملك الدولار ويستهلك بلا قيود، ومن يُحاصر بالليرة ويقايض حاجاته بالحد الأدنى. فهل باتت الدولرة أداة فرز طبقي؟ وهل يمكن للاقتصاد أن يستقر في ظل هذا الانقسام؟ وفي ظل غياب أدوات التحوط، تبرز أسئلة أكثر إلحاحًا: كيف تؤثر الدولرة على الاستهلاك المحلي؟ هل تضعف الإنتاج الوطني وتزيد الاعتماد على الاستيراد؟ وما انعكاس ذلك على الاستقرار الاجتماعي في بلد خرج من حرب طويلة ويعاني من تآكل الدخول؟ أما على مستوى السياسات النقدية، فهل ما زالت الدولة قادرة على التحكم بأدواتها؟.
هذا التقرير لا يقدم إجابات جاهزة، بل يفتح باب الأسئلة حول تبعات الدولرة طويلة الأمد، ويبحث في عمق الخلل الذي أصاب العدالة السعرية، ويستعرض كيف تحولت الليرة من عملة وطنية إلى عبء يومي، في اقتصاد يُدار بالدولار ويُستهلك بالقلق. من حيث المبدأ، لا يعتقد الخبير الاقتصادي الدكتور فادي عياش بوجود أي طرح لفكرة دولرة الاقتصاد السوري على المستوى الرسمي. ولذلك، يرى أن من المفيد استعراض مفهوم الدولرة بالعموم وآثارها المحتملة على الاقتصاد.
لا طرح رسمي للدولرة في سوريا… لكنها حاضرة بشكل مستتر
تحدث الدولرة عادة عندما تفقد عملة البلد فائدتها كوسيلة للتبادل، بسبب التضخم المفرط أو عدم الاستقرار. والسبب الرئيسي وراء الدولرة هو البحث عن الاستقرار المالي الذي لا تستطيع العملة المحلية توفيره، وذلك بسبب تأرجح قيمتها لاعتبارات اقتصادية أو سياسية.
وعادة ما يتم اللجوء إلى الدولرة في البلدان النامية ذات السلطة النقدية المركزية الضعيفة أو البيئة الاقتصادية غير المستقرة. ويمكن أن يتم اتباعها كسياسة نقدية رسمية (من خلال المراسيم التشريعية الحكومية)، أو تكون عملية أمر واقع في السوق، من خلال اعتماد أصحاب رؤوس الأموال عليها بدون وجود قرار حكومي بذلك.
ولذلك، نجد هناك نوعين لتطبيق مفهوم الدولرة، وهما: الدولرة الكاملة والدولرة الجزئية. فتكون الدولرة كاملة عندما يصدر قرار عن السلطات الرسمية باتخاذ الدولار عملة قانونية بديلة عن العملة المحلية، وبالتالي تحل العملة البديلة محل العملة المحلية بشكل رسمي وفي كافة المجالات. أما الدولرة الجزئية، فهي اعتماد العملة البديلة كالدولار في معظم المعاملات الخاصة والعامة والعقود والحسابات المصرفية، لكن مع بقاء العملة المحلية هي العملة القانونية الأساسية في البلاد.
وبحسب الدكتور فادي عياش، يمكن أن نلحظ نوعًا آخر من الدولرة غير المعلنة، وهي الحالة التي يتم التسعير فيها بالعملة المحلية، ولكنها محسوبة كقيمة على أساس سعر صرف العملة البديلة. وهذه هي حالة أسواقنا حالياً، حيث لا يتم تداول الدولار في العمليات التجارية العادية، ولكن كافة الأسعار محددة بموجب سعر الدولار في السوق. وكذلك يتم تقييم السلع المعمرة والتعاملات الآجلة بالدولار، ولو كان السداد بالليرة، ولكن وفق سعر الصرف عند الوفاء بالالتزام، ولا سيما بعد السماح بتداول وحيازة القطع الأجنبي.
ولكن، هل تعتبر الدولرة حالة إيجابية أم سلبية على مستوى الاقتصاد الوطني؟ يسأل الدكتور عياش: في الواقع، اللجوء إلى الدولرة في الاقتصاد غالبًا ما يكون تحت تأثير قوى قاهرة، ويعبّر عن وضع اقتصادي غير سليم، ولذلك لا يُنظر إلى الدولرة بارتياح، كونها حالة تفرضها الضرورة.
مزايا وعيوب الدولرة
بالعموم، يمكن إيجاد بعض المزايا في اعتماد الدولرة عند الضرورة، ومنها: حماية الأفراد والمؤسسات من مخاطر انخفاض قيمة العملة المحلية وتغيراتها، إضافة للحماية من مخاطر التضخم، ولا سيما التضخم المنفلت والجامح وضبط المضاربة على العملة المحلية وسعر الصرف، وتشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، لا سيما أن الدولرة تضمن خفض أسعار الفائدة على اعتبار أن فرق سعر الصرف لم يعد يمثل مشكلة، إضافة إلى أنه يمكن للدولرة المساعدة في دمج الاقتصاد المحلي بشكل أسهل في السوق العالمية. والنتيجة هي سوق رأسمالية أكثر استقراراً، ونهاية تدفقات رأس المال المفاجئة إلى الخارج.
أما أهم العيوب وفقاً للدكتور عياش، فهي تتعلق بمفهوم السيادة والاستقلالية. فالدولرة الكاملة تؤدي إلى فقدان الاستقلال النقدي، وخسارة رسوم صك العملة، وفقدان العملة الوطنية التي تعتبر رمزاً وطنياً حيوياً، مما يضعف الانتماء الوطني، بالإضافة إلى اتساع الانكشاف الاقتصادي وزيادة التأثر بالمتغيرات الاقتصادية الدولية، بل والارتهان المالي للخارج.
فالدولرة بحكم الأمر الواقع تشكل مصدر قلق، لا سيما في الاقتصادات النامية، لأنها قد تحد من فعالية السياسة النقدية، وتعرض القطاع المالي لمخاطر العملة، وتزيد من تعرض البلاد للصدمات الخارجية. وهذا ما تؤكده معظم تجارب الدول التي اعتمدت الدولرة سابقاً.
وأضاف الدكتور عياش: “في حالتنا السورية، لا يوجد مبرر موضوعي لاعتماد الدولرة بشكليها الرسمي الكلي أو الجزئي، ولو أنها موجودة بشكل مستتر. فما زالت معدلات التضخم ضمن الحدود التي يمكن معالجتها بأدوات اقتصادية أنجح، وكذلك ما زال الميل الشعبي لليرة السورية قائماً، رغم اهتزاز الثقة، وينظر إليها المجتمع السوري كرمز وطني”.
ويمكن للسياسة النقدية والمالية أن تعالج المشاكل الحالية بأدوات تحافظ وتصون السيادة والاستقلال الاقتصادي، وتساعد على جذب الاستثمارات، واستعادة الثقة بالنظام المصرفي، وزيادة الإنتاج والتصدير، وهو ما يعبر واقعياً عن القيمة التبادلية للعملة الوطنية.
مرجعية الدولار في التسعير: حماية لرأس المال لا بديل عنه
الصناعي وعضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق، فواز العقاد، أوضح لـ”نون بوست”، أن تحديد أسعار السلع في ظل تقلبات سعر الصرف يخضع لمرجعية أساسية لم تُشرح بشكل كافٍ للمستهلكين، وهي أن الصناعي أو المستورد يُجري حساباته بالدولار للحفاظ على رأس المال، حتى لو تعامل بالليرة السورية.
وبيّن العقاد أن تسعير البضائع يتم بناءً على سعرها في الخارج، حيث تُثبت بالدولار، وتُضاف إليها المصاريف الأخرى مثل الجمارك التي تُدفع بالدولار، وأي نفقات إضافية تُحتسب كذلك، لتخرج كلفة السلعة بالدولار. ورغم أن البيع يتم بالليرة السورية، إلا أن السعر يُقيّم بالدولار، لأن المرجعية الأساسية للتسعير هي العملة التي يتم بها الاستيراد ودفع الجمارك.
وأكد أن تقلب سعر الصرف بحد ذاته ليس المشكلة، بل تكمن المشكلة في طريقة التسعير. فعندما يكون الاستيراد والمصاريف بالدولار، فإن الكلفة تخرج بالدولار، وبالتالي فإن أي تغير في سعر الصرف ينعكس مباشرة على سعر البضائع عند بيعها، حتى لو تم البيع بالليرة السورية، لأن السعر محدد بما يعادله بالدولار. فالمستورد يسعر بالليرة، لكنه يُقيّم بالدولار، لأن رأسماله بالدولار، وسيعود للاستيراد بالدولار، ويقبض بالليرة السورية مقيمة بالدولار، إلا إذا حدثت تقلبات كبيرة في سعر الصرف.
التاجر الذي لا يسعر بالدولار خارج المنافسة
يشدد العقاد على أنه لا توجد اعتراضات من الزبائن على التسعير بالدولار، لأن الزبون معتاد منذ زمن على أن التاجر يبيع بالليرة بما يعادل السعر بالدولار. فعندما يسعر التاجر بالدولار ويحدد المقابل بالليرة، فإنه يقبض بالليرة أو بالدولار، والزبون لا يميز بين التاجر الذي يتعامل بالدولار أو بالليرة، وهذا لا يؤثر على المنافسة إطلاقاً، بل على العكس، فإن التاجر الذي يبيع بالليرة دون مرجعية الدولار يكون بعيداً عن المنافسة.
وضرب مثالاً على ذلك: إذا اشترى التاجر بضائع بالليرة السورية على سعر صرف 12 ألف ليرة للدولار، ثم انخفض السعر إلى 10 آلاف، فإنه لا يستطيع تخفيض سعر البضائع، لأن رأسماله مقيم بالليرة، وليس بالدولار، وبالتالي يتعرض لخسائر. أما التاجر الذي يسعر ويلحق الدولار، فإنه يحافظ على رأسماله، ولا يتعرض للخسائر، ويستطيع المنافسة، ويمكنه الشراء بالليرة السورية أيضاً، ولكن مقيمة بالدولار.
وأشار العقاد إلى أن هذا المنهج ينطبق على كافة المستويات، سواء تاجر الجملة أو نصف الجملة أو تاجر المفرق. ورأى أن الدولار أصبح متاحاً للجميع، وبالتالي لم تحدث فجوة بين الزبائن الذين يملكون الدولار والذين يتقاضون دخلهم بالليرة السورية، فالذي يملك الدولار يستطيع أن يشتري بالليرة، والعكس أيضاً، ولا يوجد أي ظلم اجتماعي في هذه الحالة.
وأوضح أن الظلم الاجتماعي كان يحدث عندما كان التعامل بالدولار ممنوعاً، كما كان سائداً في أيام النظام البائد، حيث كانت السلع تُسعّر بالدولار، ولكن يُمنع ذكر كلمة “دولار”، وتُمنع مرجعية الدولار، ويُعاقب التاجر بالحبس، مما كان يحرمه من استرداد رأسماله الذي استورد به بالدولار.
وأضاف أن تأمين المواد الأولية أصبح أسهل مما كان عليه في زمن النظام البائد، حيث بات كل شيء مسموحاً. وذكر أنه خلال اجتماع مع حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر الحصرية، طُلب من التجار تعليم الصناعيين كيفية احتساب الكلفة بشكل صحيح، بما يشمل المعاشات والكهرباء والإنبلاج والرواتب والنقل والمواد الأولية، وتقسيمها على الدولار لاستخراج كلفة السلعة.
وأكد العقاد أن أهم شيء بالنسبة للصناعي هو احتساب الكلفة بشكل صحيح، وعندها يستطيع أن يبيع وينافس ويصدر دون أن يتعرض للخسائر، خاصة في ظل التعامل المباشر مع مخاطر تقلبات سعر الصرف.
وشدد على أن كل تاجر يجب أن يحسب بالدولار للحفاظ على أعماله، فكل الحسابات يجب أن تُجرى بالليرة السورية، ولكن مقيمة بالدولار ومرجعيتها بالدولار. ولا يجوز أن تكون دفاتر التاجر مقسمة بين الدولار والليرة، فهذا خطأ كبير ويعرضه للخسائر. وقال: “أهم شيء أن نتعلم كيف نحسب التكاليف، ومن عرف رأسماله باع واشترى”، مستشهداً بالمثل الشامي.
الدولرة الجزئية تكرس فوارق طبقية
رغم تحرير التعامل بالدولار واستقرار سعره نسبياً خلال الفترة الأخيرة، إلا أن تأثيره على القوة الشرائية للمواطنين السوريين لا يزال واضحاً، بحسب ما أكده الخبير المصرفي أنس فيومي، مشيرًا إلى أن هذا التأثير يكاد يشبه ما كان يحدث في مراحل سابقة زمن النظام البائد، نتيجة اعتماد التجار على هامش إضافي في التسعير تحسباً لأي تقلبات مفاجئة في سعر الصرف.
وأوضح فيومي أن هذا السلوك التجاري يؤدي إلى رفع الأسعار بشكل غير مبرر، حيث يعمد بعض التجار إلى سحب الهامش عند انخفاض سعر الصرف، ثم إضافته مجدداً، ما يفاقم الأعباء على المواطنين الذين يتقاضون أجورهم بالليرة السورية، وليس بالدولار.
وأضاف أن إغراق الأسواق بالبضائع المستوردة، رغم ضعف جودتها في كثير من الأحيان، شكّل تهديداً حقيقياً للمنتج المحلي، الذي يعاني أصلاً من ارتفاع تكاليف التشغيل، وأجور اليد العاملة، وأسعار الطاقة والنقل، ما يجعل استمرار التجار في تقليد رفع الأسعار عاملًا مباشراً في ركود التجارة المحلية.
وحذّر فيومي من أن الدولرة الجزئية في التسعير تكرس فوارق طبقية كبيرة، إذ أن الفئة التي تعتمد على تحويلات المغتربين أو تتقاضى بالدولار تبقى أقلية، في حين أن الغالبية العظمى من المواطنين تعتمد على دخل بالليرة السورية، التي وصفها بأنها رمز سيادي يجب الحفاظ عليه.
وأشار إلى أن سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تتبعها الحكومة السورية، وربط المصارف المحلية بالمصارف العالمية، إلى جانب إصدار الليرة السورية الجديدة، كلها خطوات من شأنها تعزيز مكانة الليرة في سوق الصرف، وخلق حالة من التفاؤل في تحرير الإيداعات المصرفية وزيادة التداول، ما قد يسهم في نهضة اقتصادية تدريجية مع استقرار الأوضاع السياسية والأمنية.
وختم فيومي بالتأكيد على ضرورة أن يكون التعامل بالدولار محصوراً بالعمليات الخارجية وتحت إشراف الجهات المختصة، بينما يجب أن يكون التسعير الداخلي بالليرة السورية حصراً، دون العودة إلى تشريعات التجريم، بل عبر سياسات نقدية واضحة تعيد لليرة مكانتها وتخفف العبء عن المواطنين.
في ختام هذا التقرير، تتضح ملامح أزمة مركبة لا تقف عند حدود الاقتصاد، فالدولرة، وإن لم تكن خياراً رسمياً معلناً، باتت واقعاً يفرض منطقه على الأسواق والمعيشة. كما إن استعادة التوازن لا تبدأ من ضبط سعر الصرف فحسب، بل من إعادة الاعتبار لليرة السورية كأداة للعيش، لا مجرد رمز. فالإصلاح الحقيقي لا يُقاس بالدولار، بل يُبنى على الثقة، وعلى سياسات نقدية تضع المواطن في قلب المعادلة، لا على هامشها. وفي بلد خرج من حرب طويلة، لا بد أن تكون العدالة السعرية جزءاً من العدالة الوطنية، وإلا فإن الاقتصاد سيبقى يُدار بالقلق، ويُستهلك بالانقسام.